مقابر جماعية بدارفور.. وثائق وروايات الشهود
عاين- 25 يوليو 2023
يسترجع “سينغو آدم” أهوال الهجوم الذي وقع في الثامن والعشرين من مايو الماضى على أهالي بلدة مستري الواقعة جنوب مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور”. ويصف أدم مشاهد الرعب والذعر على وجوه أهالى البلدة التى أصبحت شبه خالية بنهاية ذلك اليوم تملؤها الجثث المتناثرة في الطرقات.
وآدم هو أحد الذين ساعدوا في دفن العشرات من الموتى الذين سقطوا جراء هجوم قوات الدعم السريع والمليشيات الموالية لهم على المواطنين، حيث غادر برفقة عشرات الآلاف من أهالى ولاية غرب دارفور لاجئين بحثاً عن مناطق أكثر أمنا لهم ولذويهم إلى معسكرات أدري بدولة تشاد.
ويعتقد “سينغو” أن عدد الذين دفنوا أكثر مما تم الإبلاغ عنه. حيث يقول في مقابلة مع (عاين):”بعض الناس من بلدة ميستري وأنا دفنا أكثر من 70 جثة في مقبرة جماعية تم حفرها داخل المدينة… كان من غير الآمن جدا القيام بأي شيء آخر سوى دفنهم بسرعة”. ويضيف قائلاً: “الطريق بين مستيري وتشاد مليء بالجثث المتحللة بالاخص بلدة مستيري حيث لا يوجد فيها أحد باستثناء الميليشيات الموالية لقوات الدعم السريع”.
ومؤخراً عثر على مقبرتين جماعيتين مع أكثر من 146 جثة تم التعرف عليها في ولاية غرب دارفور – وهو رقم يقول السكان المحليون إنه مجرد “قمة جبل الجليد” للمدنيين الذين قتلوا على أيدي قوات الدعم السريع شبه العسكرية والميليشيات المتحالفة معها.
وأفاد مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الأسبوع الماضي، أن السكان المحليين أجبروا على حفر مقبرة جماعية لـ 87 جثة يومي 20 و 21 يونيو في منطقة بالقرب من مركز شرطة الاحتياطي المركزي في الجنينة عاصمة الولاية.
“نخشى من احتمال وجود مقابر جماعية أخرى لم يتم الإبلاغ عنها في ولاية غرب دارفور”
المتحدث باسم الأمم المتحدة سيف ماجانجو
وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة سيف ماجانجو لـ(عاين): “إنهم يخشون من احتمال وجود مقابر جماعية أخرى لم يتم الإبلاغ عنها في ولاية غرب دارفور”. كما دعا ماجانجو إلى مزيد من التحقيقات. حيث يعد الاكتشاف الأخير لمقبرة جماعية خارج مدينة الجنينة، ليس سوى أحدث دليل يشير إلى عودة ظهور أعمال القتل العرقي في المنطقة”. ويشير وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث. قائلاً :”لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهل هذا الصدى القاسي للتاريخ في دارفور.”
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، تم العثور على مقبرة جماعية أخرى في أواخر مايو الماضى دفن بها ما لا يقل عن 59 جثة تم التعرف عليها بعد الهجوم على قرية مستيري الواقعة جنوب الجنينة.
واندلعت حرب الهيمنة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية قبل أربع أشهر، ومنذ ذلك الحين، استهدفت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها سكان دارفور الذين يغلب عليهم الأفارقة، ولا سيما من قبيلة المساليت في غرب دارفور.
يقول جمعة داؤود، وهو من مجموعة المساليت الأهلية فر من الجنينة إلى تشاد لـ(عاين ):”عند كل نقطة تفتيش يطرح علينا سؤال “يسألوننا [قوات الدعم السريع] عما إذا كانت الجنينة مكانا عربيا أم أنها مخصصة للمساليت – إذا أجبت بـ”المساليت” فسوف تقتل مباشرة”.
وأدى النزاع إلى نزوح ما لا يقل عن 668,000 مدني من دارفور قسرا داخليا.
وقد فرّ ما يقرب من نصف هؤلاء من ولاية غرب دارفور. كما فر 217,000 شخص آخر من سكان دارفور إلى تشاد، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد مع التدفق المستمر للاجئين من دارفور عبر الحدود هرباً من العنف.
واستنادًا إلى أبحاث الأقمار الصناعية من تحقيقين منفصلين يرصدان علامات الحروق في منطقة دارفور، قامت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها بتدمير أو حرق حوالي 30 موقعاً مختلفاً في أنحاء دارفور. وفي بعض الحالات، كما ذكر المحقق الرقمي مارك سنوك، هاجم الجناة مواقع في مناسبات متعددة، وأحرقوا القرى على الأرض وفقاً لأحد فرق البحث، و تشير بيانات المرصد إلى أن قوات الدعم السريع والقوات موالية لها هم الجناة لأنها القوات الوحيدة التي تنتشر في تلك المناطق والقادرة على تنفيذ مثل هذه الهجمات واسعة النطاق.
الجنينة
في قضية المقبرة الجماعية التي عُثر عليها بالقرب من الجنينة، قال مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن من دفنوا في المقبرة قتلوا على أيدي قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها في الفترة من 13 إلى 21 يونيو في منطقتي الجنينة والمدارس والجمارك. وذكرت الأمم المتحدة أن بعض المدفونين هم ضحايا أعمال العنف التي أعقبت مقتل والي غرب دارفور، خميس أبكر، في 14 يونيو الماضى.
وكان جمعة داؤود نزح بالفعل من نزاع دارفور السابق عام 2003 وعاش لعقود في مأوى داخل الجنينة. وأضاف: “لكن مع اشتداد الحرب، خاصة بعد مقتل الوالي خميس أبكر في 14 يونيو، قررنا الفرار إلى قاعدة قيادة الجيش، شمال العاصمة”. حيث حاول داؤود التحرك مع ما يقرب الـ100 شخص، لكن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها منعتهم، وأطلقت النار على عدة أشخاص في هذه العملية .
ويقول داؤود: “بعدها طلبنا الحماية من شرطة الاحتياطي المركزي”، لكن “قائد القوة هناك رفض استقبالنا وأمرنا بمغادرة المنطقة على الفور” على حد قوله. وأثناء محاولته مغادرة الجنينة إلى مخيم أدري للاجئين في تشاد، قال داؤود لـ(عاين) إن المهاجمين قتلوا زوجته، تاركة خلفها ثلاثة أطفال.
مستيري
وفي منطقة مستيري تم دفن ما لا يقل عن 59 شخصاً في مقابر جماعية بعد أن هاجمتهم قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها في الساعات الأولى من صبيحة 28 مايو الماضى، ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش. هاجمت قوات الدعم السريع المنازل وأطلقت النار على المدنيين الذين حاولوا الفرار من مكان الحادث، حيث طاردت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها عشرات المدنيين الذين سعوا للاختباء في المدارس، حسبما أفادت هيومن رايتس ووتش ، وأطلقت النار على جميع الرجال.
وقال سينغو آدم وهو أحد شهود العيان لـ(عاين): إن “الهجوم على مستيري كان مخططاً جيداً ، حيث تجمعت قوات الدعم السريع والميليشيات الموالية لها حول المدينة مساء 27 مايو “. واضاف:”كنا خائفين، لكن لم يكن هناك مخرج لأن المدينة كانت محاصرة بالكامل”. وفي حوالي الساعة الخامسة صباحاً، بدأت قوات الدعم السريع في إطلاق النار في كل مكان – حيث تم إطلاق النار على الجرحى الذين تم نقلهم إلى داخل مسجد مستيري .
وأضاف آدم: “عندما كنت في شرق المدينة، شاهدت مقتل أكثر من 10 أشخاص – كنت أعرف شخصياً ثلاثة منهم، وكان من بين القتلى نساء وأطفال”. “نحن الآن في منطقة أدري التشادية، ولا أحد منا يمكنه فهم كيف نجونا في ذلك اليوم.”
إنكار الدعم السريع
ومع ذلك، نفت قوات الدعم السريع مسؤوليتها عن الأحداث في مستيري والجنينة وزعمت أن العنف الذي شهدته كلا الموقعين هو “صراع قبلي طويل الأمد، ولا يشمل قوات الدعم السريع”. ويقول المتحدث باسم قوات الدعم السريع إن هذا الصراع القبلي أشعلته المخابرات العسكرية “التي سلحت طرفي النزاع”. وأضاف المتحدث الرسمي أنهم على استعداد للتعاون مع جميع الهيئات الدولية من أجل “تعزيز وضمان وحماية العدالة وحقوق الإنسان في السودان”.
وبعد وقت قصير من إعلان الأمم المتحدة عن اكتشاف موقع المقبرة الجماعية في الجنينة، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية عن إجراء تحقيق جديد في الأحداث الجارية في دارفور.
ووفقاً للبيان الصادر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، فإنهم يتابعون تقارير عن عمليات قتل خارج نطاق القضاء، وحرق المنازل والأسواق، ونزوح المدنيين في الجنينة وأجزاء أخرى من دارفور. وقال خان “أثناء إعلان عن التحقيق الجديد لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “الحقيقة البسيطة هي أننا في خطر السماح للتاريخ أن يعيد نفسه – نفس التاريخ البائس”. واضاف: “إذا كانت عبارة (لن تتكرر مرة أخرى) تعني شيئًا، فلا بد أن تعني شيئًا هنا والآن لأهل دارفور الذين عاشوا مع هذا الغموض والألم وندوب الصراع لما يقرب من عقدين من الزمن”.