شمال السودان.. سموم تعدين الذهب تقترب من مصادر المياه

عاين- 24 أغسطس 2024

لا تزال الفيضانات التي غمرت ولايتين سودانيتين شمالي البلاد تشعر خبراء البيئة بالقلق من أن 700 ألف طن من مخلفات التعدين عن الذهب والتي تشمل مواد الزئبق والسيانيد السامتين من تسربها إلى مصادر المياه.

مطلع أغسطس الجاري اندفعت المياه بقوة جراء الفيضانات والأمطار التي استمرت لأكثر من 12 ساعة إلى شوارع محلية أبو حمد، وأوديتها ودمرت (13) ألف منزلا وفق إحصائيات صادرة من متطوعين مستقلين فيما تقول وزارة البنى التحتية إن السيول دمرت 11.5 ألف منزل وقُتل 23 شخصا؛ بسبب وقوع أسقف المنزل على رؤوسهم واختفاء ستة أشخاص.

تعتبر ولايتي نهر النيل والشمالية من أكثر المناطق المنتجة للذهب في السودان وترفد الخزانة الحكومية بحوالي 750 مليون دولار سنويا طبقا- لمحمد المعز الباحث في مجال البيئة والمتخصص في تتبع آثار التلوث الناتج عن التنقيب والتعدين في السودان.

 ويرى المعز في حديث لـ(عاين)، أن الحكومة لم تخصص سوى الفتات من هذا المبلغ ضمن المسؤولية الاجتماعية التي تزعم الشركات تنفيذها لمساعدة المجتمعات في بناء بعض المرافق الصغيرة أو رصف طريق ترابي في قرية نائية.

نفايات تحت الأرض

أما في وادي حلفا، فإن السيول التي شطرت البلدة الواقعة على الحدود مع مصر إلى نصفين خلال أغسطس الجاري فهي الأخرى تنتج عشرات الأطنان من الذهب والمعادن، وتعمل الشركات في محيط المدينة، وتضم أسواقاً قريبة من مناجم الذهب وخلال العامين الماضيين لقي ما لا يقل عن 20 عاملا مصرعهم؛ بسبب انهيار بعض المناجم البدائية.

في العام 2022 وعدت الشركة الحكومية للموارد المعدنية وهي هيئة حكومية لديها نفوذ كبير في قطاع الذهب والمعادن وعدت بالمساهمة في تشييد محطة مياه في وادي حلفا شمال البلاد بقيمة 1.5 مليون على أن تضع شركة دال ذات القيمة المالية والشركتين تمثلان القطاع العام والخاص كانتا تودان كسب ود الأهالي للمضي قدما في عمليات التعدين، لكن الآن وبعد عامين لم تنفذا محطة مياه الشرب، ويواجه المواطنون شح المياه، ويحصلون عليها لساعات محدودة أسبوعيا.

صورة متداولة لغرق أحد أسوق تعدين الذهب بمدينة أبوحمد شمالي السودان

أودت السيول والفيضانات والأمطار الغزيرة في وادي حلفا هذا الشهر بحياة ثلاثة أشخاص كما يواجه السكان خطر لدغات العقارب التي تظهر على سطح الأرض خلال موسم الفيضانات.

مناطق غير صالحة للعيش

يقول محمد المعز، إن “ولايتي نهر النيل والشمالية تمضيان إلى مرحلة خطيرة بسبب مخلفات التعدين”، ويشير إلى إن التحذيرات التي صدرت من أن المنطقتين لن تكونا صالحتين لعيش الإنسان صحيحة وواقعية قياسا بمستوى انتشار السموم”.

التحذيرات من أن المنطقتين لن تكونا صالحتين لعيش الإنسان صحيحة وواقعية قياسا بمستوى انتشار السموم

باحث بيئي

وينوه المعز، إلى  إن بعض شركات التعدين عندما تزعم بأنها تخلصت من النفايات، فإنها تدعي ذلك لأنها تدفن النفايات في باطن الأرض، وتريد خفض المصروفات الإدارية للتخلص من المواد الخطرة، لكن هناك طرقاً لمعالجة مياه التعدين من خلال معالجتها وإعادتها إلى البيئة التي جاءت منها.

وتواجه الشركة السودانية للموارد المعدنية – هيئة حكومية- انتقادات عنيفة على خلفية السيول والفيضانات التي يرجح ناشطون في مجال البيئة أنها نقلت آلاف الأطنان من السيانيد والزئبق إلى المساكن ومصادر المياه والزراعة في نهر النيل والشمالية خلال هذا الشهر.

ترى الناشطة في مجال حماية البيئة، أميمة حسين، والتي تقصت عن مخلفات التعدين شمال السودان، إن عشرات القرى التي يقطنها سكان لا يعرفون خطورة التنقيب قرب مساكنهم تضرروا من خلال ولادات مصابة بالعمى أو الشلل والسبب أن النفايات الكيميائية تقع بالقرب من مواقع يمارسون فيها حياتهم اليومية، دون أن يدروا أن السموم تحاصرهم.

وتابعت: “اندلعت عشرات الاحتجاجات في هذه المناطق قُمِعُوا من خلال السلطات الأمنية في ولاية نهر النيل، وفي بعض الأحيان تعتقد أن تعيين قادة الشرطة وجهاز الأمن يتم عادة من السلطة المركزية من لديهم القدرة على البطش بالاحتجاجات الرافضة لتنقيب الذهب، أو تلك المجتمعات التي تطالب بحصصها من هذه الثروات“.

وأردفت: “في العام 2022 أوقفت هيئة الاستخبارات العسكرية شركات روسية لديها علاقة بفاغنر وقوات الدعم السريع في ولاية نهر النيل كانت تعمل في تنقيب الذهب والسبب ليس حماية البيئة أو  الفساد، لكن لأن الخلافات بين البرهان وحميدتي كانت قد بدأت توا“.

وتضيف أميمة: “تقارير الطقس والنشرات الجوية تحذر من أن شمال السودان أصبح ضمن نطاق أحزمة الأمطار والسيول والفيضانات بالتالي يجب اتخاذ تدابير مشددة لمنع تسرب الزئبق والسيانيد ومخلفات التعدين إلى المياه والمدن والقرى ونهر النيل“.

لا يمكن التخلص من المخلفات

وتقلل أميمة حسين، من إصدار الحكومة أي ردة فعل للتخلص من مخلفات التعدين في ولايتي الشمالية ونهر النيل، وترى أن قطاع التعدين بالكامل والغ في منح الترخيص لشركات روسية وسودانية حتى خلال الحرب استقدمت وزارة المالية شركات روسية، وطلب منها إنتاج الذهب من نهر النيل والشمالية باعتبارهما من المناطق البعيدة نسبيا عن الحرب.

الصورة لسوق الذهب بمدينة أبوحمد في ولاية نهر النيل

وتابعت الناشطة: “تم إنشاء شركات جديدة بشراكة بين روسيا ورجال أعمال سودانيين يجدون دعما من جنرالات جهاز الاستخبارات التابع للجيش والمخابرات العامة والغرض الحصول على المال لتمويل الحرب ونفقات المؤسسات الحكومية“.

أحواض التعدين حول المدن

في أسواق تنتشر حول مناطق التعدين شمال السودان يحفر العمال أحواض بالطرق التقليدية لتصفية المواد الخام المنتجة من الصخور والوصول إلى مرحلة التنقية من المواد الشائبة يتم ذلك دون وضع قفازات أو قناع الوجه يقضون ساعات طويلة مع استنشاق مواد خطرة مثل الزئبق والسيانيد.

في أثناء السيول التي اجتاحت محلية أبو حمد دمرت المياه جميع الأحواض البدائية التي حفرها عمال التعدين، وحملتها باتجاه نهر النيل والقرى التي يقطنها آلاف السكان. أما في محلية وادي حلفا بالولاية الشمالية، فإن الفيضانات شملت مناطق التعدين الواقعة حول المحلية، واختلطت المياه الملوثة مع مياه نهر النيل ومناطق سكنية.

عينات أُخذت من أواني مياه الشرب بمناطق بربر وجدت اثبت فحوصات معملية تشبعها بمخلفات التعدين

استاذ جامعي مشارك في دارسة حكومية

ومع تصاعد التحذيرات بانتشار السرطان وعمى الأطفال حديثي الولادة شمال البلاد أجرت بعثة تضم خبراء البيئة وكليات النفط والمعادن بخمسة جامعات حكومية وخاصة دراسة في ولاية النهر النيل بمحلية بربر في سبتمبر 2021 عن مخاطر مخلفات التعدين وتحت حماية الحكومة الانتقالية في ذلك الوقت.

 تمكنت البعثة الميدانية من إجراء فحص لأكثر من سبع بلدات بمحلية بربر شملت “كنور” و”القوز” و”دار مالي” و”المكايلاب” و”بانت” و”النبوية” و”الكنزياب” و”السعدابية” و”الشقلة“.

 وتوصلت عمليات التقصي إلى أن هذه المناطق السكنية تقع قرب من معدات خلط صخور معدنية لاستخلاص الذهب إلى جانب الأحواض المائية، ويطلق عليها المعدنون التقليديون “غسالات الكرتة“.

