أردمتا.. النزوح من مخيم النزوح

عاين- 23 أكتوبر 2025

على أطراف مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور، حيث غطت الرمال والحشائش بقايا البيوت الطينية والخيام القديمة، يقف مخيم أردمتا شاهدًا على أحد أكثر فصول العنف السوداني قسوة. أنشئ المخيم مطلع الألفية الثالثة كمأوى مؤقت للنازحين الفارين من موجات القتال الأولى في دارفور، لكنه تحول لاحقًا إلى حي شبه دائم. هناك، تشكّل مجتمع هشّ، وبنوا بيوتًا من الطين، وأقاموا سوقًا ومدرسة ومركزًا صحيًا صغيرًا.

بحسب بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد)، بلغ عدد سكان المخيم نحو 28 ألفًا عام 2016، ثم ارتفع إلى ما يقارب 80 ألفًا قبل اندلاع الحرب الأخيرة في 2023. كان “أردمتا” رمزًا لبقاءٍ هشّ وسط منطقة مضطربة، حتى اجتاحه العنف مرة أخرى، في مطلع نوفمبر 2023، دخلت قوات الدعم السريع حيّ أردمتا بعد هجوم على القاعدة العسكرية المجاورة له. خلال أيام قليلة، تحوّل المخيم إلى ساحة تصفية جماعية.

تقارير الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش أكدت مقتل أكثر من 800 مدني، بينهم نساء وأطفال، وتحدثت عن عمليات إعدام ميدانية واغتصاب ونهب واسع. منظمة العفو الدولية وصفت ما جرى بأنه “عنف إثني ممنهج يستهدف المدنيين من المساليت”.

شهدت المنطقة انهيارًا كاملاً في البنية الاجتماعية والإنسانية. فبعد المجزرة، فرّ الآلاف سيرًا على الأقدام نحو الحدود التشادية، بينما بقيت قلة ممن لم تملك ثمن الرحيل. اليوم، تُرى في أردمتا بيوت محروقة، مدرسة خالية، ومركز صحي ميداني بالكاد يعمل بجهود منظمة Concern Worldwide التي رممته عام 2024 لتقديم إسعافات محدودة.

جانب من مخيم اردمتا القريب من مدينة الجينية عاصمة ولاية غرب دارفور

في قلب الخراب، تعيش عائشة عثمان آدم، وهي في عقدها السادس، بين أطلال بيتها في“أردمتا”. وتقول لـ(عاين): “الحرب الجابتنا، لينا أكثر من عشرين سنة. هدومي كله شالو، وعفشي ما بقي فيهو حاجة. بخاف لكن الموت واحد في أي مكان.”

فقدت عائشة نحو خمسين من أقاربها، وبقيت وحيدة بعد أن نزح الجميع إلى تشاد. تقضي أيامها تجمع الحطب وبيعه في السوق لتأكل، تقول ببساطة قاسية:

“لو لقيت بأكل، لو ما لقيت بحمد الله”.

هذه الشهادة تختصر معاناة النساء اللواتي بقين في المخيم بلا موارد ولا حماية. وفق تقديرات المنظمات الإنسانية، انخفض عدد سكان أردمتا بعد هجوم 2023 إلى أقل من عُشر ما كان عليه، معظمهم من النساء المسنات أو من انقطعت بهن السبل.

انهيار الخدمات

أدى تدمير البنية التحتية إلى شلل تام في الخدمات. فقد احترقت المدرسة الوحيدة، ولم تعد فيها صفوف أو طلاب. أما المركز الصحي، فيعمل بطاقة محدودة لمعالجة عدد من حالات سوء التغذية، بينها 27 حالة شديدة الخطورة، بحسب تقرير منظمة Concern Worldwide. المياه باتت شحيحة بعد تضرر المضخات اليدوية التي كانت يوناميد قد سلّمتها عام 2017، والخزانات لم تُرمم بعد.

تقول عائشة بشارة محمد، وهي نازحة فقدت أسرتها في الحرب: “كلهم اتشتتوا، أمي وإخواني ما لاقياهم. بناتي وأولادي ما لاقياهم، قاعداين أنا والعجوز وعشة وأمينة.”

تصف “عائشة” الحياة بأنها “بسيطة وبلا أمان”. وتضيف لـ(عاين): “نخاف لكن نقول شنو. الطريق كعب، وناس كتير كتلوهم في أردمتا.”

كلماتها تعكس الانقطاع التام بين الناجين والعالم الخارجي. غابت المنظمات الإغاثية الكبرى عن المخيم بسبب انعدام الأمن، بينما يعتمد الباقون على تبرعات محدودة تصل عبر متطوعين محليين.

نازحة في مخيم اردمتا – عاين

لم يعد أردمتا مخيمًا بالمعنى الإنساني، بل غابة يسكنها من تبقى على قيد الحياة. تقول مريم آدم النور، التي فقدت شقيقيها محمد ومصطفى في الهجوم: “الناس حيين في أردمتا دفنوهم قتلوهم.. الحكومة بتجيب حبة دقيق نأكل العنده قروش طلع، نحن ما عندنا.”

