المزارعون والرعاة.. حصاد الدماء في موسم الموت بدارفور

عاين– 18 ديسمبر 2025

تمكنت المزارعة بإقليم دارفور غربي السودان “أم إكرام” من زراعة مساحات قليلة بالذرة والفول السوداني، في مزرعتها التي تقع بالقرب من منطقة كتم في ولاية شمال دارفور غربي البلاد، لكنها لم تجني ثمار تعبها ومغامراتها، بعدما اجتاح الرعاة مزرعتها قبل حصاد المحصول، وأحالوها إلى خراب.

وقبل أن تنضج المحصولات التي زرعتها، بدأ جمال الرعاة في اجتياح المزارع في منطقة كتم خلال أكتوبر الماضي، وعلى مرأى قوات الدعم السريع التي تسيطر على البلدة، مما اضطر أم إكرام – وفق ما ترويه لـ(عاين) إلى حمل كميات قليلة من زرعها إلى منزلها داخل المدينة، وحصدها في محاولة لتعويض مجهودها الذي بذلته طوال فترة الخريف.

“أم إكرام” ليس وحدها، فمعظم المزارعين في إقليم دارفور واجهوا مصيراً مماثلاً، حيث اجتاح الرعاة مزارعهم عن عمد في الوقت الذي كانوا يتأهبون فيه إلى حصاد المحصولات،

بينما قُتل المزارعون الذين حاولوا الدفاع عن حصادهم الزراعي، في ممارسات متكررة في الإقليم المضطرب لسنوات، لكن بدت وتيرتها مرتفعة هذا العام.

قتل 19 شخصاً على الأقل جراء مواجهات بين المزارعين والرعاة خلال شهري أكتوبر وديسمبر الحالي في أنحاء متفرقة بدارفور، في تزايد لوتيرة العنف

 مراسل عاين

ورصد مراسل (عاين) 19 حالة قتل في مناطق متفرقة في إقليم دارفور خلال شهري أكتوبر وديسمبر الجاري وهي الفترة التي تصادف موسم الحصاد وعودة الماشية من المراحيل البعيدة، وذلك نتيجة احتكاكات مباشرة بين الرعاة والمزارعين الذين يحاولون منع الماشية من اجتياح مزارعهم.

وشكلت قوات الدعم السريع ما أسمته قوة حماية وتأمين الموسم الزراعي في إقليم دارفور الذي تسيطر على معظم أنحائه، لكن هذه القوات أظهرت عدم قدرتها في التعامل مع اعتداءات الرعاة وهم من المكونات الأهلية العربية، على المزارعين ومزارعهم، كما عجزت لجان من الإدارات الأهلية، في وقف هذه التعديات، وذلك بحسب شهادات استمع إليها مراسل (عاين).

فشل قوة التأمين

وقالت “أم إكرام” وهو اسم مستعار اختارته مُزارعة من كتم بسبب المخاطر الأمنية: إن” قوة حماية الموسم الزراعي التابعة لقوات الدعم السريع أخطرتهم بضرورة إخلاء المزارع بشكل كامل خلال شهر نوفمبر الذي ستعلن فيه -الطلقة- وهي فترة السماح للماشية بدخول المزارع، مما يظهر عجزها في مواجهة الرعاة المحسوبين عليها”. حسب وصفها.

وأوضحت أنه خلال شهر نوفمبر لا يكتمل نضج بعض المحصولات، ولن يتمكن المزارعون من إكمال الحصاد في هذا الموعد، فالطلقة المعتادة دائما ما تكون بعد شهر يناير في كل السنوات الماضية، وتضيف: “لن نتمكن من الزراعة مستقبلاً في ظل هذه الظروف، رغم أننا نعتمد على الزراعة في معيشتنا، فنحن مقبلون على معاناة كبير على ما يبدو”.

ولم يكن صراع المزارعين والرعاة بالظاهرة الجديدة فهو قديم متجدد، لكن مع سيطرة قوات الدعم السريع على معظم أنحاء إقليم دارفور، ازدادت المخاوف من تزايد تعديات الرعاة على المزارعين وارتفاع وتيرة العنف في ظل انتشار السلاح، وغياب مؤسسات الحماية والعدالة، ما يقود إلى تصاعد في هذه الجرائم، وفق ما تجلى في الموسم الحالي.

ففي 7 ديسمبر الحالي، وقع حادث في قرية كنيدي في مكجر بولاية وسط دارفور حيث وجد الرعاة أحد أفرادهم ميتاً بالقرب من أحد المزارع، فحضروا إلى القرية، وطلبوا من سكانها أن يخرجوا لهم القاتل، وعندما فشل السكان التعرف على القاتل، هاجم الرعاة القرية التي تبعد نحو 160 كيلومتراً جنوب غرب زالنجي وحرقوها، وصادروا أجهزة الإنترنت الفضائي “أستار لنك” مما تسبب في سقوط قتلى وجرحى وسط السكان، وفق ما رواه مصدر محلي لـ(عاين).

وشهدت منطقة القردود في ولاية جنوب دارفور الأسبوع الماضي، مواجهات على خلفية إدخال رعاة مواشيهم في المزارع، وعقب نقاشات بين الأطراف، قتل الرعاة أحد المزارعين، وعلى إثر ذلك حدث تحشيد وتحشيد مضاد بين الطرفين، أعقبتها اشتباكات خلفت 11 قتيلاً من الجانبين، وجرح أكثر من 20 شخصاً، وامتدت آثار هذا الصراع إلى مناطق أخرى بينها كاس، ليصبح قبلياً، قبل أن تتدخل الإدارات الأهلية بقوة وتحتويه.

وفي يوم السبت 13 ديسمبر الجاري، قُتل 4 أشخاص، 2 مزارعين ومثلهم رعاة في منطقة الصياح شرقي مليط في ولاية شمال دارفور، نتيجة قيام الرعاة بإدخال ماشيتهم في المزارع، وتدخلت قوات الدعم السريع والإدارات الأهلية، وتمكنوا من فض الاشتباكات، لكن ما تزال المنطقة محتقنة، وسط تحشيد أحد الأطراف الموالية للرعاة بغرض الانتقام، وذلك بحسب ما أكده مصدر محلي لـ(عاين).

مناطق أكثر تأثرا

وبحسب المصادر، فإن المناطق الأكثر تأثراً بمواجهات الرعاة مع المزارعين هي، كتم وكبكابية ودار السلام في ولاية شمال دارفور، وياسين وشعيرية في شرق دارفور، ولبدو ومارلا في ولاية جنوب دارفور. وفي ولاية وسط دارفور تأثرت بهذه الأحداث بلدات مكجر وبندس وقارسلا، وهي ذات المناطق التي شهدت جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية خلال الحرب التي شهدها الإقليم في العام 2003م، وقد حكمت المحكمة الجنائية الدولية هذا الشهر بالسجن 20 عاماً على قائد مليشيات الجنجويد علي كوشيب لتورطه في هذه الجرائم.

يقول أبكر آدم – اسم مستعار لمزارع من كبكابية بشمال دارفور لـ(عاين): “لقد اجتاح الرعاة مزارعنا منذ شهر أكتوبر وهو وقت مبكر لم يصل فيه المحصول مرحلة النضج الكامل، حيث اضطررنا إلى حمل القليل من المحصول إلى المنازل، وأكملنا حصاده في داخلها. نحن نواجه معاناة كبيرة مع الرعاة سنويا، لكن هذا الموسم كان الأسوأ على الإطلاق”.

وذكر أن أقرباءه في منطقة جدّارة شمال كبكابية بولاية شمال دارفور تعرّضوا لنهب محصول الدخن فور حصاده، إلى جانب نهب كميات من الفول السوداني بعد استخراجه من الأرض وإكمال حصاده، مضيفاً “قُتل أحد المزارعين في منطقة غرة الزاوية في نوفمبر الماضي، وتعرّض عدد من المزارعين لنهب عربات الكارو بعد الاعتداء عليهم وإهانتهم وتهديدهم”.

مزارعون في دارفور

وتكشف الناشطة الحقوقية بشمال دارفور حليمة شقرة، أن الأغنام كانت ترعى في المزارع أثناء عمل المزارعين على حصادها خلال الخريف في المناطق الواقعة شرق مدينة الفاشر، ولم يستطع أحد التحدث؛ لأن ذلك سيعرضهم إلى المخاطر، وتبقى الماشية معهم إلى موسم الحصاد، وقضت على الإنتاج الزراعي القليل.

وقالت شقرة في مقابلة مع (عاين): “تمكن 10 بالمئة فقط من المزارعين في مناطق دار السلام بشمال دارفور من الوصول إلى المزارع، وزراعة مساحات محدودة، ومع ذلك لم يحصدوا سوى القليل، وقضت الماشية على كل محصولاتهم الزراعية، بعدما أدخلها الرعاة عنوة في المزارع عن عمد”.

وترى أن مع سيطرة قوات الدعم السريع على دارفور لن تكون هناك زراعة في الإقليم، فعندما كان خارج سيطرتهم، توجد مصاعب كبيرة في الوصول إلى المزارع، لافتة إلى أن حكومة تأسيس مجرد سلطة عسكرية في يد قوات الدعم السريع، وليس بمقدورها فعل شيء، وما يجري في نيالا مجرد “كلام ساي” – حسب تعبيرها.

26 حادثة قتل

من جهته، قال عضو اللجنة العليا لتأمين الموسم الزراعي في ولاية شرق دارفور، محمد صالح خوف لـ(عاين): أن” 50 بالمئة فقط من المساحات الزراعية تمت زراعتها هذا الموسم مقارنة بالسنوات الماضية، لكن الإنتاج أفضل إلى حد ما عن العام السابق، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية التي تشهدها المنطقة، خاصة الاحتكاكات التي تحدث بين المزارعين والرعاة”.

وكشف أنهم سجلوا 26 حالة قتل لمزارعين على يد رعاة، و18 جريحاً خلال الموسم السابق 2024م في ولاية شرق دارفور، ولكن بفضل الجهود التي بذلتها الإدارات الأهلية انخفضت حوادث القتل إلى 4 حالات خلال الموسم الزراعي الحالي، 2 منهم مزارعون قتلوا داخل مزارعهم، واثنين من الرعاة، وذلك على الرغم من الإمكانيات المحدودة المتاحة للإدارة الأهلية في مواجهة هذه الظواهر.

المزارعون في ولاية شرق دارفور تمكنوا هذا الموسم من حصد نسبة 55 – 60 بالمئة فقط من مزارعهم وما تبقى قضت عليه الماشية

لجنة تأمين الموسم الزراعي بشرق دارفور

وشدد صالح، على أن المواجهات تحدث بسبب قيام الرعاة بإدخال ماشيتهم في المزارع بشكل متعمد خلال فترة الليلة، وعندما يأتي المزارع في الصباح يجد حصاده قد أُكِل، لافتاً إلى أن الإدارات الأهلية في سبيل القضاء على هذه الظاهرة وضعت غرامة 15 مليون جنيه، والسجن لمدة عام، لكل شخص قُبِض عليه وهو يدخل ماشيته عمداً في المزارع في ظل انتشار القوات العسكرية، الأمر الذي أدى إلى تقليل هذه الحوادث.

وقال صالح: إن “المزارعين في ولاية شرق دارفور تمكنوا هذا الموسم من حصد نسبة 55 – 60 بالمئة من مزارعهم، وأكلت الماشية 40 بالمئة من الإنتاج، لكن العافية درجات، وسنمضي عبر حكومة تأسيس في مشوار التعافي الكامل”.

دوامة العنف

وتُعد ولاية شرق دارفور أحسن حالا وأكثر أمن مقارنة بالمناطق الأخرى في الإقليم، وانحصرت أحداث العنف بين الرعاة والمزارعين في ولاية شرق دارفور، في محليتي ياسين وشعيرية، وذلك وفق ما أفاد به مصدر محلي (عاين).

وبحسب المصدر، فإن بعض المزارعين أيضا يتسببون في وقوع تلك الأحداث، بسبب قيامهم بالزراعة في مسارات الماشية أو ما يُعرف محلياً بـ”المُرحال”، مما يدخل الأطراف في احتكاكات ترفع من وتيرتها الطبيعة الفوضوية للرعاة “الأبالة” فهم بطبعهم لا يحبون النظام والقانون، ومع انتشار السلاح تقع جرائم القتل جراء هذا الصراع.

ويفتح تصاعد المواجهات بين الرعاة والمزارعين بدارفور، باباً آخر للعنف بالإقليم في ظل انتشار السلاح وفوضى الاستنفار والتجييش للمجتمعات والمكونات الأهلية، مما يلقي بتداعيات إنسانية في الإقليم الذي يعتمد معظم سكانه على الزراعة والرعي في معاشهم، ما يجعله غارقاً في المآسي الإنسانية ودوامة الاضطرابات.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *