هل يطرق التصعيد الإثيوبي الإريتري حدود السودان؟
عاين- 31 ديسمبر 2025
يأتي التصعيد الكلامي بين إثيوبيا وإريتريا في سياق إقليمي مضطرب، أعاد إلى الواجهة أحد أقدم الملفات غير المحسومة في القرن الأفريقي: مسألة المنفذ البحري الإثيوبي وحدود ما بعد الاستقلال الإريتري. فخلال الأسابيع الأخيرة، تبادل مسؤولون سياسيون وعسكريون من الجانبين تصريحات وتهديدات غير مسبوقة منذ توقيع اتفاق السلام عام 2018، ما أعاد المخاوف من انزلاق المنطقة إلى مواجهة جديدة، ولو بصيغ غير تقليدية.
تتمحور الأزمة الراهنة حول إصرار إثيوبيا، الدولة الحبيسة منذ استقلال إريتريا عام 1993، على اعتبار الوصول إلى البحر الأحمر مسألة “وجودية”. وقد عبّر رئيس الوزراء آبي أحمد أكثر من مرة عن هذا التصور، وذهب مسؤولون عسكريون ودبلوماسيون أبعد من ذلك، عبر التصريح العلني بأن ميناء عصب الإريتري “ثروة إثيوبية” ينبغي استعادتها، حتى بالقوة. هذا الخطاب مثّل انتقالًا من التلميح السياسي إلى الإعلان المباشر عن نوايا جيوسياسية، وأُرفق بتعبئة إعلامية وشعبية داخل إثيوبيا، واستعراضات عسكرية، ورسائل موجهة للداخل والخارج على حد سواء.
في المقابل، قابلت إريتريا هذه التصريحات برفض قاطع، واعتبرتها تعبيرًا عن نزعة توسعية خطيرة ومحاولة لإعادة فتح قضايا حُسمت قانونيًا وسياسيًا منذ عقود. ورغم أن الرد الإريتري الرسمي جاء أكثر تحفظًا من حيث الشكل، إلا أنه حمل نبرة تحذيرية واضحة، بلغت حد التلويح بعواقب كارثية في حال تجاوز ما وصفته أسمرا بـ”الخط الأحمر”. هذا التباين في الأسلوب بين خطاب إثيوبي صاخب ورد إريتري محسوب لا يعكس بالضرورة تفاوتًا في الجدية، بل اختلافًا في مقاربة إدارة الصراع.
تاريخيًا، لا يمكن فصل التوتر الحالي عن جذوره العميقة. فالعلاقة بين البلدين تشكّلت عبر مسار طويل من الصراع، بدأ بالاستعمار الإيطالي، ثم الفيدرالية القسرية مع إثيوبيا، وصولًا إلى حرب الاستقلال التي انتهت عام 1993، ثم الحرب الحدودية الدامية بين 1998 و2000. ورغم توقيع اتفاق سلام، ظلّت الملفات الأساسية، وفي مقدمتها الحدود، والموانئ، وتوازن القوة، حاضرة كعوامل كامنة قابلة للاشتعال. وقد أعاد التحالف المؤقت بين أسمرا وأديس أبابا خلال حرب تيغراي خلط الأوراق، قبل أن تعود الشكوك المتبادلة إلى الواجهة مجددًا.
على الأرض، لا توجد حتى الآن مؤشرات واضحة على حشود عسكرية واسعة أو تحركات مباشرة على الحدود، غير أن الطرفين يبعثان بإشارات تعبئة واستعداد. إثيوبيا كثّفت خطاب الجاهزية العسكرية، ووسائل إعلامها لعبت دورًا تعبويًا واضحًا، فيما تعتمد إريتريا، بحكم طبيعة نظامها، على الجاهزية المستمرة عبر الخدمة العسكرية الإلزامية والضبط الأمني الداخلي. هذا الوضع يخلق بيئة قابلة لسوء التقدير، حيث قد يقود التصعيد اللفظي والتعبئة النفسية إلى خطوات يصعب احتواؤها لاحقًا.
السودان عرضة للتداعيات
في قلب هذا المشهد يقف السودان، المنهك بحربه الداخلية، بوصفه إحدى الدول الأكثر عرضة لتداعيات أي تصعيد إقليمي. فالتوتر الإثيوبي–الإريتري لا يجري في فراغ، بل في محيط هشّ تتقاطع فيه ملفات البحر الأحمر، وسد النهضة، والتحالفات الدولية المتغيرة، وتراجع الدولة الوطنية في أكثر من بلد. يجعل هذا السياق من السودان ساحة محتملة للارتدادات، سواء عبر اللاجئين، أو التهديدات الأمنية، أو إعادة توظيف الجغرافيا في صراعات لا يملك أدوات التأثير فيها.
أشار الباحث في الشؤون الأفريقية والمسؤول السابق في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأمريكي، كاميرون هودسون، إلى أن الولايات المتحدة تتابع باهتمام بالغ المخاطر المحتملة لتصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، خاصة في المدى القريب. وصدرت عدة تصريحات عن وزير الخارجية ماركو روبيو، كما أجريت عدة اتصالات مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في سياق رصد التحركات العدوانية المحتملة، لا سيما فيما يتعلق بطموحات إثيوبيا للحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر.

وأوضح هودسون في حديث لـ(عاين): “أن الولايات المتحدة لم تتخذ خطوات مباشرة للوساطة حتى الآن، لكنها تراقب تصاعد الخطاب العدائي الإقليمي الصادر عن كل من مصر وتركيا تجاه إثيوبيا، محذرًا من أن سوء التقدير قد يؤدي إلى تصعيد غير مقصود، مع التأكيد على أن هذا الخطر يظل قائمًا بقوة في ظل استمرار التسليح والتحركات الهجومية لبعض الأطراف الإقليمية مثل السعودية والإمارات وإيران في البحر الأحمر”.
القلق الغربي لا يتركز على إمكانية استخدام السودان كقاعدة مباشرة للصراع، بقدر ما ينصب على خطر تحويل البلاد إلى “دولة تابعة” لقوى إقليمية أو دولية، ما يتيح نفوذًا خبيثًا داخل منطقة البحر الأحمر
كميرون هيدسون
فيما يخص استخدام الأراضي السودانية، يرى هودسون أن القلق الغربي لا يتركز على إمكانية استخدام السودان كقاعدة مباشرة للصراع، بقدر ما ينصب على خطر تحويل البلاد إلى “دولة تابعة” لقوى إقليمية أو دولية، ما يتيح نفوذًا خبيثًا داخل منطقة البحر الأحمر. ويعد هذا الخطر الاستراتيجي أكثر أهمية من احتمال أن تُستخدم الأراضي السودانية كمنطقة تموضع للقوات الإثيوبية أو الإريترية.
كما أشار هودسون، إلى أن انهيار مؤسسات الدولة في السودان يقلل من الكلفة السياسية لأي تدخل إقليمي أو خارجي، ويزيد من هشاشة الاستقرار، لاسيما مع وجود فاعلين مسلحين بأسلحة حديثة وتصعيد خطاب عدائي من قادة الإقليم والدول الكبرى. ويبرز من ذلك أهمية مراقبة أي تحركات قد تؤدي إلى سوء تقدير كارثي في المنطقة.
بالنظر إلى السيناريوهات المتوقعة خلال 12–24 شهرًا القادمة، يرى هودسون أن الاحتمالات الأكثر واقعية تتمثل في استمرار التوتر بين إثيوبيا وإريتريا من دون صراع مباشر، وزيادة النفوذ الإقليمي في السودان، وتصاعد التسلح والخطاب العدائي، ما يجعل الأمن الإقليمي رهين الحذر والمراقبة الدقيقة. وتستند الأولويات الغربية على منع أي مواجهة عسكرية غير مقصودة، والحفاظ على قدرة السودان على تفادي الانزلاق إلى صراع مباشر، مع متابعة مستمرة للتطورات في البحر الأحمر.
الحرب بين البلدين: واردة
“التوتر الحالي بين إثيوبيا وإريتريا يأتي في لحظة إقليمية حرجة، حيث يواجه القرن الإفريقي إشكاليات وتداعيات معقدة على المستوى السياسي والأمني”. يقول المحلل السياسي والباحث في الشؤون الأفريقية، محمد تورشين. ويتابع: أن “احتمالية اندلاع الحرب بين البلدين واردة بدرجة كبيرة، لا سيما في ظل موجة التحولات الإقليمية المستمرة، التي قد تعقد الأوضاع أكثر بين إثيوبيا وإريتريا”.
ويضيف في حديثه لـ(عاين): “أن تصاعد الخطاب بين البلدين ليس تكتيكيًا فحسب، بل ينبع من توجهات حقيقية ورغبة كل طرف في معالجة الخلافات بالقوة العسكرية. ويشير إلى اتهامات متبادلة بين الطرفين: إثيوبيا تتهم إريتريا بدعم فصيل منشق من جبهة تحرير تجاري، بينما تتهم إريتريا إثيوبيا باحتضان فصائل مسلحة وسياسيين إريتريين. هذه الديناميكيات، حسب تورشين، تجعل الاحتمالات العسكرية قائمة بشكل ملموس.
أي مواجهة مسلحة، حتى وإن كانت محدودة، ستكون سلبية على الأمن والاستقرار الداخلي للسودان
باحث في الشأن الأفريقي
فيما يخص السودان، يوضح تورشين أن أي مواجهة مسلحة، حتى وإن كانت محدودة، ستكون سلبية على الأمن والاستقرار الداخلي للسودان. فمن المتوقع أن تؤدي إلى تدفق اللاجئين والنازحين، ما يثقل كاهل الحكومة السودانية اقتصاديًا وصحيًا وتعليميًا، فضلاً عن خلق تهديدات أمنية محتملة، بما في ذلك تسلل عناصر متطرفة أو إرهابية، أو تهريب الأسلحة والذخائر عبر الحدود الشرقية. كما يشير إلى أن قوات الدعم السريع قد تستغل هذه الظروف لتوسيع نفوذها أو تسلل عناصر عبر الحدود.
ويشير تورشين أيضًا إلى أن ملفات البحر الأحمر وسد النهضة والتحالفات الجديدة في القرن الإفريقي تشكل دوافع إضافية لتصعيد الموقف. فإثيوبيا تعطي أولوية للوصول إلى منفذ بحري يحقق مصالحها الاستراتيجية، ما يجعل اندفاعها نحو المواجهة المسلحة محتملًا في بعض المراحل. كما أن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال كدولة مستقلة يزيد من تعقيد المشهد، ويشير إلى تحولات استراتيجية حقيقية في التحالفات الإقليمية قد تؤثر على السودان بشكل مباشر.
ويخلص تورشين، إلى أن السودان، بوصفه الحلقة الأضعف في هذه اللحظة الإقليمية، يواجه خطر الانزلاق إلى دائرة الصراع، وهو ما يطرح تحديات كبيرة للأمن الحدودي والاستقرار الداخلي، ويجعل خيار “تحييد السودان” أقل واقعية في ظل الوضع الراهن.
السودان: فراغ أمني
“إرتريا تنظر إلى السودان الحالي ليس فقط كدولة مجاورة، بل كـ«فراغ أمني قابل للتوظيف، يمكن استخدامه لإعادة الضبط الأمني الوقائي إذا ما تدهورت علاقاتها مع إثيوبيا”. يرى المحلل السياسي والباحث في شؤون القرن الأفريقي، خالد محمد طه. ويقول في مقابلة مع (عاين): أن “التفكير الإرتري يقوم على ثلاث ركائز رئيسية وهي منع تطويق إريتريا استراتيجيًا، نقل التهديد خارج حدودها، واستخدام الفضاءات الهشة في الجوار كخطوط عازلة غير رسمية”.
طه ينوه إلى أن السودان، وبسبب حربه الداخلية وتفكك مؤسساته وتعدد الفاعلين المسلحين، أصبح فراغًا أمنيًا قابلًا للتأثير وليس مجرد ساحة محايدة.
الدور الإرتري في السودان لن يكون بالضرورة عسكريًا مباشرًا، وإنما من خلال مراقبة حركة الفاعلين المسلحين في شرق البلاد، وبناء نفوذ مع قوى محلية أو عابرة للحدود
باحث في شؤون القرن الأفريقي
ويتابع: “الدور الإرتري في السودان لن يكون بالضرورة عسكريًا مباشرًا، وإنما من خلال مراقبة حركة الفاعلين المسلحين في شرق البلاد، وبناء نفوذ مع قوى محلية أو عابرة للحدود، واستخدام الشرق السوداني كعمق أمني احتياطي أو مساحة إنذار مبكر”. ويزيد طه: “إرتريا لا ترى السودان ساحة حرب محتملة، بل ساحة لإدارة المخاطر المحتملة”.
وحول التصعيد الإثيوبي–الإرتري، يشير طه، إلى تصريحات إثيوبيا التي اعتبرت السماح لإريتريا بالاستقلال خطأ تاريخيًا، وضرورة حصول إثيوبيا على منفذ بحري ولو بالقوة لا يمكن فهمه في إطار العلاقات الثنائية فقط؛ بل هو تحول في العقيدة الجيوسياسية الإثيوبية، يتجاوز أسمرا ليشمل البحر الأحمر كمجال نفوذ والقرن الأفريقي كفضاء لإعادة الترتيب، وموانئ المنطقة كأدوات قوة لا كقنوات تجارة فقط. وهذا يأتي في سياق صعود الصراع الدولي على الموانئ والسباق بين الصين والخليج والغرب، وهشاشة الدول المحيطة مثل السودان والصومال واليمن.

طه يشير أيضا إلى أن السودان أصبح الغائب الأكبر عن معادلة البحر الأحمر، مشيرًا إلى أن غيابه لا يعني تحييده، بل تحويله إلى مساحة تُحتسب ولا تُستشار، وهو أخطر أشكال الغياب في السياسة الدولية.
ويقول: “أي صراع جديد بين إثيوبيا وإريتريا، مباشر أو غير مباشر، لن يكون حربًا تقليدية، بل صراعًا منخفض الحدة متعدد الساحات، حيث ستعمل إريتريا على تعزيز دفاعها الذاتي دون فتح جبهة مكلفة، وتوسيع هامشها الإقليمي غير المباشر، والاستفادة من هشاشة الجوار لتقليل الضغط المباشر عليها”.
وعن انعكاس ذلك على السودان، يشير خالد طه، إلى أن شرق البلاد سيكون منطقة ارتدادات، لا مركز صراع، وقد يشهد زيادة في حركة السلاح والنشاط الاستخباراتي، ومحاولات ضبط القوى المحلية لمنع استخدامها ضد إريتريا، بينما الوسط السوداني قد يتحول إلى عمق خلفي للفوضى أو ممر لوجستي غير مباشر، ما يضاعف كلفة الحرب على المنطقة، دون أن تكون أسمرا الأكثر تضررًا.
وينوه طه، إلى إن السودان، إذا استمر في موقع الدولة الغائبة، فلن يكون محايدًا، بل ساحة تأثير غير معلنة تُستَخدم ثم تُنسى، وهو أخطر موقع يمكن أن تشغله أي دولة في منطق السياسة الدولية.























