“بابنوسة”.. مدينة مُسالَمَةٌ تمزقها الحرب
عاين- 25 يونيو 2025
صورة من التعايش والتسامح والسلام الاجتماعي، تعكس ملامح مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان، غربي السودان، على مر تاريخها، قبل أن تلتهمها نيران الحرب الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتمزق تلك المشاهد الزاهية، وتضعها في قلب الحصار ودوامة العنف.
المدينة التي لم تشهد أي نزاع مسلح في السابق، استيقظت في صبيحة 22 يناير من العام 2024م على أصوات البنادق والمدفعية الثقيلة، بعد انتقال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع إليها، ولم تألف أذان سكانها من قبل غير سماع صافرات القطارات، وطبول التسامح التي تُقرع من حين لآخر لتروي التنوع الثقافي والاجتماعي في المدينة التي وصفت بأنها “سودان مصغر”.
وخلال ثلاثة أيام من المعارك الضارية بين طرفي الحرب، اضطر سكان بابنوسة البالغ عددهم نحو 50 الف نسمة إلى النزوح بشكل جماعي لأول مرة في حياتهم إلى العراء وفق متطوعي غرفة طوارئ بابنوسة، وتحولت المدنية التي كانت تضج بالحياة إلى مدينة أشباح خالية من المدنيين، تحاصرها النيران من كل الاتجاهات.
ولأكثر من عام مضى صارت بابنوسة في طي النسيان، يجري ذكرها عندما تتجدد المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، بينما ظل آلاف السكان الذين فروا منها يكافحون من أجل البقاء وسط ظروف نزوح قاسية، يفتقدون فيها الغذاء والمأوى والعلاج، ومياه الشرب في ظل غياب التدخلات الإنسانية، باستثناء جهود شباب متطوعين.
وتضم بابنوسة رئاسة الفرقة 22 للجيش السوداني وهي أحد أكبر قواعده في ولاية غرب كردفان. وتبقت هذه الفرقة واللواء 90 هجليج فقط تحت سيطرة الجيش في غرب كردفان التي سقطت بقية مدنها في يد قوات الدعم السريع.
وبعد هدوء دام لأكثر من عام، تجددت المعارك العسكرية في بابنوسة خلال شهر يونيو الجاري، إذ شنت قوات الدعم السريع عدة هجمات في محاولة للسيطرة على المدينة الاستراتيجية، لكن ما يزال الجيش يحافظ على سيطرته عليها.
ماذا تعرف عن بابنوسة؟
ومع ضراوة المعارك العسكرية حول بابنوسة، بدت الحاجة إلى التعرف على المدينة من حيث تاريخها وملامحها وأهميتها الاستراتيجية لطرفي الحرب في السودان.
ساهمت خطوط السكة حديد ومصنع الألبان في جعل بابنوسة مدينة عمالية في المقام الأول، إذ أتى العمال من كل أنحاء السودان، مما حول المدينة إلى منطقة وعي وثقافة، وفق ما يقوله الأستاذ الجامعي من بابنوسة جاد الله الرضي لـ(عاين).
وبحسب الرضي، فإن بابنوسة حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي كانت عبارة عن قرية صغيرة، بها مدرسة أولية صغرى درس فيها مع آخرين، وحدث تحول فعلي في المنطقة بعد توصيل خط سكة حديد كوستي – بابنوسة، والذي ساعد على ازدهار سريع لبابنوسة، وصارت مدينة بالمعنى في منتصف ستينيات القرن المنصرم.
وتعتبر بابنوسة الواقعة في الجزء الغربي من ولاية غرب كردفان نقطة التقاء ثلاثة خطوط سكة حديد الأول قادم من كوستي، والثاني متجه منها إلى مدينة واو في دولة جنوب السودان، والثالث متوجه إلى نيالا في ولاية جنوب دارفور.
ويقول جاد الله الرضي: “بعد وصول خطوط السكة حديد، تطورت بابنوسة على نحو سريع، وبنيت مدرسة أولوية، وتوسعت عمرانيا وشهدت قيام العديد من المدارس، وأصبحت مركزاً تجارياً واستراتيجياً، بينما ساعد عمال السكة حديد القادمين من مختلف أنحاء السودان في تنشيط الحركة الثقافية والإبداعية، فتأسست الأندية الرياضية والمراكز الثقافية، التي ألقت بتأثيراتها الإيجابية الكبيرة على المجتمعات”.
ويسكن في بابنوسة 22490 الف نسمة بحسب التعداد السكاني السوداني الذي أجري في العام 2008م، لكن تصاعد عدد سكانها لاحقاً، إذ نزح منها بشكل جماعي أكثر من 50 الف شخص بعد اندلاع المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع يوم 22 يناير 2024م، وذلك وفق غرفة طوارئ بابنوسة الطوعية.
وتضم بابنوسة كلية الاقتصاد بجامعة غرب كردفان، وهي أحد أهم المؤسسات العلمية التي تميز المدنية، والتي استطاعت جذب الطلاب من مختلف أنحاء السودان.
قاسم مشترك
كانت السكة حديد وحركة القطارات قاسماً مشتركاً في تطور بابنوسة وتراجعها، لكن المدينة ظلت تحتفظ بإرث ثقافي تشكل خلال بضعة عقود بفضل تلاقي العمال من مختلف ربوع البلاد فيها.
ويقول جاد الله المرضي في حديثه لـ(عاين): ” لأسباب سياسية لم تهتم حكومتي نميري والإنقاذ، بسبب بدء العمال في تشكيل الحركة النقابية، فكان نشاطا مزعجاً لتلك الأنظمة، فتوقفت القطارات عن بابنوسة بعد إدخال عمليات النقل بالشاحنات وغيرها، مما أدى إلى تراجع الحركة التجارية والاقتصادية فيها”.
وظلت بابنوسة على مر تاريخها مدينة مسالمة، ولم تشهد حرباً غير التي يدور رحاها حالياً، وكل ما كان يحدث نزاعات أهلية محدودة يحتويها رجال الإدارة الأهلية، وفق جاد الله.
ويروى عن بابنوسة، أنها كانت في أربعينيات القرن الماضي مجرد أراضي خالية بها مجموعة من البرك المائية، وقدم إليها السكان من مدينة المجلد المجاورة في سبيل بحثهم عن الأراضي الزراعية الصالحة، ومنذ ذلك الحين بدأوا في تأسيسها.
وبعد ربط السكة حديد، ازدهرت بابنوسة تجارياً وثقافيا، وكان السكان من المدن المجاورة مثل الفولة والمجلد يرتادونها للحصول على احتياجاتهم من الخضروات؛ لأنها تأتي طازجة عبر القطارات مناطق الإنتاج في وسط وشرق السودان.
وكانت هناك مكتبات في السكة حديد ومصنع الألبان يسمح فيها للمواطنين بالاطلاع، مما ساعد على نشر الثقافة والوعي لدى السكان في مدينة بابنوسة.
سودان مصغر
ومن بين أبرز المعالم التي تشكلت بفضل السكة حديد هو مركز شباب بابنوسة، والجمعية التعاونية في المدينة، والتي أرست روح التكافل بين مختلف المكونات الاجتماعية في المدينة.
وفي السياق نفسه، يقول الصحفي السوداني المنحدر من بابنوسة محمد يوسف في مقابلة مع (عاين) إن أهم ما يميز بابنوسة نشؤها كمدينة عمالية، نظرا لوجود محطة سكة حديد فهي رئاسة القطاع الغربي، وتضم مصنعاً كبيراً للألبان والذي توقف عن العمل في العام 1976م، مما جعلها تضج بحركة العمال على مر تاريخها.
ميزة أخرى لبابنوسة عن بقية مدن ولاية غرب كردفان، تتمثل في تنوعها السكاني والاجتماعي والثقافي، وترتدي الثوب القومي في كل ملامحها، إذ لا يحمل أي من أحيائها السكنية اسم مكون قبلي أو أهلياً، بخلاف ما يحدث في المناطق الأخرى، وفق محمد.
ويضيف: “من أبرز أحياء مدينة بابنوسة، حي ألبسته كناية عن السكة حديد، حي المصنع وهو مسمى على مصنع الألبان، وحي التربية، وحي السلام، فهذه المدينة تمثل سودان مصغر تحتضن جميع المكونات القبلية من كل أنحاء السودان، وساعد على ذلك حركة التنقلات التي كانت تجري لعمال السكة حديد، فوصلها واستقرت فيها مجموعات سكانية من مختلف ربوع البلاد”.
ويشير إلى أن السكان الذين ينحدرون من دولة جنوب السودان قرروا البقاء في مدينة بابنوسة عقب استقلال بلادهم، نسبة لارتباطهم بالمدينة ذات الطابع القومي، وتحمل “سودان مصغر”.
يوجد سوقان في مدينة بابنوسة، الأول السوق الكبير الذي يكنى بسوق الجلابة وهم الأشخاص الذين يجلبون البضائع من مناطق السودان الأخرى إلى المدينة، أما الثاني فهو السوق الصغير، الذي يضم صغار الباعة.
مدينة مسالمة
لم تشهد بابنوسة أي صراع مسلح سياسي أو قبلي في تاريخها، بل شكلت ملاذاً آمنا للفارين من المشكلات القبلية في ولاية غرب كردفان، والتي كان آخر المواجهات الدامية بين أولاد زيود وأولاد عمران أحد بطون قبيلة المسيرة في العام 2015م بمنطقة بليلة.
ويعتمد السكان في بابنوسة على العمل في السكة حديد، والتجارة والزراعة، والقوات النظامية من الجيش والشرطة، حيث تضم رئاسة الفرقة 22 التابعة للقوات المسلحة، وليست بها رعي؛ لأن جميعهم سكان مستقرون وغير متنقلين، وفق محمد يوسف.
يحتدم الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في بابنوسة نسبة لموقعها الاستراتيجي، إذ تضم خط سكة حديد الذي يربط شرق وشمال البلاد مع غربها، وخط ثالث يمتد حتى واو بدولة جنوب السودان. وتحاول قوات الدعم السريع السيطرة على المدينة التي يدافع عنها الجيش بضراوة
يروي أحمد عبد الله وهو معلم من ريفي مدينة أبوزبد بولاية غرب كردفان لـ(عاين) إن الرحلات العلمية بالقطار إلى بابنوسة كانت حلماً يراود كل الطلاب في منطقته، وقد كان من المحظوظين بالحصول عليها.
ويقول “كانت بابنوسة مدينة تنعم بالحياة وزخم السكان في الأسواق ومحطة القطار، يتجولون ببهجة عالية كأنهم في كرنفال، وكانت الحوارات السياسية والثقافية تملأ المكان، إنها من أجمل الرحلات والتجارب التي خضتها في حياتي”.