الكوليرا … سُلالة قاتلة تتجول في ولايتين سودانيتين
عاين- 31 مايو 2025
ضربت سُلالة من الكوليرا تعد الأخطر من نوعها العاصمة السودانية مع تقارير عن وفاة أكثر من ألف شخص في غضون خمسة أشهر في جميع أنحاء الولاية وإصابة نحو 7 آلاف شخص.
وتعرض أكثر من 155 مستشفى خاصاً وحكومياً بالعاصمة السودانية إلى التدمير والنهب خلال النزاع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع طوال العامين الماضيين، ومن دون الحصول على تمويل يتجاوز 1.5 مليار دولار يقول عاملون في القطاع الصحي إن استعادة المستشفيات قد تستغرق وقتا طويلا.
واستقبلت وزارة الصحة السودانية الجمعة 30 مايو الجاري قرابة ثلاثة مليون جرعة للوقاية من الكوليرا بمطار مدينة بورتسودان شرق البلاد ستوزع على الولايات مع التركيز على العاصمة السودانية ومدينة الرهد بولاية شمال كردفان وهما أكثر منطقتين تضررتا من الوباء- وفق بيان رسمي صادر من المركز الحكومي لرصد الوباء.
وأغلقت وحدات الصحة في العاصمة الخرطوم الأربعاء 28 مايو 2025 مركز عزل مصابي الكوليرا في “مستشفى النو” بمدينة أم درمان التي يسيطر عليها الجيش السوداني خلال الحرب جراء انتشار الوباء في محيط المرفق الصحي والأحياء المجاورة كما شنت قوات الأمن حملة اعتقالات بحق متطوعين نشروا صورا على شبكات التواصل الاجتماعي لمرضى يفترشون الأرض للحصول على العلاج جراء تكدس مركز العزل بالمصابين.
ملاحقة المتطوعين
من بين من تعرضوا للتحقيقات الأمنية اثنين من أعضاء لجان مقاومة الحارة الثامنة بأم درمان حيث تحول العشرات من أعضاء هذه اللجنة إلى متطوعين في مستشفى النو لمساعدة مرضى الكوليرا للحصول على العلاج والرعاية.
نجت عائلة مأمون بأعجوبة من الآثار الوخيمة للكوليرا عندما قرر تقديم الإسعافات الأولية لطفليه وزوجته بالمنزل بشراء المحلول الوريدي فورا والاستعانة بعامل تمريض عمل على تقديم الرعاية بالمنزل.
ويقول مأمون لـ(عاين): “أعيش تجربة قاسية ومريرة مع الوباء الذي فتك بجميع أفراد عائلتي التي تشمل زوجتي واثنين من الأطفال مع عدم وجود أي مساعدات منتظمة لشراء الطعام والأدوية”.
وكان وزير الصحة السوداني، هيثم إبراهيم، أشار إلى أن غالبية المصابين جاءوا من منطقة الصالحة التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع حتى 20 مايو 2025 ثم تفشى الوباء وسط المواطنين في أم درمان.
ويقول متطوع في غرفة الطوارئ شمال مدينة أم درمان لـ(عاين): إن “المواطنين يعتمدون على أنفسهم في التعامل مع الوباء سواء بعلاج المصابين نظرا للجهود الحكومية المتواضعة ونقص مياه الشرب النظيفة بالتزامن مع فصل الصيف حيث ترتفع درجة الحرارة إلى 47 درجة مئوية في أغلب فترات اليوم”.
وتابع: “انهار النظام الصحي، ومركز العزل في مستشفى النو جراء تزايد عدد المصابين، وأغلقت وزارة الصحة المركز، ونقلته إلى مستشفى أمبدة المتهالك، والذي يفتقر لأبسط الخدمات، ويواجه مشكلة الصرف الصحي”.
نقص المحاليل الوريدية
بينما عزت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان تفاقم الوباء إلى ضعف التدابير اللازمة ونقص المحاليل الوريدية والكادر الطبي، إلى جانب انعدام المياه النظيفة ووسائل التعقيم، مما ساهم بشكل كبير في تفاقم الأزمة الصحية.
وذكرت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء “هيئة نقابية مستقلة” أن نسبة الوفيات ارتفعت في ولايات الخرطوم وشمال كردفان ونهر النيل، ودعت النقابة وزارة الصحة السودانية إلى إعلان حالة طوارئ صحية فورية.
التضييق الأمني على الأنشطة الإنسانية يهدد بانتشار الوباء
متطوعة
ونقلت معزة عثمان (اسم مستعار) وهي متطوعة بغرفة طوارئ بمدينة الخرطوم لـ(عاين) تسجيل 2400 إصابة بالكوليرا في محليتي جبل أولياء والخرطوم خلال اليومين الماضيين ووفاة 75 شخصا مع انهيار البنية التحتية الصحية وعجز المراكز الصحية الصغيرة بالأحياء السكنية في استقبال مصابي الكوليرا.
وتضيف: “فقدنا أشخاصا كانوا بيننا طوال الحرب في الخرطوم… في محيطي توفي سبعة أشخاص أعرفهم ونحن نشعر بالحزن وأعتقد أن العمل هو السبيل الوحيد لإيقاف الموت”.

وتقول عثمان: إن “رغم سيطرة القوات المسلحة على العاصمة السودانية وانخفاض التهديدات الأمنية التي كانت تشكلها قوات الدعم السريع، مع ذلك لا توجد مستشفيات، ومن جملة 155 مستشفى خاصاً وحكومياً عادت خمسة مستشفيات فقط إلى الخدمة بشكل محدود لمقابلة احتياجات ثلاثة ملايين شخص على مستوى العاصمة السودانية”.
وتضيف: “مع التفشي المتسارع لوباء الكوليرا لا قدرة المستشفيات العاملة في استقبال المصابين؛ لأن هناك نقصا كبيرا في الكوادر الطبية والمحاليل الوريدية وطرق التعامل مع المصابين في غاية الصعوبة لانعدام المعينات المطلوبة”.
الحكومة: انحسر الوباء
وإزاء الانتقادات التي تلاحق الحكومة قال وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم إن الوكالات الإنسانية والمنظمات وعدت بضخ مليوني يورو لمكافحة الكوليرا بالعاصمة السودانية مشيرا إلى انخفاض وتيرة الوباء خلال اليومين الماضيين.
فيما تقول سوسن عبد الكريم العاملة في المجال الإنساني لـ(عاين): إن “الكوليرا في العاصمة السودانية تصنف ضمن الأخطر على مستوى العالم لسرعة تدهور صحة المرضى”. وتشير إلى أن الوضع يتفاقم نتيجة انهيار البنية التحتية للقطاع الصحي على مدار 25 شهرا من الحرب بين الجيش وقوات حميدتي وزادت بالقول: “وقف العالم يتفرج على الكارثة الإنسانية والصحية؛ لأنه لا يثق عما إذا كانت المساعدات والأدوية ستصل إلى المرضى والمصابين”.
حُرم 700 ألف مواطن في العاصمة من المياه بسبب قطوعات الكهرباء نتيجة هجوم المسيرات
عاملة إنسانية
وأضافت سوسن عبد الكريم: “الطائرات المسيرة قضت على آمال المواطنين في الحصول على خدمات الكهرباء والمياه، ولو بصورة جزئية خلال مايو 2025 دمرت المسيرات أربع محطات للكهرباء في أم درمان، وأوقفت الإمداد وتأثرت محطتان رئيسيتان للمياه وحُرم قرابة 700 ألف شخص من المياه النظيفة في أم درمان كانت هذه البيئة مواتية لتفشي الكوليرا مع تصاعد الإصابة بالملاريا أيضا”.