وتضيف: “نخاف بالليل أكثر، نسمع ضرب بندقية. ناس بالعربات بجونا، بقولوا المكان دا استلمنا، أمشوا. ونحن قروش ما عندنا نطلع.”

هذه الإفادات، رغم بساطتها، توضح حجم الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. فالمخيم الذي كان يؤوي عشرات الآلاف لم يعد يضم إلا بضع أسر، محاصرة بين الخوف والجوع وانعدام الأمل.

الأبعاد الإنسانية والتحليل الميداني

وفق تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة (OCHA)، تسببت الهجمات في غرب دارفور خلال 2023 في نزوح أكثر من 600 ألف شخص إلى تشاد، نصفهم تقريبًا من منطقة الجنينة. وتشير مفوضية اللاجئين (UNHCR) إلى أن معظم الفارين من أردمتا يقيمون الآن في مخيمات حدودية مثل “أدري” و“أركوي”، في ظروف صعبة ونقص حاد في الغذاء والمياه.

 ما حدث في أردمتا بعد الاجتياح والتصفية (نوفمبر 2023): والقتل والنهب الواسع وتفكك البنية المجتمعية. فراغ سكاني (ديسمبر 2023–منتصف 2024)، وهروب شامل وبقاء أقلية فقيرة أو مسنّة، وعاش ما تبقي حالة من الركود الإنساني (من منتصف 2024 حتى اليوم) مع غياب شبه كامل للخدمات وتراجع المساعدات؛ بسبب ضعف التمويل وصعوبة الوصول الأمني.

يقول تقرير Human Rights Watch الصادر في مايو 2024 إن “العنف ضد المساليت في أردمتا أعاد إلى الأذهان مشاهد الإبادة الأولى في دارفور عام 2003، في ظل إفلات تام من العقاب.”

أما مركز الدراسات الإفريقية للعدالة والسلام (ACJPS) فأكد أن الهجوم “أسفر عن مقتل أكثر من 800 شخص بينهم طلاب لجوء ومسؤولون محليين”.

هذا التراكم من الانتهاكات، دون آلية تحقيق مستقلة أو حضور فعّال للمؤسسات العدلية، جعل من المخيم منطقة معزولة خارج القانون، حيث البقاء مرهون بالصدفة.

البعد الاجتماعي والاقتصادي

اقتصاد أردمتا بعد الحرب يقوم على النجاة اليومية. النساء يجمعن الحطب، أو يصنعن الفحم ليبعنه في السوق، بينما يتبادل القاطنون القليل من المواد المتبقية. لا توجد شبكات دعم رسمية، ولا تحويلات مالية من الخارج.

كما أن الغلاء الحاد جعل شراء الطعام ترفًا. تقول عائشة عثمان: “حق نفطر ما عندي، نلقط حطب ونبيع ونمشي الكمائن عشان تشتغل.”

نازحة في أحد شوارع مخيم اردمتا

أما المياه، تأتي منذ 2017 عبر مضخات يدوية أصلحتها بعثة يوناميد، أما الآن فالأنابيب والخزانات تضررت ولم يتم إصلاحها. بشكل عام، ثمة شحّ في المياه النظيفة والصحية، ووفق مراقبين ميدانيين، ترتفع احتمالات تفشي الأمراض المنقولة بالماء مثل الإسهالات وسوء التغذية الحاد.

في المقابل، تحاول منظمات محلية صغيرة تنفيذ مبادرات محدودة لتوثيق المفقودين وتقديم دعم نفسي للنساء، لكن دون غطاء أمني أو تمويل كافٍ.

هشاشة الأمن ومخاوف المستقبل

ورغم توقف القتال الواسع منذ نهاية 2023، فإن الوضع الأمني لا يزال هشًا. عناصر مسلحة تسيطر على طرق الوصول إلى المخيم. بعض السكان تحدّثوا عن “ارتكازات” للدعم السريع داخل المنطقة.

تقول مريم آدم النور لـ(عاين): “بجو بقولو لينا المكان دا استلمنا، اطلعوا أمشوا. ونحن قروش ما عندنا نمشي.”

هذا الخوف الدائم يجعل من فكرة العودة الجماعية حلمًا بعيد المنال، خصوصًا في ظل غياب أي خطة لإيقاف الحرب وإعادة الإعمار أو التعويض.

“أردمتا” اليوم يُعد رمزاً لانهيار نموذج الحماية الإنسانية في دارفور. مخيم بدأ كملاذ مؤقت قبل عقدين، انتهى اليوم إلى مساحة خالية من الحياة.

من بقي فيه لا يتحدث عن مستقبل، بل عن يومٍ جديد يمكن أن يمرّ بسلام.

يختصر تقرير Concern Worldwide في ديسمبر 2024 الصورة بقوله: “الناس في غرب دارفور يحاولون حرفيًا جمع ما تبقى من حياتهم.”

وبين أنقاض المدرسة والمركز الصحي، تمشي النساء الثلاث — عائشة، عشة، ومريم — في صمتٍ ثقيل، يرددن: “خايفين، لكن قاعدين.. الموت واحد في أي مكان”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *