«مآوِي الحرب».. جهود شعبية تحتضن آلاف الفارين من معارك الخرطوم
17 يونيو 2023
كان شبح اندلاع الحرب في السودان لاسيما العاصمة الخرطوم يحوم منذ اشهر بين ثنايا الخطابات التي يُدلي بها قادة الانقلاب العسكري في البلاد قبل انطلاق الرصاصة الأولى صباح 15 أبريل الماضي، لكن ذلك لم يكن احتمالاً راجحاً لقطاع واسع من المدنيين السودانيين الذين تحولوا ضحايا القتال العنيف.
وإن بدت الأيام التي سبقت إندلاع الحرب كغير عادتها في حركة الناس والحياة، “يشوبها الحذر والترقب” في وسط العاصمة السودانية وضواحيها مع مؤشرات عديدة بقرب اندلاع المعارك، لكن لم يكن في أدنى توقعات سكان المدينة مترامية الأطراف أن يضعوا أقدامهم في أيام الحرب الأولى على أعتاب الخروج لوجهات متعددة انتهت ببعضهم نازحين في مدن وقرى أكثر أمناً داخل السودان ولاجئين في بلدان مجاورة.
“استفقت من نومي على أصوات الرصاص والقذائف والانفجارات، لم اسمع في حياتي مثل هذه الانفجارات القوية اهتزت لها الغرفة التي أتقاسمها مع أحد معارفي في حي العشرة جنوب الخرطوم”. يقول فيصل الحسين لـ(عاين).
ويضيف: “مع تقدم نهار الخامس عشر من أبريل موعد انطلاق الحرب في العاصمة السودانية وتأكد اشتعالها في كل أرجاء العاصمة السودانية التي خلت شوارعها من المارة وحركة السيارات والمواصلات في الساعات الأولى من بداية المعارك، رأيت تحليقا كثيفا للطيران الحربي في سماء الحي الذي أسكنه الأمر الذي أثار الرعب وحالة من الهلع وسط السكان الذين بدأوا على الفور رحلة الفرار لجهة الحراك الكثيف لقوات الجيش والدعم السريع في المنطقة التي تقع بالقرب من سلاح المدرعات التابع للجيش السوداني.
لم يتمكن “الحسين” من حمل ولو قليل من أمتعته كحال آلاف الذين فروا من العاصمة السودانية الخرطوم إلى المدن والقرى القريبة من العاصمة خاصة التي تقع في الأجزاء الجنوبية من العاصمة لأن الجزء الشمالي منها كان يتطلب عبور الجسور في وسط المدينة التي تحتدم فيها المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع للسيطرة على المرافق المهمة حول قيادة الجيش وقصر الرئاسة.
وجهة فيصل الحسين عبر المنفذ القريب من مكان سكنه عن طريق ميناء الخرطوم البري جنوبي العاصمة. ويقول: “وصلت إلى الميناء البري ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب.. المهم انا انتوى مغادرة العاصمة.. كانت الرحلة إلى مدينة ود مدني وسط البلاد هي الانسب لي من الناحية المالية وهناك ربما اتدبر أمري واجد ما يعينني على السكن والطعام”.
..”بالفعل وجدت شباب يقدمون لنا المساعدة”. يقول الحسين لـ(عاين) من داخل مركز ايواء يضمه مع حوالي 200 نازح بينهم أجانب في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة.
وفي مدينة ود مدني كحال عديد المدن السودانية سارع متطوعون لفتح مراكز إيواء للفارين من القتال في الخرطوم عبر جهود شعبية لتقديم العون الاغاثي لهم من الإيواء والطعام والشراب.
هذه المبادرات الطوعية شملت مدن عديدة لاسيما التي تقع على معابر السودان البحرية والبرية مع مدن الجوار، ومن بين هذه المدن القضارف وبورتسودان- شرق، ومدن دنقلا وحلفا- شمال السودان.
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، نزح أكثر من 1.4 مليون داخليًا إلى مدن وقرى سودانية آمنة حتى 6 يونيو الجاري. تضم مدينتي ود مدني والقضارف نحو عشرين مركزا للإيواء تقوم على الجهد الشعبي وتقدم الطعام والدواء ومعظم مقراتها في المدارس والمباني الحكومية.
14 مركز من هذه المراكز كان بمدينة ود مدني التي استقبلت الآلاف. وهى المرة الاولى التي يواجه فيها مواطني ولاية الجزيرة هذه الأعداد المهولة للقادمين إليها من خارج حدود الولاية جراء المعارك الدائرة بين القوات المسلحة والدعم السريع بالخرطوم. يقول المتطوع في مركز لإيواء النازحين بمدينة ود مدني عرابي النو لـ(عاين).
ويشير عرابي، إلى أنه ومع تضاعف أعداد الفارين من ولاية الخرطوم ارتفعت نسبة الحاجة لتلبية الوجبات الغذائية فقط إلى ما يقارب الـ 1500 شخص لليوم-هذا العدد لا يشمل كل المراكز ومتغيير كل يوم. وينوه إلى أنه يتم توفير المعينات العينية عبر الخيّرين والمتطوعين بالولاية.
في مدينة القضارف شرقي البلاد وبعد أيام من اندلاع المعارك وصلت عشرات العائلات إلى المدينة – بحسب عضو غرفة طوارئ القضارف، مجيب الرحمن عوض، والغرفة هي إتلاف ضم مجموعة من المبادرات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني وبعض الفاعلين في الولاية قرر تكوين غرفة طوارئ نتيجة للحاجة الإنسانية الكبيرة التي تواجه الفارين من العاصمة.
مجيب الرحمن يقول لـ(عاين)، أن الولاية استقبلت أول فوج من الناجين أول أيام العيد الفطر وكانوا طلابا صوماليين بمقر يسمى بيت الشباب وهو أول مقر للغرفة.
ومع تزايد اعداد الواصلين لمدينة القضارف، “أصبح لدينا الآن عدد من المراكز تتم إدارتها من مركز إدارة الغرفة بمركز بيت الشباب، بالإضافة إلى مجمع الرشيد السكني، وداخلية عمر بن عبد العزيز، معهد حاج الحسن، مدرسة الموهبة والتميز وهي خاصة لاستضافة الأسر. ولطبيعة مركز بيت الشباب الإدارية تتم استضافة القادمين لمدة 24 ساعة إلى حين ترحيلهم لأحد المراكز بالولاية لأن توقيت القادمين في الغالب في الفترة المساء وهو المركز الأكثر جاهزية للتعامل مع الحالات الطارئة. وفقا لـ مجيب الرحمن.
ويضيف: “تقدم غرفة طوارئ القضارف ، 3 وجبات يومية بشكل منتظم للمتواجدين داخل المراكز، كما يتم توفير جميع أدوات النظافة والصابون وأيضا تعمل الغرفة بشكل خاص على الاهتمام بتوفير احتياجات النساء خاصة المتعلقة بالجوانب الصحية، وأيضا لأن أغلب فئة الوافدين من النساء والأطفال والذين يمثلون نسبة الـ 85%”.
ويوضح مجيب الرحمن، أن لجنة صحية في غرفة الطوارئ تعمل على مراقبة الوضع الصحي بشكل يومي داخل المراكز تحت رعاية مجموعة من الأطباء المتطوعين حيث يقومون بالإجراءات الأولية مثل الفحص والإسعافات. إلى جانب ذلك تهتم بتقديم الدعم النفسي للمقيمين داخل المراكز.
“كل هذا العمل هو عبارة عن جهد شعبي يقوم به الشباب عن طريق المناشدات التي نطلقها عبر المنصات الإعلامية وبعض الخيرين من أبناء الولاية بالإضافة إلى بعض التدخلات من المنظمات والمبادرات غير المنضوية تحت عمل الغرفة”. يقول مجيب الرحمن.
يشير عضو الغرفة محمد علي الزبير إلى ما يسميه بـ “أخطاء في تصورات الناس أن ما تقوم به غرفة الطوارئ هو عمل مدفوع الأجر ما أدى إلى وقوع بعض أعضاء المبادرة في مواقف محرجة جراء ذلك، وما نريد تاكيده بشكل اساسي أن ما تقوم به الغرفة هو عمل تطوعي خالص”.
وأشار علي، إلى أن غرفة الطوارئ بالولاية استقبلت حتى الآن ما يفوق الـ 8 آلاف شخص واغلبهم من الاجانب يحملون جنسيات 15 دولة مختلفة، ونعمل على استضافتهم لمدة 72 ساعة بالتعاون مع الجهات المختصة لتسهيل أجراءات خروجهم عبر معبر محلية القلابات التابع لولاية القضارف وهي المنطقة الحدودية مع إثيوبيا حيث تم تفويج 5 ألف شخص تحت إشراف الغرفة.
تحديات
رغم التحديات، يقول مجيب الرحمن، أن الغرفة استطاعت خلال ما يقارب الشهر والنصف أن تصمد في مواجهة الموجات الإنسانية العاجلة للفارين من العاصمة إلا أنه يرى بعض التحديات في مقبل الأيام نتيجة “لأننا على مشارف دخول فصل الخريف وهناك بعض المراكز غير مهيأة للصمود أمام الأمطار مما يتطلب توفير مخيمات للوقاية من هطول الأمطار ومن المعروف أن موسم الأمطار ترتفع فيه نسبة الإصابة ببعض الأمراض والذي يتطلب مجهودات إضافية للوقاية الأولية منها”.
أكبر التحديات التي واجهت الغرفة وفقا لعضو الغرفة محمد علي أحمد الزبير، القضية المتعلقة بالمسؤولية المباشرة للاشخاص الوافدين من الخرطوم خصوصاً الاشخاص ذوي الامراض المزمنة بسبب ضعف درجة الاستجابة للكارثة التي يمر بها النازحين من قبل المؤسسات المعنية الحكومية منها ومنظمات المجتمع المدني. إلا أن الغرفة استطاعت حتى الآن تجاوز هذه العقبات بمستوى مقبول، “استطعنا توفير المعينات الخاصة لهؤلاء المرضى من وجبات وأدوية مثل أمراض الضغط والسكري وغيرها”.
تحدٍ مماثل يتحدث عنه المتطوع في مركز إيواء بمدينة ود مدني، عرابي النو، متمثل في أن الجهود الشعبية والمبادرات تركزت حول تقديم الوجبات للوافدين، إلا أنه بمرور الوقت أصبحت هناك أعداد من الأسر والشباب بلا مأوى لعدم وجود مراكز للإيواء.
مخاوف
يبدي عضو غرفة طوارئ القضارف مخاوف متعلقة بتزايد في توافد الأسر السودانية. ويقول: “كنا نستقبل في بداية الأمر تقريبا بين 5 – 10 اسرة يومياً إلى أن العدد ارتفع حيث أصبح معدل الاستقبال اليومي ما بين 15-20 أسرة اي بمعدل 70شخصاً يومياً مما ادى إلى امتلاء معظم مراكز الايواء بالولاية”.
ويرى محمد علي، أنه ونتيجة للحاجة المتزايدة هناك مخاوف من أن يتفاقم الأمر ليصبح اكبر من امكانية المتطوعين والمتبرعين والذى يتطلب تضافر جهود مؤسسات وجهات من خارج حدود الولاية لتلبية احتياجات الفارين من العاصمة السودانية الخرطوم في ظل نقص حاد تشهده الغرفة خاصة في وسائل الحركة حيث لا تمتلك الغرفة حتى الآن سيارة لنقل الاحتياجات إلى مراكز الإيواء.
وينتقد عضو غرفة طوارئ القضارف، ضعف التدخل الحكومي. ويقول: “كان التدخل الحكومي في بداية الأمر عبر منظمة تكاتف الخيرية وبالرغم من ضعفه لكنه توقف تماما الآن بسبب تطاول أمد الحرب واستمرار توافد الفارين بصورة يومية”.