معتقلات طرفي حرب السودان.. تعذيب حتى الموت

عاين- 14 سبتمبر 2023

مع اشتداد المعارك بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع داخل القصر الرئاسي ومحيطه وسط العاصمة السودانية في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، وجد الشاب “م” نفسه معتقلاً بواسطة الحرس الجمهوري التابع للجيش السوداني قبل أن يفرج عنه ويجد نفسه معتقلاً مرة أخرى لكن هذه المرة بواسطة قوات الدعم السريع.

أمضى (م) الذي – نخفي أسمه هنا حفاظا على سلامته- في معتقلات طرفي النزاع 40 يوماً، منها ستة عشر يوما بمعتقلات الجيش، وبقية الأيام بمعتقلات الدعم السريع. وأُعتقل (م) بواسطة الحرس الجمهوري، من شارع النيل في 23 أبريل الماضي وهو الشهر الذي اندلعت في الحرب للاشتباه بأنه يتبع لقوات الدعم السريع. وفي 7 مايو وجد (م) نفسه محاصراً بين النيران المتبادلة بين قوتين عسكريتين، إحداهما تتبع لقوات الحرس الجمهوري والأخرى لقوات الدعم السريع.

يقول “م” في مقابلة مع (عاين): “كنت وسط الاشتباكات الدامية بين الجيش والدعم السريع التي وقعت يومها، رأيت القتلى يتساقطون واحداً تلو الآخر، لقد كان أمراً مريعاً لن يُنسى بسهولة”.

“وبعد اشتباكات دامية، استطعنا النوم بصعوبة، وعندما بزغ فجر اليوم التالي لم يكن هناك أثراً للجيش، يبدو أنه قرر الانسحاب، وبعد مدة من الزمن قررت ومعتقلين آخرين الخروج للشارع. يقول (م).

وتابع: في ذلك اليوم، كانت مشاهد الموت والدمار تطغى على كل شيء. قررت الذهاب شرقاً أملاً في الوصول إلى جسر المك نمر. ويضيف: “عندما وصلت إلى هناك وجدت المكان يعج بارتكازات الدعم السريع، لم يمهلوني كثيراً، فسرعان ما ألقوا القبض علىّ. وجدت نفسي معتقلاً من جديد، لكن هذه المرة بواسطة الطرف الآخر للحرب”.

قتل وتعذيب

يقول (م): “تم اقتيادي إلى مكان ما في السوق العربي وسط الخرطوم، كان المكان يعج بالمعتقلين وهو مكان الاحتجاز الذي شهد النصيب الأكبر من التعذيب، مقارنة بالمعتقل الثاني الذي تم اقتيادنا إليه، ويقع بجامعة السودان المفتوحة بحي الرياض شرق مدينة الخرطوم”.

أمضى (م) 24 يوماً بمعتقل الجامعة، بين 800 معتقل آخرين، بينهم ضباط يتبعون للجيش، ومستجدين وأفراد شرطة وتجار ومواطنين عاديين، دون أن تُوجه له أي تهمة.

وعلى الرغم من ضيق مكان الاحتجاز وشح مياه الشرب، أفاد أنه لم يتعرض للتعذيب، لكنه أكد أن معتقلين آخرين عُذبوا ، بينهم أشخاص فقدوا حياتهم جراء التعذيب الشديد، وأشار إلى أن عدد من المعتقلين كانوا مرضى نتيجة الإصابة بالأمراض. يقول (م) أنه لم يشاهد بعينيه تصفية أشخاص بواسطة ضباط أو جنود الدعم السريع، لكنه سمع  العديد من روايات المعتقلين التي تؤكد ذلك.

“ونتيجة للخوف من التعذيب أو الإصابة بالامراض وانعدام الرعاية الصحية، حاول بعض المعتقلين الهروب من الاعتقال إلا أن رصاصات الدعم السريع كانت هي الأسرع”. يقول (م) ويضيف: “كثيرون لقوا حتفهم أثناء محاولة الهرب”.

وعلى الرغم من هذه التجربة الصعبة، فإن (م) يأمل في أن تتوقف الحرب بأسرع وقت ويعاد إعمار السودان من جديد. وأن تجربته ربما تمثل تجارب آلاف المعتقلين الذين دفعوا ثمن تخبط طرفي النزاع في القبض على الأشخاص، دون وجه حق بسبب الاشتباه فقط في كثير من الأحيان.

تقرير صادم 

وإذا كان هناك سمة غالبة في الحرب التي اندلعت في الـ 15 من أبريل الماضي بين الجيش والدعم السريع فهي الانتهاكات الجسيمة للأفراد في العاصمة الخرطوم وللجماعات في إقليم دارفور. الأمر الذي أكده تقرير “معتقلات الموت” الذي أصدره محامو الطوارئ الذي رصد سلسلة الانتهاكات التي تصنف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، منذ اندلاع الحرب، بما في ذلك القتل والاختطاف والاعتقال والاحتجاز غير المشروع والإخفاء القسري والتعذيب والاغتصاب.

وبحسب التقرير يبلغ عدد مراكز الاعتقال التابعة لقوات الدعم السريع بولاية الخرطوم (44) مركزا، بينما يبلغ عدد مراكز الاعتقال التابعة للجيش (8) مراكز بعضها دائم والآخر مؤقت.

وبناءً على إفادات عدد من المعتقلين، يقول التقرير إن أوضاع معتقلات طرفي النزاع تختلف حسب ما إذا كان المعتقل دائم أم مؤقت، ويشير إلى أن معتقلات قوات الدعم السريع هي غالباً ما تكون عمارات سكنية أو مباني حكومية يُعتقل فيها المدنيين أسفل المبنى “البدروم” في المساحة ما بين 300- 200 متر.

وسبق وأعلنت المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري، عن رصدها 500 حالة إختفاء قسري، مرجحة أن تكون أعداد المفقودين أكثر من ذلك بكثير.

ويعد الإخفاء القسري، محرم وفق الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، التي وقع وصادق عليها السودان في وفي فبراير 2021، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي السوداني بموجب المادة (186 ن).

كما أن ممارسة هذه الجريمة بشكل منهجي وفي نطاق واسع يجعلها ضمن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب الواردة في النظام الأساسي لميثاق روما – نظام المحكمة الجنائية الدولية- المعاقب عليها بالقانون الدولي الإنساني وهي ضمن الجرائم التي لا تسقط بالتقادم أو التنازل.

ولفت تقرير “معتقلات الموت” الذي أعده محامو الطوارئ، أن المعتقلات تعاني من عدم التهوية والرطوبة العالية التي تؤدي إلى صعوبة في التنفس، الأمر الذي أدى إلى وفاة عدد من المعتقلين.

وحسب البحث وإفادات المعتقلين وجد معدو التقرير أن القاسم المشترك لجميع مراكز الاعتقال ودور الاحتجاز للطرفين هو ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية في مواجهة المدنيين والأسرى العسكريين.

وأكد التقرير، أن طرفي النزاع مارسا داخل مراكز الاعتقال جميع الجرائم فإلى جانب  التعذيب والسخرة هناك اعتداءات جنسية شملت الذكور والإناث.

وبالإضافة إلى الانتهاكات المتعلقة بالتعذيب داخل معتقلات طرفي النزاع، يلفت التقرير إلى كارثة انعدام الخدمات الصحية والطبية، إحدى أسباب وفاة المعتقلين الذين يمكثون لأشهر عديدة دون تلقي الرعاية الطبية للإصابات الناجمة عن التعذيب بأشكاله المختلفة.

وينوه التقرير إلى أن المعتقلين من أصحاب الأمراض المزمنة يعانون من عدم تلقي العلاج والأدوية المنقذة للحياة. إلى جانب أنه وفي جميع دور الاحتجاز يشرب المحتجزين مياه غير صالحة للشرب، مما أدى لكثير من الأمراض المعوية.

وضمن عدة محاور دعا التقرير إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين دون مسوغ قانوني والكشف عن قوائم المعتقلين والمخفيين قسريا والسماح لهم بالتواصل مع ذويهم، مع ضرورة السماح بدخول مراقبين مستقلين إلى جميع مراكز الاحتجاز.

كما دعا إلى تسهيل التحقيقات الفعالة والمستقلة من خلال السماح للخبراء المعنيين من “اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب” والأمم المتحدة بما في ذلك الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري او غير الطوعي، بدخول السودان للتحقيق حول مراكز الاعتقال.

جبهة حقوق

وتجدر الإشارة إلى أن تقرير “معتقلات الموت” ارتكز على رصد هذه الانتهاكات بالإضافة لإحصاءات ومواقع المعتقلات وعمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والاحتجاز غير المشروع في سجون قوات الدعم السريع والقوات المسلحة، حيث يتعرض المحتجزون لأصناف واسعة من التعذيب والمعاملة القاسية، تشمل التجويع والاعتداء الجنسي وتصل إلى الموت داخل المعتقلات.

