في اليوم العالمي لحقوق الإنسان.. المدنيون بلا حماية في حرب السودان
عاين- 10 ديسمبر 2025
يصادف العاشر من ديسمبر اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ما يمثل مناسبة لتسليط الضوء على مأساة المدنيين في السودان الذين يعيشون تحت وطأة حرب مستمرة منذ أبريل 2023.
في الحرب السودانية المستمرة تعد الانتهكات ضد المدنيين هي السمة الأبرز إذ يتعرض المدنيون في السودان لانتهاكات جسيمة على يد طرفي النزاع. وتتهم قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم واسعة النطاق تشمل القتل، العنف الجنسي، إلى جانب النهب المنهجي للممتلكات وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، ما فاقم الأزمة الإنسانية والمجاعة.
في المقابل، يُتهم الجيش السوداني بشن غارات جوية مكثفة على مناطق مدنية مأهولة بالسكان والأسواق، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى.
وعلى الرغم من تصاعد الانتهاكات، منذ بدء الحرب لا توجد آلية فعّالة لحماية المدنيين في السودان، إذ تعجز المؤسسات المحلية والدولية عن فرض الرقابة أو المساءلة بسبب تعدد الأطراف المتحاربة، الانقسامات السياسية، والقيود على التدخل المباشر، مما يترك المدنيين عرضة للهجمات والعنف بلا حماية حقيقية.
المحامية والباحثة في قضايا العدالة وحقوق الإنسان، لينة مروان تقول لـ(عاين): إن “غياب آلية ضغط محلية أو دولية فعّالة لحماية المدنيين في السودان يعود إلى تداخل عوامل سياسية وقانونية تجعل أي تدخل مباشر بالغ الصعوبة”. وتوضح، أن طبيعة الصراع نفسه، بكونه صراعًا أهليًا داخليًا متعدد الأطراف وبخطوط تماس متغيرة داخل المدن، تجعل المؤسسات الدولية عاجزة عن تحديد طرف واحد يمكن إلزامه بالمسؤولية أو محاسبته. كما تجعل هذه الطبيعة المتحركة أي انتشار لقوات حفظ سلام عملية معقدة ومكلفة وغير مضمونة النتائج.
تضارب مصالح القوى الكبرى وبعض الأطراف الإقليمية، أدى إلى غياب توافق داخل مجلس الأمن الدولي بشأن السودان
المحامية والباحثة الحقوقية، لينة مروان
وتضيف: أن “الانقسام الدولي حول توصيف الحرب وحول الجهة التي يجب الضغط عليها، بالإضافة إلى تضارب مصالح القوى الكبرى وبعض الأطراف الإقليمية، أدى إلى غياب توافق داخل مجلس الأمن الدولي يمكن أن يمنح الشرعية لأي آلية حماية ذات فاعلية”.
وفي المقابل، تستمر الأطراف السودانية في توظيف خطاب السيادة لرفض أي تدخل أجنبي مباشر، وهو ما يقيد المجتمع الدولي ويفرض عليه الاكتفاء بمسارات الضغط السياسي والعقوبات ودعم الوساطات، بدلاً من التدخل المباشر. وترى أن هذا الخيار يعكس ترددًا دوليًا واضحًا نابعًا من الخشية من إطالة أمد الحرب وتعقيد المشهد أكثر.
أما محليًا، فتشير لينة إلى أن انهيار مؤسسات الدولة وتشتت القوى المدنية ونزوح قطاعات واسعة من السكان، كلها عوامل حرمت المدنيين من وجود قوة داخلية قادرة على فرض حماية أو خلق ضغط فعلي. وتقول إن نتيجة هذه العوامل مجتمعة أن المدنيين ظلّوا بلا آلية حماية حقيقية، بينما اكتفى المجتمع الدولي بأدوات ضغط سياسية محدودة لا تنعكس على واقعهم اليومي.
إضعاف ممنهج
وبشأن العقبات التي تواجه المجتمع المدني في المطالبة بالمساءلة، توضح أن المجتمع المدني السوداني تعرض لإضعاف ممنهج منذ اندلاع الحرب، من خلال تشتيت رسائله وتفكيك هياكله وشبكات عمله، ما أدى إلى فقدان القدرة على العمل الجماعي المنسق. كما تسبب الاستقطاب السياسي الحاد في جرّ فاعليه إلى معارك جانبية وانقسامات داخلية، أخرجتهم تدريجيًا من مهامهم الأساسية في الرصد والتوثيق والدعوة للعدالة الانتقالية والمحاسبة.
وتلفت المحامية الحقوقية إلى أن هذا الضعف ليس نتاج الحرب فقط، بل هو نتيجة تراكمات هيكلية أعمق، بينها الاعتماد شبه الكامل على التمويل الخارجي، وضعف الاستقلالية المؤسسية، والتدخلات السياسية المزمنة، إضافة إلى غياب بيئة قانونية حاضنة، وانعدام الاستمرارية في البرامج، وتركيز العمل في المدن الكبرى دون قاعدة اجتماعية واسعة.
وترى أن هذه العوامل جعلت المجتمع المدني هشًا أمام اختبار كبير مثل الحرب الراهنة. وتؤكد أن تجاوز هذه العقبات يتطلب مقاربة شاملة تعيد بناء البنية التحتية المدنية نفسها، بدلاً من التركيز على آثار الحرب وحدها.
وعن كيفية تعزيز صوت المدنيين وضمان حماية حقوقهم، تقول لينة إن الخطوة الأولى تبدأ بإعادة بناء وتنسيق الجهود المدنية المتبعثرة، وتجاوز التشظي عبر تشكيل جبهة مدنية أكثر تماسكًا ووضوحًا في رسائلها. وتشدد على أهمية التوثيق المنهجي للانتهاكات واستخدامه كأداة ضغط على الآليات الدولية، إلى جانب توسيع الشراكات مع المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية.
تنظيم الضحايا
كما ترى أن تنظيم الضحايا والمتضررين أنفسهم في مجموعات أو شبكات قوية قادر على تحويل معاناتهم إلى مطالب واضحة يصعب تجاهلها، ويضعهم في موقع مركزي داخل خطاب العدالة. وتؤكد أن الإعلام الرقمي يلعب دورًا محوريًا في تضخيم صوت المدنيين، خصوصًا في ظل القيود المفروضة على الحركة والوصول داخل السودان.
وتشدد لينة على أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون مسارًا أساسيًا ينادي به المدنيون والضحايا، باعتبارها الإطار الذي يعيد الاعتبار لهم، ويضمن الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار وحفظ الذاكرة.
وترى أن تبني القوى المدنية لخطاب واضح حول العدالة الانتقالية يسهم في خلق إجماع مجتمعي على ضرورة معالجة جذور العنف، ويعزز قدرة الضحايا على الضغط حتى لا تُتجاوز معاناتهم في أي تسويات سياسية أو اتفاقات سلام مقبلة.
هشاشة حقوقية
من جهتها أكدت المحامية المتخصصة في القانون الدولي الإنساني، ليندا بوري، الحاجة الملحة لتقييم قدرة النظام الدولي على حماية المدنيين في السودان في ظل تصاعد الانتهاكات.
وقالت في مقابلة مع (عاين) إن السودان طرف في عدد من المعاهدات الدولية الأساسية الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، واتفاقية حقوق الطفل (1989)، إلى جانب معاهدات إقليمية ودولية أخرى. وخلال الفترة الانتقالية، حقّق السودان تقدمًا في تعزيز حماية حقوق الإنسان، صادق خلالها على اتفاقية مناهضة التعذيب والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
لكن ليندا أوضحت أن هذه المكاسب تآكلت بعد انقلاب أكتوبر 2021 واندلاع النزاع المسلّح في أبريل 2023، ما كشف هشاشة وضع حقوق الإنسان في البلاد. ومع دخول النزاع شهره الثاني والثلاثين، نزح ملايين السودانيين داخليًا أو اضطروا للجوء خارج البلاد، وتعرّض كثير منهم للانتهاكات المتكررة.
