العدالة الإنتقالية.. أصوات الضحايا ترتفع وسط صمت الجناة
31 مارس 2023
بين مطالب القصاص، وكشف الحقيقة وجبر الضرر بعد تقديم اعتذار مع ضمان عدم تكرار القتل، ومطالب أخرى بتقديم مرتكبي الجرائم لعدالة الدولة، تتوزع أصوات الضحايا وأصحاب المصلحة والمتضررين على تخوم سلسلة من المؤتمرات حول العدالة الانتقالية عُقدت في الفترة من 16- 2 مارس، بخمسة من أقاليم السودان وانتهت بمؤتمر قومي بالعاصمة السودانية ضمن العملية السياسية التي ترعاها الآلية الثلاثية.
يعتقد والد أحد قتلى ثورة ديسمبر، إن ابنه الذي قُتل برصاص قوات الأمن كرّس حياته لإقامة سلطة مدنية يخضع لها الجيش، وحينما يكون من الصعب تحقيق هذا الحلم الذي دفع ابنه حياته ثمنا له لا يمكن العفو عن الجنرالات والقادة الأمنيين الذين أمروا بقتل نجله ذو الـ 23 عاما.
يصف والد عبد العظيم أبوبكر الإمام الذي قتل برصاص قوات الأمن في 24 يناير 2019م، قبل شهور من سقوط نظام عمر البشير الإجراءات بشأن مؤتمر العدالة الانتقالية بـ”الاستهبال السياسي”. قائلا إن “الأحزاب في سبيل الصعود إلى السلطة يطلقون الوعود وتصاغ في الدساتير ولا تنفذ”.
ويرى أبوبكر، وهو ايضاً عضو في منظمة أسر الشهداء بأن هناك معوقات في السودان تقف أمام تطبيق العدالة الانتقالية بالطريقة المثلى أبرزها عدم استعداد النظام العسكري والأمني على الاعتراف والحقيقة وطلب العفو.
ويقول ابوبكر: “إن من يجلسون على سدة الحكم الآن هم العسكريين الذين بإمكانهم قطع الطريق أمام الحكم المدني في أي وقت بقوة البندقية والمال لذلك من المهم وضع ضمانات قوية بعدم تقويض السلطة المدنية”. ويرى أبوبكر ، أن مشروع العدالة الانتقالية يجب أن يكون ضمن أولويات حكومة مدنية تخضع لها المؤسسة العسكرية بالكامل لكن في ظل استمرار قتل المتظاهرين لأربعة سنوات من نفس الجهة العسكرية والأمنية فلا يمكن الحديث عن العدالة الانتقالية.
وتابع والد عبد العظيم: “نحن السودانيون متسامحون إذا اعترف القتلة بالجريمة وطلبوا العفو.. لدينا استعداد للعفو لكن في ذات الوقت يجب أن تحقق المكاسب الكبرى المتمثلة في السلطة المدنية التي مات من أجلها أبنائنا ويجب أيضا وضع قوانين تضمن عدم ارتكاب القتل والجرائم مستقبلا”.
ونُوقشت خلال مؤتمر العدالة الذي هدف إلى صياغة (16) من المبادئ العامة في الدستور الانتقالي الذي سيوقع عليه المدنيين والعسكريين في السادس من أبريل القادم عدد من الانتهاكات قبل ثورة ديسمبر 2018 وأخرى تاريخية من بينها مجزرة جنوب طوكر ومذبحة الضعين، ومذبحة عنبر جودة وهي مذبحة قتل خلالها مئات من المزارعين احتجوا على عدم صرف حقوقهم المالية في فبراير عام 1956 إبان حكومة إسماعيل الأزهري.
وهذه المذبحة التي تعد ضمن أبرز المذابح عقب الاستقلال هذا البلد جاءت بعد نقل المزارعين بواسطة شاحنات إلى قاعدة عسكرية بمدينة كوستي جنوبي البلاد وسجنوا في مستودع لتخزين المبيدات حتى الصباح لفظ أغلبهم أنفاسه ونجا اثنان أحدهم كان يتنفس عبر فتحة صغيرة.
غياب المطلوبات
“المطلوبات لم تحدث، يُطلق محمد الأمين المحلل القانوني هذه الجملة قائلا: إن “العدالة الانتقالية مدخل لبناء الدولة لأن المصالحة الوطنية الشاملة تتطلب العدالة الجنائية او الانتقالية وبالتالي فالمطلوب هو اعتراف الجهات التي ارتكبت الجرائم أولا بالحقيقة ومن ثم الانتقال إلى مرحلة أخرى”.
يضيف الأمين: “لنأخذ على سبيل المثال مجزرة القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019 والمتهم فيها المجلس العسكري السوداني هل اعترف الجنرالات بارتكابها أو لديهم استعداد لذلك … اعتقد لا”.
وأردف: “في اعتقادي هناك ركن أساسي غير متوفر في مؤتمر العدالة وهو العسكريين الذين لم يعلقوا مجرد تعليق حول هذه العملية التي انطلقت في خمسة أقاليم سودانية ولو من باب مبدأ القبول”.
ويقول الأمين إنجاح العدالة الانتقالية يتطلب وجود عنصر مهم ممثلا في الدولة نفسها التي تكون على استعداد للاعتذار وجبر الضرر وفي ظل الانقسام السياسي بين المدنيين وسيطرة مجموعات عسكرية على الدولة لا يمكن إطلاق مشروع العدالة الانتقالية.
شراء المستقبل
بالمقابل يقول عضو اللجنة العليا لمؤتمر العدالة الانتقالية عبد المطلب الختم في حديث لـ(عاين)، إن المؤتمر ناقش بحضور أكثر من 600 شخص كيفية التعامل مع مشروع العدالة الانتقالية.
ويرى الختم، أن مشروع العدالة الانتقالية ليس محصورا في فترة زمنية معينة لكن في ذات الوقت تعد الانتهاكات التي اُرتكبت في الأعوام الأخيرة مثل مجزرة القيادة العامة وضحايا الانقلاب العسكري بعد 25 أكتوبر 2021 مدخلا لتأسيس الدولة السودانية لأن العسكريين يجلسون على سدة السلطة ينبغي التعامل مع الجرائم التي أرتكبت ضمن مشروع العدالة الانتقالية لشراء المستقبل.
وبحسب الختم، شملت المبادئ العامة لهذا المؤتمر 16 بندا من مختلف أقاليم السودان بالتركيز على ضحايا الانتهاكات منذ الاستقلال أو ما قبل ذلك مثلا طالب ضحايا عنبر جودة بولاية النيل الأبيض بالنظر في هذه المجزرة التي أودت بحياة مئات المزارعين الذين سجنوا في أقبية عسكرية عقابا على احتجاجهم ضد عدم صرف الأرباح من المحاصيل الزراعة في العام 1956.
وبينما طالبت عائلات ضحايا شهداء الانقلاب ومجزرة القيادة العامة ضمن عينات عشوائية وأغلبهم في العاصمة السودانية أخذتها لجان مؤتمر العدالة الانتقالية بالقصاص من قتلة الشهداء على أن يشمل العقاب أعضاء المكون العسكريين إلا أن بعض ضحايا الانتهاكات إبان الحرب من إقليم النيل الأزرق طالبوا بأن تتولى عملية جبر الضرر حسب ما يقول عبد المطلب الختم.
ويضيف :” إن المهتمين بالعدالة الانتقالية حينما يقولون إنهم يستلهمون النموذج السوداني هذا لا يعني الخروج عن المسائل المتعلقة بالقانون الدولي في هذا الصدد بل أن تنفيذ مشروع العدالة الانتقالية مع المجتمعات المحلية هي التي ستطبق فيها النموذج السوداني مع خصوصية كل منطقة إزاء التعامل مع وسائلها المتبعة في هذا الِشأن”.
ضحايا الثورة
ويرى الختم، أن مشروع العدالة الانتقالية واسع لأن المجتمعات في مناطق النزاعات واجهت “انتهاكات مريعة” ومن الطبيعي تباين المطالب بين الضحايا وهذا يعتمد على درجة الوعي إلى جانب أن بعض القضايا تتطلب انصافا واعتذار من الدولة مثل مذبحة عنبر جودة والجزيرة أبا.
ويؤكد الختم، أنه وعلى الرغم من شمولية العدالة الانتقالية إلا أن مستقبل السودان يتحدد من خلال التعامل مع ملفات ضحايا الثورة قبل وبعد سقوط النظام في 2019 وبعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 مرورا بمجزرة القيادة العامة. وقال إن “هذه القضايا تتطلب التعامل مع أولياء الدم مباشرة والانخراط في حوارات جدية هل بالإمكان العفو عن قتلة الشهداء وشراء المستقبل؟”.
ومن بين أبرز المطالب التي ضُمنت في المبادئ الـ 16 التي ستدرج في الدستور الانتقالي والاتفاق النهائي بين المدنيين والعسكريين حسب عبد المطلب الختم تسليم مطلوبي المحكمة الجنائية إلى جانب إحالة بعض الملفات الخاصة بانتهاكات ثورة ديسمبر إلى المحاكم الدولية لأن القضاء السوداني غير مهيأ للنظر فيها.
تحايل على الإصلاح المؤسسي
فيما يضع المحلل القانوني محمد الأمين عدة نقاط يعتبرها رئيسية لضمان نجاح العدالة الانتقالية في السودان أولا تحقيق الإصلاح المؤسسي في الهيئة القضائية والمحاكم والنيابات والأجهزة الأمنية علاوة على تبني الدولة عبر حكومة مدنية هذا المشروع ومعالجة الملفات التي يمكن علاجها والتي مرت عليها سنوات طويلة حتى تتفرغ لانتهاكات اُرتكبت خلال عهد العسكريين ونظام المخلوع.
وأضاف: “هناك طرفان في العدالة الانتقالية هما المجرم والضحايا.. هنا نضع في خانة المجرم المكون العسكري المُتهم بارتكاب مجزرة القيادة العامة 2019 والضحايا هم عائلات قتلى وهذان العنصران مهمين ولم يشاركا في مؤتمر العدالة الانتقالية الذي يبحث عملية تعويض الضحايا ماليًا مع إيقاع العقوبة على الأفراد الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين وافلات أعضاء المكون العسكري من العقاب”.
وفي تطور لافت وبالتزامن مع مؤتمر العدالة الانتقالية صرح وزير العدل السابق في الحكومة الانتقالية نصر الدين عبد الباري في مؤتمر الخرطوم الأسبوع الفائت مشيراً إلى أن النقاشات التي دارت بين “مفاوضي الحرية والتغيير” والعسكريين في بدايتها العام الماضي طالب العسكريون خلالها وضع مادة قانونية في الدستور الانتقالي تنص على منح العفو للعسكريين من الجرائم التي ارتكبت خلال الفترة الماضية مقابل تسليم السلطة السلطة للمدنيين.
لا إرادة للجنرالات
“مفهوم العدالة الانتقالية قائم على تجاوز المرارات بين المجتمعات التي تضررت من الانتهاكات والتي تصبح فيها الدولة طرفا بشكل أو بآخر”. هذا مايراه الأمين العام لهيئة محامي دارفور الصادق علي حسن.
ويعتقد الصادق في مقابلة مع (عاين)، أن مشروع العدالة الانتقالية يقوم على تدابير انتقال في الدولة من مرحلة الظروف الاستثنائية والجرائم إلى مرحلة التسامي والمصالحة والاستقرار وهذه الظروف غير متوفرة في السودان وبالتالي شرائط العدالة الانتقالية غير موجودة.
كما يقول الصادق علي حسن إن العسكريين أو غيرهم لا يملكون الإستعداد لإبراز الحقيقة والانتقال إلى مرحلة العفو ومازالوا يمارسون القتل باستخدام السلاح للحفاظ على السلطة والالتفاف على مطالب الشارع وتعطيل مؤسسات العدالة من أعمالها.
وأضاف: “لا الظروف الموضوعية ولا الطبيعية متوفرة وما يحدث من نقاش حول العدالة الانتقالية يأتي لخدمة أجندة سياسية”. ويرى الأمين العام لهيئة محاميي دارفور أن هناك جرائم ضد الإنسانية وجسيمة اُرتكبت بحق السودانيين لا يجوز تسويتها عن طريق العدالة الانتقالية لتقنين حالات الإفلات من العقاب.
وأردف: “بالضرورة إذا طبقت العدالة الانتقالية للتعامل مع هذا ملف يجب أن يعتذر الجناة في الجرائم الخاصة واعتذار الدولة أيضا ممثلة في الحاكمين وليس الذين فقدوا السلطة”.
المؤتمر للنقاشات أولية
وتضع قوى الحرية والتغيير والقوى التي وقعت على الاتفاق الإطاري مؤتمر العدالة والعدالة الانتقالية ضمن العملية السياسية كأول اختبار للسودانيين لهذه الإجراءات وبالتالي أُعتبر المؤتمر فرصة لتبادل النقاشات بين “أولياء الدم” والقادة السياسيين وخبراء القانون.
ويرى عضو المكتب التنفيذي لقوى الحرية والتغيير والعضو السابق عن الشق المدني في مجلس السيادة الانتقالي محمد الفكي سليمان، أن مؤتمر العدالة الانتقالية هو إعلان مبادئ لتأسيس العدالة والعدالة الانتقالية ولا تمثل خطوة نهائية بالتالي الحديث عن اعتراف العسكريين أو الاعتذار يترك إلى مرحلة أخرى.
ويرى الفكي، في مقابلة مع (عاين)، أن مؤتمر العدالة الانتقالية وفر منصة للنقاش بين كافة الأطراف من “أولياء الدم” والقيادة السياسية التي تقع على عاتقها المسؤولية السياسية والقانونية والاخلاقية في انفاذ مخرجات هذا المؤتمر.