فض الاعتصام … مآسي وصدمات نفسية
“يسقط المجلس العسكري” عبارة كان يرددها أحد الشباب عند شارة المرور ، كانت ثيابه مهترئة ورثة، تلوث لونه الأسمر بقليل من التراب ، يبدو انه يجوب شوارع الخرطوم لأيام طويلة لايعرف ماهويته ، تجمع حوله عدد من الأشخاص وبعد محاولات استنطاقه اتضح أنه ناجٍ من فض إعتصام القيادة العامة فى الثالث من يونيو الماضي.
لم تعد حياته طبيعية من هول ماشاهده فى ذاك اليوم ، بشاعة القتل والتعذيب تركت بداخله جروحاً ربما يتخطاها بصموده وبمساعدة المعالجين أن تمكن من الوصول إليهم ، هذا حال العديد من ضحايا الثالث من يونيو، اثاراً نفسية أفرزتها مجزرة القيادة العامة (متلازمة فض الاعتصام).
بحسب وصف مختصون في الطب النفسي ، فإن هؤلاء الضحايا هم أشخاص يعانون من صدمات نفسية حولت حياتهم إلى مجرد كابوس يمكن أن يضيع حياة الكثير من الشباب ضحايا تلك المجزرة مالم يتم انقاذهم بصورة عاجلة عبر العلاج النفسي ، مبادرات ومعالجين نفسيين يحاولون إخراج الأعداد الكبيرة من الناجين من الصدمات المتفاوتة التي تعرضوا لها بعد الجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات النظامية فى فض الاعتصام ، مشاهد مؤلمة تلاحقهم افقدتهم الإحساس بالطمأنينة لايقوون على نسيانها وتجاوزها والعودة الى الحياة الطبيعية. قليل منهم تمكن من النجاة للمرة الثانية وتعافوا من الصدمة بعد أن خرجوا أحياء من المجزرة التي اخترقت وجدان السودانيين وتركت ندباً عميقاً يلازمهم على مر الزمان.
تتزايد الأعداد يوماً تلو الأخر بحسب معالجين نفسيين ربما تفوق احتمال العيادات والمتطوعين لعلاج الحالات فيما تسعى جهات مختلفة لتوسيع دائرة العلاج خاصة وأنها تواجه صعوبة في إنشاء مراكز كبيرة.
صراع نفسي
تركت مجزرة الثالث من يونيو الماضي (فض إعتصام القيادة العامة) ، اثاراً مريرة إذ لا تزال اعداداً كبيرة من الناجون من هذه المجزرة تواجه صدمات لم يتمكنوا من تجاوزها ، تلاحقهم ذكريات ومشاهد بشعه لم يروها قط طوال حياتهم. “محمد” احد الناجين من تلك المجزرة يحكي قصته لـ(عاين) حيث قال انه يحاول ان يتعافى ويذهب الأن لمجموعات الدعم النفسي عله يستطيع تجاوز ما حدث لكنه لا يستطيع تخطي ذلك ، بشاعة ما حدث لا تفارقه ابداً وليس بهذه السهولة أن تخرج من مخيلته.
يشارك محمد الأن مع منظمات طوعية فى محاولة لخلق ذهنية جديدة تعيده الى طبيعته وحياته التي لم يعد يجد نفسه فيها منذ الثالث من يونيو الماضي. كل ما شعر محمد بالتقدم في العلاج النفسي ينهار مجدداَ بسبب ذكريات صديقه الذي استشهد في المجزرة، فكلما جلس وحيداً أصيب بنوبة بكاء هستيرية، وما يزال “محمد” رغم ذلك يأمل الشاب العشريني فى التعافي والعودة مجدداً للحياة ولن يستسلم – على حد قوله.
صدمة
المعالجة النفسية، د. سليمى الشريف، ترى أن الصدمة النفسية التي حدثت للأشخاص بعد المجزرة لم تقتصر على الذين كانوا حضوراً أثناء المجزرة ، لكن شملت المتفرجين خارج البيوت وداخلها لارتباطهم بالموجودين في الإعتصام اقرباء واصدقاء ، وتمضي للتأكيد بان التأثير النفسي للمجزرة يطال حتى السودانيين الموجودين خارج البلاد .
واعتبرت د. سليمى الاخصائية النفسية في مركز “التروما” التابع لجامعة الأحفاد أن الصدمة التي حدثت للكثيرين معاناة نفسية طبيعية لحدث غير طبيعي ، مثلما حدث فى المجزرة لم يكن طبيعياً ، الامر الذي خلف مجموعة من ردود الأفعال التي تتفاوت من شخص لآخر ، البعض منهم يكون حزيناً ، لكن لم تظهر عليه أعراض كثيرة والبعض الآخر تظهر حالات فى صورة “كوابيس” وهؤلاء يرون صورة دائمة للمجزرة وحتى عند وجودهم في مكان آمن ، كما تظهر عليهم حالات القلق والاكتئاب ، وأعراض جسمانية ، فمنهم من لا يستطيع الأكل والنوم وتنتابهم حالات غضب وتهيج.
“كل هذه التصرفات تظل طبيعية لمدة شهر ، ليس عادياً ان يكون الشخص طبيعي بعد حدث مثل هذا ومن الصعب أن يظل الشخص طبيعياً مع حدوث هذه الأعراض ، وسيظل الشخص منزعجاً”. وتمضي سليمى للقول بأنها كاخصائية نفسية استقبلت العديد من تلك الحالات. “هذه هي أغلب الحالات التي وصلتنا ، وعلى حسب اختلاف الأشخاص هناك من تحولت حالاتهم لاضطراب واخرين لم تتوفر لهم المساندة النفسية فى وقتها” ، وأضافت ” ما استطيع قوله الان الأعداد فى تزايد أكثر من الأيام الأولى من فض الإعتصام”.
لماذا تزايدت الأعداد ؟
تقول د. سليمى تزايدت الأعداد بعد توسع دائرة الخدمة والمساندة النفسية وأطباء متواجدين وتحسن الحالات شجع آخرين لا يرغبون في المجيء الى مراكز العلاج ، وأضافت “نحن نعمل حالياً مع الأطباء النفسيين بالتعاون مع جهات أخرى لتقديم خدمة متكاملة ويوجد تحسن كبير ، ونعمل مع المصابين واسر الشهداء وبعض الشباب المتأثرين وجزء كبير منهم لم يحضر المجزرة ، هناك تحسن كبير في بعض الحالات عادوا الى عملهم والبعض أصبح يخرج من منزله بصورة عادية ويعود للحياة الطبيعية”. وزادت “ثمة تساؤلات لا نستطيع الإجابة عليها معالجين الآن تتعلق بخصوصية الحالات ثم لأسباب امنية ايضاً بالاضافة لتقديرات أخرى لا نستطيع الحديث عنها إلا بعد إصدار التقرير السنوي للمركز. فقط استطيع ان اقول ان اكثر العبارات التي يرددها عندما يتحدثون عمن كانوا معهم فى الاعتصام وأنهم حملوا اشخاص ميتين على يديهم وعن الضرب والقسوة ” .
مجهودات وعقبات
الناشطة فى مجال حقوق الإنسان ، تهاني عباس ، قالت إن أعداد الذين تعرضوا إلى صدمات نفسية عقب فض إعتصام القيادة العامة فى الثالث من يونيو الماضي كبير جداً ، ونعمل على تحويلهم الى مراكز مختلفة مثل مركز الأحفاد “تروما سنتر” ومبادرة “مد يدك” وهي جسم مرتبط بنقابة أطباء السودان المركزية وتجمع المهنيين بجانب مجهودات فردية تطوعية من أطباء ومعالجين نفسيين.
وتضيف تهاني لـ(عاين) “لكن هناك مشكلات تواجهنا وهي ان الأطباء والمعالجين نفسهم كانوا جزءاً من الصدمة ويزيد عليهم انهم مطالبين بعلاج الحالات التي أفرزها فض الإعتصام ، هذه الحالات ذات طبيعة مختلفة منهم من لايمانع بالمجئ الى مراكز العلاج فيما هناك اخرون يتحفظون مايتطلب الذهاب اليهم فى مواقعهم ومنازلهم. “الآن مع تزايد الأعداد لم تعد العيادات والمجهودات الفردية كافية وهناك صعوبة فى تأسيس مراكز في الوقت الحالي هناك مشاورات بين تجمع المهنيين والجهات ذات الصلة حول كيفية توسيع دائرة المعالجة لتستوعب اكبر عدد”. وأشارت تهاني الى وجود اطفال باعمار مختلفة ومن الجنسين وسط المتأثرين .
متلازمة فض الإعتصام
وفى هذا الإطار كشف باحثون مختصون فى الطب النفسي عن ظهور حالات او مرض جديد او مايعرف بمتلازمة فض الإعتصام ، ويقول استشاري الطب النفسي ، البروفيسور علي بلدو ، أن فض الإعتصام بتلك الصورة المؤلمة فى الثالث من يونيو الماضي ، تشمل هذه المتلازمة الأشخاص الذين نجو من فض الاعتصام والذين أصيبوا إصابات متعددة أو الذين شاركوا في نقل الجرحى وجثث الشهداء او سماع اصوات النيران والحرائق والرصاص او الهروب من الميدان وكذلك الأشخاص الذين شاهدو تلك الأحداث عبر الوسائط او حتي من سمعوا بها. ويكشف بروفيسور بلدو في حديث لـ(عاين) عن اجراءه مسح لعينة شملت الفاً من الذين شاركوا وشاهدوا فض الإعتصام أظهرت إصابتهم بمتلازمة فض الاعتصام ، وهذا يؤدي الى الكثير من الأعراض الجسدية كالغثيان وضيق التنفس، وزيادة فى خفقان القلب، وفقدان الشهية ،عدم النوم ليلاً ، وعدم القدرة على التواصل جسديا مع الآخرين ، ونقص المناعة المؤدي الى امراض متعددة كالأنيميا وفقر الدم والهبوط الدموي الذي قد يؤدي للوفاة الحالات الخطرة والمتأخرة. وكما يشمل أمراضا جسدية لهؤلاء الثوار مثل الشعور بالصدمة الخوف الهلع التوتر وعدم القدرة على الكلام والأحلام الليلة المفزعة ، والكوابيس ، و البكاء المستمر وفقدان الثقة والرغبة فى الإنتقام لوم الذات والآخرين.
ويؤكد بلدو أيضا ظهور حالات فقدان الذاكرة والتجول في الشوارع دون هدي ودون معرفة الاسم والعنوان وهذا يسمى بـالخرف الكاذب او النسيان النفسي الناجم عن هذه الصدمة جنباً الى جانب الشعور بالرغبة في الصراخ والهروب من المنزل.
ومن الأعراض التي تصاحب هؤلاء الضحايا – حسب بلدو- استعادة الاحداث المحزنة كلما ما سمع عنها او راها اضافة الى تجنب الذهاب الى موقع الاعتصام والطرق المؤدية إليها.
ويوضح بلدو أن هذه الأعراض قد تؤدي للرغبة فى الانتحار والمشاكل الإجتماعية والأسرية كما قد تقود البعض للولوج فى عالم الإدمان للتخلص من هذه الأعراض ، وهذا يحتاج لمعالجات خاصة كالدعم النفسي والاجتماعي والعلاج النفسي التأهيلي ، والعرض على الأطباء المختصين للتعافي من هذه الصدمة خاصة اولئك الذين يجوبون الشوارع.
“لابد من إعادة التأهيل والدمج في المجتمع لضمان أفضل النتائج لأن هذه المتلازمة في تصاعد مستمر وهنالك الآف الأشخاص يعانون منها ولم يتمكنوا من تلقي العلاج اضافة الى مجموعات كبيرة من المفقودين فى المستشفيات والمراكز المختلفة والشوارع الذين يعانون من أثر الصدمة النفسية والنسيان النفسي ويعتبروا فى عداد المفقودين”.
ويختتم بلدو حديثه بتحميل المجلس العسكري مسئولية أوضاع هؤلاء الضحايا، مشيرا الى امكانية انقاذهم اذا تم التصرف بسرعة حيال هذه الحالة المأساوية. “يمكن التواصل معهم والوصول اليهم وإعادتهم الى وضعهم الطبيعي في أعقاب هذه المتلازمة التي اصبحت مرضاً جديداً بأمر الثورة والمجلس العسكري الحالي”.
مبادرات
وذكرت مبادرة “مفقودي القيادة العامة” أنها رصدت 40 مفقودا تم العثور عليهم ما بين المستشفيات وأقسام الشرطة ، فيما لا يزال 17 مفقود مؤكدين غير معلوم مصيرهم حتى الآن (10 من فض الاعتصام و 7 ما تلاها وما سبقها من أحداث ومظاهرات ومليونيات).
وتقول المبادرة أنها اعتمدت على نشرات من بلاغات الشرطة ، والتواصل بشكل مباشر مع الأُسر كمصادر لحصر أولي لعدد المفقودين حتى الآن. وتشرف اللجنة الطبية بالمبادرة على علاج أحد المفقودين تم العثور عليه بحالة نفسية غير مستقرة وعليه آثار تعذيب.
وأكدت المبادرة على أن مفقودي مجزرة القيادة العامة تعد قضية تحتاج لجدية أكثر وتعاون من المجتمع حتى يتم التعامل معها بالشكل الصحيح، داعية إلى العمل المشترك بين المنظمات الإنسانية والأطباء والجهات الأمنية حتى يتم حل هذه القضية.
وانتشرت خلال الأيام الماضية صوراً لشباب يجوبون شوارع الخرطوم يشتبه في أنهم ناجون من مجزرة القيادة العامة ، وضجت وسائل الإجتماعي بصورهم وقصصهم وردود أفعالهم حينما تأتي سيرة الثالث من يونيو ، أنشأ شباب وشابات صفحات على فيسبوك ومجموعات واتساب لمحاولة العثور عليهم وإخضاعهم للعلاج وإعادتهم للحياة الطبيعية سيما وان هناك عدد من المبادرات بشكل جماعي وفردي وأخرى تحت مظلة تجمع المهنيين السودانيين.