وترى سوسن عبد الكريم، أن الجهود الحكومية لمكافحة الكوليرا متواضعة، وحاولت السلطات إنكار تفشي الوباء، وتمارس بشكل يومي التضييق الأمني على النشطاء وأعضاء الطوارئ والمتطوعين في العاصمة السودانية.
وتابعت: “حدث ارتداد كبير من قبل الحكومة المركزية في بورتسودان في التعامل مع الوباء بإعلاء النظرة الأمنية والسياسية على جهود المكافحة وإنقاذ آلاف المصابين”.
الكوليرا في بيئة الجوع
وتقول وكالة الأمم المتحدة المعنية بالأطفال “اليونيسف” إن الكوليرا تتفشى بالعاصمة السودانية في بيئة يعاني فيها قرابة 307 آلاف طفل من سوء التغذية الحاد بينهم 26 ألف طفل مصاب بسوء التغذية الحاد الوخيم، وحذرت من تعرض مليون طفل إلى خطر الكوليرا إلى جانب وصول محليتي جبل أولياء والخرطوم إلى خطر المجاعة.
بينما يقول نادر معروف وهو طبيب عمومي يعمل في مركز صحي بالعاصمة السودانية لـ(عاين): إن “واحدة من الأسباب الرئيسية لزيادة وفيات الكوليرا هي أن غالبية السكان يعيشون في بيئة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، ويتعاملون مع مياه الشرب بنوع من الاقتصاد.. لأنهم لا يثقون في توفرها على مدار اليوم”.
40 ألف مواطن حُوصروا في الصالحة شربوا مياها ملوثة
طبيب
وأضاف معروف: “في منطقة الصالحة جنوبي أم درمان التي حاصرتها قوات الدعم السريع طوال مارس وأبريل ومايو هذا العام اضطر المواطنون نتيجة هذا الواقع القسري لحفر الآبار بالقرب من المنازل، وشربوا المياه المختلطة بالصرف الصحي دون أدنى وقاية؛ لأنهم لم يجدوا أي حل”.
ويضيف معروف: “هذا الواقع المأساوي في الصالحة أدى إلى ظهور فاشيات خطيرة من الكوليرا ومع انقطاع المياه في أحياء أم درمان؛ بسبب استهداف أربع محطات رئيسية بالطائرات المسيرة توقف إمدادات المياه النظيفة عن أكثر من نصف مليون شخص ما جعلهم عرضة للإصابة بالكوليرا نتيجة انتقال الأشخاص من موقع إلى آخر بحثا عن حياة آمنة انتقل الوباء أيضا”.
جهود حكومية غير كافية
ويقول الطبيب العمومي نادر معروف: أن “من بين عشرة أشخاص بالعاصمة السودانية هناك أربعة أشخاص معرضون للإصابة بالكوليرا، وهذه النسبة قد تتصاعد إذا لم تسمح الحكومة للمنظمات الإنسانية والمتطوعين وغرف الطوارئ للعمل والتحرك بحرية للوصول إلى المواطنين”.
ويوضح معروف أن إنشاء وزارة الصحة سبع عيادات ميدانية ومراكز عزل بمحليات العاصمة غير كافية لمقابلة الزيادة المتوالية لمصابي الكوليرا مشددا على ضرورة مضاعفة الجهود الحكومية في توفير مصادر مياه آمنة ومراقبة الأسواق والمطاعم على مدار الساعة.
ويردف معروف قائلا: “جميع الوفيات بالكوليرا وصلوا إلى المستشفيات وهم في حالة إغماء كامل بسبب فقدان كميات كبيرة من السوائل نتيجة الإسهال والقيء، ولو حصلوا على محلول الملح والسكر في المنزل لما وصلوا إلى هذه الحالة بالمقابل لا يمكن إلقاء اللوم على المواطنين؛ لأنهم يعيشون في بيئة تفتقر حتى للملح والسكر والماء نتيجة الحرب وتدهور الوضع المعيشي”.