عمليات طحن حجاز الذهب في مصانع تقليدية شمال السودان

وذكر أستاذ جامعي رافق البعثة في حديث مع (عاين) مشترطا حجب اسمه لتجنب الملاحقة الأمنية، أن البعثة حذرت في ذلك الوقت من أن السيول والفيضانات ستجعل مواقع مخلفات التعدين في السهول الفيضية لولاية النهر النيل تختلط مع مياه النيل ومساكن المواطنين.

وأضاف: “العينات التي أُخذت على سبيل المثال من الأزيار وهي الأواني الفخارية التي يستخدمها السكان لشرب المياه وحتى مكيفات التبريد وجدت مُشبعة داخلها مخلفات التعدين“.

وتابع الخبير البيئي والأستاذ الجامعي: “أُرْسِل التقرير وقتها إلى وزارة المعادن ومجلس الوزراء ووعدا باتخاذ خطوات جدية على الأرض، لكن الانقلاب الذي حدث بعد شهر من تقصي البعثة في محلية بربر أوقف الجهود الحكومية“.

وأردف: “التعدين يلحق الضرر بالإنسان والحيوان والنبات والمياه ونهر النيل من المناطق المشبعة بالسموم والكيماويات، ويجب إيقاف جميع الأنشطة المتعلقة بالتنقيب عن الذهب فورا واتخاذ تدابير كاملة والتخلص من المخلفات المتراكمة في السهول ووضع اشتراطات بيئية صارمة عن طريق وزارة المعادن والمجلس الأعلى للبيئة“.

مقترحات ضلت الطريق

ويقول الخبير البيئي والأستاذ الجامعي، إن “من بين المقترحات التي سُلمت إلى الجهات الحكومية تشجيع الزراعة في السهول الشاسعة في ولاية نهر النيل، حتى لا تتغول عليها شركات التعدين والقطاع التقليدي الباحث عن الثراء على حساب البيئة”.

ويرى أن الأراضي الشاسعة في نهر النيل والشمالية وحتى كردفان وهي مناطق تشهد حركة واسعة للمعدنين والشركات قد تكون مشبعة بالسيانيد والزئبق ونفايات التعدين، ولا توجد رقابة حكومية بالمعنى الواضح؛ لأن السلطات تركز على إيرادات الذهب على حساب البيئة.

السيطرة على بيع السيانيد

يقول المحاضر في هندسة التعدين بجامعة الخرطوم علي حسين عبد الباقي لـ(عاين): إن “السيول والفيضانات التي اجتاحت بعض المناطق شمال السودان، ومن بينها مواقع التعدين تجعلنا نتساءل عن مدى وجود طوارئ للتعامل مع مثل هذه الكوارث”.

الزئبق يتسرب من أسواق التعدين في السودان عبر الهواء نتيجة الحرق والصهر وعبر التربة والمياه المختلطة

مهندس تعدين

ويقول عبد الباقي، إن الزئبق يتسرب من أسواق التعدين في السودان عبر الهواء نتيجة الحرق والصهر وعبر التربة والمياه المختلطة للأسف، ففي أسواق التعدين الزئبق يتسرب للبيئة عبر عدة مصادر.

وأضاف :”هناك تأخير لتطوير التعدين التقليدي، ويؤدي إلى مضاعفة العبء البيئي، وفقدان القدرة على السيطرة من الجهات الرسمية على الرقابة تيتزايد يوماً بعد يوم، أيضا التكلفة الاقتصادية كبيرة جدا ونسبة إنتاج البلاد للذهب من التعدين التقليدي تقدر بأكثر من 70%”.

ويقول عبد الباقي: إن “أسواق التعدين في محلية أبو حمد شمال البلاد من أكبر الأسواق المنتجة للذهب؛ وبالتالي تعد الأكثر مصدرا لتسرب الزئبق إلى البيئة لضعف البنية التحتية في مناطق التعدين”.

الجهات الرقابية غائبة لضعف إمكانيات المجلس الأعلى للبيئة وعدم وجود رقابة دورية، ولا توجد شركات معالجة للمخلفات

مهندس تعدين

وتابع: “الجهات الرقابية غائبة لضعف الإمكانيات مثل المجلس الأعلى للبيئة وعدم وجود رقابة دورية، ولا توجد شركات معالجة للمخلفات“.

ويرى عبد الباقي، أن الحلول الإسعافية تقتضي نقل “الكرتة” فورا دون تأخير من أسواق التعدين في أبو حمد إلى مستودعات آمنة تحددها الجهات الرقابية والبعيدة عن الأودية والسيول.

كما يشدد عبد الباقي على إحكام السيطرة على بيع المواد الكيمائية مثل السيانيد والزئبق وفرض عقوبات على من يعملون في ذلك.