وأشارت إلى أن بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة وثّقت ارتكاب الطرفين المتحاربين انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، تشمل القتل والإبادة والعنف الجنسي والتعذيب والاختفاء القسري والاضطهاد، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية، ما يشكّل انتهاكًا لحقوق الحياة والصحة والتعليم والحصول على الخدمات الأساسية.
وأضافت ليندا أن أكبر الثغرات في حماية المدنيين تتجلى في استمرار الهجمات على المدنيين وتدمير المستشفيات والأسواق، فضلاً عن المعاملة القاسية واللاإنسانية، ما أسفر عن وفاة العديد منهم بسبب القصف والقذائف العشوائية.
ولفتت إلى أن الحياة اليومية أصبحت نضالًا مستمرًا، إذ يواجه أكثر من 21 مليون شخص انعدامًا حادًا أو أسوأ من الأمن الغذائي، بينما يواجه 375 ألفًا مجاعة كارثية، مع وقوع مدينتي الفاشر وكادوقلي بالفعل في حالة مجاعة.
وأشارت إلى انهيار شبه كامل للرعاية الصحية، بعد إغلاق أكثر من 80 في المئة من المرافق الطبية في المناطق المتأثرة بالنزاع، ما يضطر المرضى لقطع مسافات طويلة للوصول إلى العلاج في ظروف محفوفة بالمخاطر، فيما يعمل العاملون الصحيون في ظروف صعبة مع نقص الإمدادات الطبية، ما أسفر عن وفاة مدنيين بسبب أمراض كان يمكن علاجها وانتشار أمراض مثل الكوليرا.
جرائم بدارفور دولية وكردفان
وأكدت المتخصصة في القانون الدولي، ليندا بوري، أن الجرائم الدولية مستمرة في إقليمي دارفور وكردفان، حيث وثّقت بعثة تقصي الحقائق عام 2024 هجمات واسعة النطاق قائمة على الهوية تنفذها قوات الدعم السريع ومليشيات متحالفة معها ضد السكان المدنيين من غير العرب، شملت جرائم ضد الإنسانية مثل القتل والتعذيب والاسترقاق والاغتصاب والاضطهاد والتهجير القسري. وفي تقريرها الأخير “حرب الفظائع”، أشارت البعثة إلى نمط مماثل من الجرائم ارتكبته قوات الدعم السريع خلال حصار الفاشر والمناطق المحيطة، بما في ذلك استخدام التجويع كسلاح حرب وحرمان المدنيين من الغذاء والدواء والإغاثة، وهي أفعال قد ترقى إلى جريمة الإبادة كجريمة ضد الإنسانية.
مع استمرار القصف والقذائف العشوائية، والتراجع في توافر الغذاء، وانهيار الرعاية الصحية، وحرمان الأطفال من التعليم، أكدت ليندا أن أوضاع المدنيين في السودان حرجة للغاية.
يجب على المجتمع الدولي تكريس المزيد من الوقت والجهد والموارد لإنهاء معاناة السودانيين
المحامية المتخصصة في القانون الدولي الإنساني، ليندا بوري
وحول الخطوات العاجلة التي ينبغي على المجتمع الدولي اتخاذها، قالت إن إن الوضع على الأرض أصبح أكثر تعقيدًا مع انضمام جماعات مسلحة وميليشيات جديدة وتدخل أطراف أجنبية ذات مصالح متنافسة، ما يزيد صعوبة إيجاد حل. وأكدت ضرورة تكريس المجتمع الدولي المزيد من الوقت والجهد والموارد لإنهاء معاناة السودانيين.
وأضافت: أن “أولى الخطوات تتمثل في إعادة إحياء عملية السلام بما يشمل المدنيين ويحترم حقوق الجميع، مع عدم وضع سطوة السلاح فوق مبادئ بناء الدولة. وثانيًا، يجب مواجهة الدول والجهات التجارية الخارجية التي تساهم في تأجيج النزاع، عبر آليات الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي أو العقوبات والعمليات القضائية مثل محكمة العدل الدولية”.
دعم جهود المساءلة
وأشارت إلى أن دعم جهود المساءلة التي يبذلها مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية وبعثة تقصي الحقائق، إلى جانب دعم الجهات المدنية التي توثق الجرائم الدولية، يُعد أمرًا أساسيًا لضمان جمع الأدلة وحفظها بشكل سليم لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
وتشدد ليندا على ضرورة اتخاذ خطوات عملية لتخفيف الظروف القاسية للمدنيين داخل السودان، بما في ذلك الضغط على الأطراف المسلحة لوقف الانتهاكات، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، وتوفير الخدمات الطبية الطارئة ودعم النازحين داخليًا. ورأت أن المجتمع الدولي يجب أن ينشر بعثة عاجلة لحماية المدنيين في البلاد.
شبكة تحالفات عسكرية
وعن أسباب غياب آلية ضغط حقيقية لحماية المدنيين، وما يواجهه المجتمع المدني من عقبات في المطالبة بالمحاسبة، قال مدير المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام محمد بدوي:”إن الصراع في السودان، وفق توصيف مجلس الأمن في مايو 2023، هو صراع داخلي واسع النطاق، وقد انتقل تدريجيًا إلى داخل المساكن والأحياء”. وأوضح أن الحرب بدأت بين طرفين رئيسيين، ثم تحولت إلى شبكة واسعة من التحالفات العسكرية، إضافة إلى المستنفرين من جانب الأطراف المتحاربة.
تعميق المأسأة
ويشير بدوي إلى أن طبيعة العمليات العسكرية لعبت دورًا أساسيًا في تعميق المأساة. فالقوات المسلحة تخوض القتال بطريقة أقرب إلى حروب الجيوش النظامية القائمة على المساحات المفتوحة والتمركز وحفر الخنادق والحصار، بينما تعتمد قوات الدعم السريع على ما يصفه بـ”حرب اللاندكروزر”، القائمة على الهجوم الكثيف والسريع والانتشار الواسع. ويقول بدوي إن هاتين الطريقتين أفرزتا نمطًا من الهجوم والانسحاب وتبدّل السيطرة، ما وضع المدنيين عمليًا في قلب المعركة: دروعًا بشرية، وهدفًا مباشرًا للانتهاكات، ووسيلة لتوريط الطرف الآخر في دائرة اللوم الدولي.
غياب مركز وطني قادر على صناعة موقف واضح أسباب عجز المجتمع الدولي عن فرض وقف لإطلاق النار
مدير المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام محمد بدوي
ويضيف: أن “رفض الأطراف للهدن الإنسانية ساهم في تفاقم الوضع. فمع تعدد الفصائل داخل كل معسكر، أصبحت الهدنة، إمّا مرفوضة ابتداءً، أو مقبولة فقط بغرض المناورة”. ويرى بدوي أن غياب مركز وطني موحّد قادر على صناعة موقف واضح هو أحد أهم أسباب عجز المجتمع الدولي عن فرض وقف لإطلاق النار. ويقارن ذلك بحالة الصراع بين حماس وإسرائيل، حيث شكّلت منظمة التحرير الفلسطينية وزنًا سياسيًا مكمّلًا لمعالجة سؤال “ماذا بعد؟”، بينما يغيب جسم مماثل في الحالة السودانية.
أما بشأن وضع المجتمع المدني، فيبيّن بدوي أن الحرب أثرت فيه بعمق، وقيّدت حركته إلى حد كبير. ومع رفض الهدن وتضييق مساحات العمل، تحوّلت كثير من منظمات المجتمع المدني إلى أداء مهام إنسانية بحتة، ما خلق فراغًا واضحًا في جهود الدفع نحو المحاسبة وتوثيق الانتهاكات.