وفي العاشر من سبتمبر الجاري، أعلنت 8 أجسام ومنظمات مدنية ومهنية مستقلة، توافقها على تأسيس المركز الحقوقي الموحد بالسودان، من أجل رصد وتوثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات، وتقديم العون القانوني والنفسي والمجتمعي لجميع الضحايا، والعمل على التقليل من إفرازات الحرب والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.

وتوافقت الأجسام على صيانة حقوق الإنسان وحماية حرياته الأساسية وحفظ كرامته الأصلية عبر العمل من خلال المركز للوصول لخلق شبكة حقوقية فاعلة لها القدرة على معالجة الآثار الناجمة عن انتهاكات الحرب وضمان عدم تكرار هذه المأساة وعدم الإفلات من العقاب وضمان تحقيق العدالة، والمحاسبة، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر.

ويقول عضو محامو الطوارئ، عثمان البصري:”إن الآليات الممكنة لإيقاف الاعتقالات أو الحد من الانتهاكات الواقعة على المدنيين تتمثل في ضرورة  الشروع في بناء جبهة للحقوق والحريات للقيام بإعداد ملفات الانتهاكات التي يقوم بها طرفي النزاع استعداداً لتقديمها للمنظمات المعنية مثل مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان والأمين العام للأمم المتحدة.

ودعا في حديث لـ(عاين)، إلى أن تتبنى المنظمات الحقوقية السودانية لحملة واسعة تفضي إلى تضامن حقوقي دولي من شأنه الضغط على حكومات العالم من أجل اتخاذ قرارات من شأنها الضغط على طرفي الصراع لإطلاق سراح المعتقلين والمخفين قسرياً.

وناشد عضو محامو الطوارئ، في مقابلة مع (عاين) كل المجموعات الحقوقية العاملة في الدفاع عن حقوق الإنسان الاستمرار في فتح بلاغات لكل الانتهاكات بدءا بالقتل خارج القانون والسلب والنهب والاعتقال السياسي والاختفاء القسري، إلى جانب الاغتصاب والعنف الجنسي، وصولاً لإعداد ملف يقدم للعدالة في أقرب وقت.

وأعلن تقرير “معتقلات الموت” رصد سلسلة انتهاكات تصنف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023. تشمل تلك الانتهاكات، القتل والاختطاف والاعتقال غير المشروع والاحتجاز غير المشروع والإخفاء القسري والتعذيب والاغتصاب.

الحق في التقاضي

ويقول المحامي نصر الدين يوسف، أن هناك مجموعة مبادئ في المواثيق الدولية والقوانين الداخلية السودانية، مثل قانوني الإجراءات الجنائية والقانون الجنائي اعتبرت جرائم مثل التعذيب من الجرائم الخطيرة والمحرمة حتى في حالة إعلان الدولة الطوارئ.

ولفت يوسف في حديث لـ(عاين)، أن هذه الجرائم وفقا للقانون والمواثيق الدولية تعد من الجرائم الخطيرة بغض النظر عن المؤسسة أو الأشخاص الذين يقومون بها، لذا فهي تمثل أساساً للمساءلة الجنائية.

كما أوضح أن جريمة الاعتقال غير المشروع، تعد كذلك من الجرائم الخطيرة لأنها تتعارض مع سيادة حكم القانون. وأشار إلى أن سيادة حكم القانون، تجعل المجتمعات مستقرة استناداً على تطبيق القوانين، بغض النظر عن الجهة التي تتم مساءلتها قانونياً، مع عدم وجود حصانة للجهة التي ترتكب هذه الجرائم، مشيراً لعدم وجود مبررات لارتكاب جرائم مثل الاعتقال غير المشروع أو جرائم التعذيب.

وشدد يوسف، على ضرورة إثبات الجرائم، عبر توفير البينات، سواء كانت بينات مباشرة أو غير مباشرة أو ظرفية عن كل جريمة. لافتا إلى أن هذه الجرائم لا تسقط منعاً لعدم تكرارها. وأكد، أن كل من تم حجزه حجزا غير مشروعا كل من تعرض للتعذيب له الحق في اتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة أي مؤسسة من المؤسسات أو أي شخص من الأشخاص.