نزوح وخوف واعتداءات.. واقع المسيحيين السودانيين في أعياد الميلاد

 عاين- 25 ديسمبر 2025

عيد الميلاد بالنسبة للسودانية، “سوزان حسين” تحول من مناسبة للاحتفال، إلى محطة أخرى في مسار نزوح طويل بدأ من أم درمان تحت القصف انتهت بها لمغادرة السودان لتحتفل بعيد الميلاد للمرة الثانية منذ اندلاع الحرب بعيدا عن ديارها.

“خروجي من بلادي كان بمثابة قطيعة مع تفاصيل دينية واجتماعية اعتادت عليها منذ طفولتها.. صوت الجرس قبل القداس، الترانيم السودانية، واللقاء الجماعي في الكنيسة.. اليوم أحتفل بالعيد، لكن الإحساس مختلف… أمان أكثر، وحرية أكبر، لكن الوطن غائب”. تقول سوزان لـ(عاين).

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، تغيّرت ملامح الاحتفال بالأعياد الدينية، لا سيما لدى المسيحيين الذين تركز وجودهم في مناطق شهدت مواجهات مباشرة، وتأثرت بالحرب مثل الخرطوم وأم درمان والجزيرة.

 النزوح الواسع، وتضرر الكنائس، وتراجع القدرة على ممارسة الشعائر بشكل علني، أعادت تشكيل معنى عيد الميلاد من مناسبة جماعية إلى طقس فردي أو عائلي محدود، داخل البلاد أو في دول اللجوء. بحسب شهادات لاجئين، وصحفيين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، وقيادات شبابية كنسية لـ(عاين).

تقول سوزان حسين: إن “أول إحساس راودها بعد الخروج من السودان لم يكن الفرح بالنجاة، بل الرغبة في الوصول إلى مكان آمن “حتى لو كان خارج الوطن”. وتضيف: أن “ما خفف قسوة التجربة هو ما لمسته من تضامن داخل المجتمع المسيحي منذ لحظة وصولها إلى كوستي، حيث استضافتهم أسرة مسيحية، وجلسوا معًا يتحدثون عن الإيمان في زمن الحرب. “كنا نتأمل في فكرة أن العالم مضطرب ومتقلب، لكن الرب ثابت، وأنه لم يعد الناس بحياة وردية، بل قال إن الحروب ستأتي، والسؤال الحقيقي هو: كيف نساند بعضنا بعضًا خلالها”، تقول.

كنيسة في العاصمة السودانية الخرطوم- أرشيف

وترى سوزان، أن هذا النوع من السند ليس جديداً على المسيحيين في السودان، إذ إن كثيراً منهم ينحدرون من مناطق عاشت حروباً طويلة، ما أكسبهم خبرة جماعية في التعايش مع الألم والتكافل في أوقات الأزمات. وتشير إلى أن كنيستها الإنجيلية في الخرطوم تضررت خلال الحرب، حيث تعرّضت بعض الممتلكات للنهب، من كراسٍ وأجهزة عرض وآلات موسيقية وزينة، بينما لم يتعرض المبنى نفسه لاشتباكات مباشرة، واقتصر الضرر على “خدوش بسيطة”، حسب سوزان.

ورغم أنها لا تعتبر نفسها تعرضت لاستهداف مباشر بسبب دينها، إلا أنها تقول: إن “الإحساس بالخطر كان حاضراً بقوة.. أشعر أن الحرب استهدفت الجميع، لكن كنت أشعر أن كوني مسيحية قد يعرّضني للأذى”، وتشرح سوزان، مضيفة أنها وأسرتها اضطروا إلى ارتداء العباءات وغطاء الرأس أثناء التنقل، كوسيلة حماية في نقاط التفتيش، رغم أن ذلك لا يعبّر عن هويتهم الدينية. وتصف لحظات الخوف المرتبطة بإمكانية السؤال عن الدين بأنها كانت من أكثر ما يثير القلق، خاصة مع انتشار مقاطع تتحدث عن استهداف مسيحيين من أطراف مختلفة في النزاع، مؤكدة أن الأذى لم يكن جديداً، “فنحن كمسيحيين لم نسلم منه لا قبل ثلاثين عاماً ولا بعدها”.

وتوضح سوزان أن هذا هو ثاني عيد ميلاد تقضيه خارج السودان، بعد الأول في أوغندا، والثاني الآن في القاهرة. وتقول: إن “الفرق كان واضحاً، خاصة في شرق إفريقيا حيث يظهر العيد في الفضاء العام، وتُمارس الطقوس علناً دون خوف. “أن تلبس كما تشاء، وتُرنّم بصوت عالٍ، وتمشي في الشارع دون لافتات تحرّم تهنئة المسيحيين بالعيد، كان شعوراً جديداً ومفرحاً”، تضيف، مشيرة إلى أن وجود أعداد كبيرة من النوبة هناك خلق حاضنة اجتماعية خففت قسوة الغربة.

ورغم ذلك، تؤكد أن ما تفتقده أكثر من أي شيء آخر هو التفاصيل المرتبطة بالسودان نفسه: الترانيم السودانية، صوت الجرس قبل القداس، الونسة، القساوسة، وبيئة الكنيسة المحلية. “هذه الأشياء مرتبطة بالوطن أكثر من ارتباطها بالمكان”، تقول. وتشير إلى أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين داخل السودان كانت، رغم كل شيء، قائمة على التعايش، حيث كان الجيران يتبادلون الزيارات في الأعياد، في رمضان والأضحى كما في عيد الميلاد، وهي روح ترى أنها ما تزال حاضرة حتى في المنفى، حيث شاركت صديقات مسلمات معها حضور الكنيسة.

وتختم سوزان بقلق عميق من أن يؤدي استمرار الحرب إلى تراجع الوجود المسيحي في السودان، أو محو أثره التاريخي والروحي، من الكنائس القديمة إلى المخطوطات والإرث المرتبط بكوش. “هذا كابوس حقيقي”، تقول، قبل أن توجه رسالة للسودانيين تحت القصف، متمنية لهم السلام والحماية، وأن تلبي احتياجاتهم النفسية والجسدية، مؤكدة أن الإيمان — بالنسبة لها — ليس وعداً بحياة مثالية، بل قوة للبقاء في زمن الحرب.

اختفت الطقوس العلنية التي كانت تعبر عن فرحة المسيحيين بميلاد السيد المسيح، وأصبح الاحتفال مقتصراً على الصلاة فقط، وبشكل محدود، بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وغياب حماية الدولة لحقوق الأقليات الدينية

صحفي مختص في قضايا الأقليات الدينية

يؤكد شمسون يوحنا إسماعيل، صحفي مختص في قضايا الأقليات الدينية، في حديثه لـ(عاين): أن المسيحيين في السودان تأثروا بشكل كبير بالحرب الحالية، بعدما عانوا تاريخياً من التضييق على حرية العبادة وامتلاك دور العبادة، خاصة في عهد النظام البائد. يقول شمسون إن هناك طقوساً محددة مرتبطة بعيد الميلاد كانت تُمارس قبل الحرب، مثل مسيرات يوم 24 ديسمبر لإعلان ميلاد السيد المسيح، وصلاة مسائية، وتزيين الكنائس بترتيب الزينة وشجرة الميلاد، إضافة إلى تحضير الحلويات وارتداء الملابس الجديدة. وكانت تُقام أيضاً “الشركة المقدسة” في يومي 26 أو 27 ديسمبر، تشمل وجبة جماعية واحتفالات شعبية في بعض المناطق، مثل جبال النوبة وجنوب السودان.

مع اندلاع الحرب، اختفت هذه الطقوس علناً. يقول شمسون: “منذ السنة الأولى للحرب، وقبل خروج الدعم السريع من الخرطوم، لم يكن هناك إمكانية لإقامة الطقوس حتى داخل البيوت، بسبب الخوف وعدم القدرة على الخروج للصلاة أو التجمع”. وتحوّل الاحتفال إلى طقس فردي محدود داخل الكنائس أو المنازل، مع اختفاء المسيرات والتزيين والتحضيرات التقليدية. بعض القساوسة والمؤمنين تعرضوا للتهديد، فيما تحظر قوانين الطوارئ التجمعات في الولايات الآمنة. ويضيف أن الاعتداءات والكتابات العدائية على الكنائس في ولايات مثل البحر الأحمر تظهر استمرار انتهاك حرية الدين وممارسة الشعائر الدينية.

جانب من عمليات تخريب في مقر كنيسة بمدينة أم درمان

وتشير تقارير صادرة عن المفوضية الأمريكية للحريات الدينية الدولية (USCIRF) إلى أن أكثر من 165 كنيسة أُغلقت نهائياً نتيجة الدمار أو الاحتلال العسكري، بينها الكاتدرائية الأنجليكانية في الخرطوم التي حوّلتها قوات الدعم السريع إلى ثكنة عسكرية، أثناء سيطرتهم علي الخرطوم كما أسفر قصف كنيسة العزبة المعمدانية في الخرطوم بحري عن مقتل 11 شخصاً، بينهم ثمانية أطفال.

وامتدت القيود الأمنية إلى حياة النازحين: في مدينة وادي حلفا شمال السودان مثلاً طُلب من المسيحيين الحصول على إذن مكتوب لإقامة صلوات عيد الميلاد.

ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة تضامن مسيحي عالمي (CSW)، تعرضت كنيسة المسيح السودانية في مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة لهجوم عنيف من قبل قوات الدعم السريع في 30 ديسمبر 2024. وقع الاعتداء أثناء أداء صلاة أعياد الميلاد، حيث اقتحم المسلحون الكنيسة، وقاموا بنهب ممتلكاتها والاعتداء جسدياً على المصلين، مما أسفر عن إصابة 14 شخصاً على الأقل، بينهم نساء وأطفال. وأفادت المنظمة أن القوات أجبرت 177 شخصاً على الفرار من المبنى تحت تهديد السلاح، مع توجيه تهديدات صريحة بتصفية المسيحيين في المنطقة، مما منع المجتمع المحلي من العودة للكنيسة منذ ذلك الحين خوفاً على حياتهم. وأدان ميرفين توماس، رئيس المنظمة، الحادثة معتبراً إياها انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي واستهدافاً لمنشآت دينية تُستخدم غالباً كملاجئ للمدنيين الضعفاء.

نتيجة لهذه الظروف، تحول عيد الميلاد في 2024 و2025 من مناسبة عامة للاحتفال إلى طقس سري محدود، تقتصر فيه المشاركة على صلوات فردية أو جماعية صغيرة، مع اختفاء المسيرات، والتزيين، والتحضيرات التقليدية، في ظل استمرار تهديد حياة المدنيين والقساوسة وغياب حماية الدولة لحرية ممارسة الشعائر الدينية.

80 بالمئة من الكنائس في السودان أصبحت غير صالحة لممارسة الشعائر الدينية

رئيس الاتحاد العام للشباب المسيحي السوداني

يشير رئيس الاتحاد العام للشباب المسيحي السوداني، أسامة سعيد موسى كودي، في مقابلة مع (عاين) إلى حجم الضرر الذي لحق بالمؤسسات الدينية المسيحية خلال الحرب، مؤكدًا أن حوالي 80% من الكنائس في السودان أصبحت غير صالحة لممارسة الشعائر الدينية؛ بسبب التدمير الكامل أو الاستيلاء العسكري، لا سيما في ولايات مثل الخرطوم. ويوضح أن بعض الكنائس لا تزال تحت سيطرة القوات المسلحة، وأشار كومي إلى أن أكثر من 9 أعضاء من الاتحاد وشاب مسلم تم اعتقالهم في نقاط تفتيش ومعتقلات مختلفة، ضمن حملة شملت قيادات وشباباً مسيحيين، تحت تهم ظالمة تتعلق بالإرهاب -بحسب كومي.

يشير كودي إلى أن أنشطة الاتحاد في مختلف مناطق السودان توقفت أو تقلصت بشكل كبير بسبب التضييق العام ووضع الحرب الراهن، مما جعل أي نشاط، حتى لو كان محدوداً، يعرض لملاحقة أو اعتقال الأعضاء. ويؤكد أن موقفهم في الاتحاد يقوم على الدفاع عن حقوق الإنسان عامة، وليس حقوق المسيحيين فقط، داعياً إلى دولة علمانية تضمن المساواة واحترام التنوع الديني. ويشير كومي إلى أنه برغم هذا القمع، يحرص الاتحاد على نشر رسائل السلام والمحبة خلال أعياد الميلاد، مطالباً بوقف الحرب وتحقيق الاستقرار، لتكون الفرصة متاحة لكل السودانيين للعيش بحرية وسلام ومحبة.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *