مرضى السرطان.. اجساد ترتعش في انتظار جرعات النجاة  

عاين- 9 يناير 2023

بينما يرتعش جسد “خديجة” بفعل الحمَّى المتصاعدة، تعمل ابنتها جاهدة لتخفيض حرارتها عبر ترطيب جبينها ويديها بقطع من القماش المبلل بالماء في محاولة يائسة لتخفيف آلام والدتها المصابة بسرطان الدم المعروف باسم (اللوكيميا).

تجرى محاولات التطبيب اليائسة هذه داخل مركز إيواء مكتظ في ولاية الجزيرة لجأ إليه أبناء “خديجة” بعد أن غادروا منزلهم الواقع بمدينة بحري عقب اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل الماضي.

تقول “تهاني خضر” وهي الابنة البكر لخديجة، أن” قرار مغادرتهم لمنزلهم الواقع منطقة الحلفايا شمالي مدينة بحري، جاء بعد احتدام المعارك وسقوط عدد كبير من القذائف المدفعية داخل الحي. وأضافت في مقابلة مع (عاين): (خرجنا من بيتنا بحثاً عن مكان آمن بعيداً عن الرصاص والدانات، ولكي نوفر لأمي جرعاتها العلاجية).

توقف الخدمة

ما إن اشتدت وطأة الحرب على كثير من المدنيين الذين تقع مساكنهم في نطاق الاشتباكات، حتى توجهوا لأقرب الولايات الآمنة، ويتوفر فيها الحد المقبول من الخدمات، حيث شهدت ولاية الجزيرة الواقعة جنوبي ولاية الخرطوم نزوح آلاف الأسر التي تحوي أطفالاً ومرضى وكبار سن.

يعتبر مستشفى الذرة الواقع بمدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، من أكبر مراكز علاج الأورام في السودان، وتعرض لضغط كبير بعد خروج مركز الخرطوم عن الخدمة، ولنفس الأسباب المتعلقة بسياقات الحرب المتمثلة في تمدد الصراع وانتشاره، فإن مستشفى ودمدني كذلك خرج عن الخدمة في ديسمبر ليرسم بخروجه مستقبلاً مجهولاً لآلاف المرضى.

غرفة تلقي الجرعات بمستشفى النو في ام درمان

وبحسب أخصائية الأورام د. ندى عثمان، فإنه في العام الماضي كان مستشفى الذرة بودمدني يقدم خدماته لثلاثة آلاف مريض، وباستمرار شهور الحرب تضاعف العدد لثلاث مرات.

وتشير الإحصائيات إلى تصاعد أعداد مصابي السرطان في السودان، فقد كان (الذرة) يعالج حوالي ألف مريض شهرياً، أي بواقع ١٢ ألف مريض خلال العام.

د. ندى عثمان، أشارت إلى أن فترة ما قبل الحرب شهدت نقصاناً حاداً في جرعات العلاج الكيماوي، والآن وصل الأمر لحالة انعدام في الجرعات. مضيفة: “الأدوية كلها الآن غير متوفرة، بينما العلاج الإشعاعي، وبعد خروج مستشفى مدني عن الخدمة، فإنه يعمل في مستشفى واحد فقط، وهو مستشفى مروي شمال السودان”.

وتقع مدينة مروي الطبية في الولاية الشمالية بمحلية مروي، ويقدم المركز خدمات العلاج الكيميائي والعلاج الهرموني للثدي والبروستات، كما يوفر خدمات الكشف المبكر لسرطان الثدي وعنق الرحم.

وتسببت حرب إبريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في دمار العديد من المؤسسات الصحية الواقعة في مناطق النزاع بولاية الخرطوم ودارفور وولاية الجزيرة، حيث خرج عن الخدمة منذ بدايات الحرب مستشفى الذرة الذي يقدم الرعاية الصحية لمرضى السرطان بالعاصمة الخرطوم، إضافة للمرضى الآتين من مختلف الولايات، ويقع المستشفى بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني في وسط العاصمة الخرطوم.

 سوق سوداء

عقب اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، انتشرت عدة مبادرات طوعية كما تم افتتاح غرف طوارئ صحية يُشرف عليها متطوعون من بينها مبادرة متطوعي مستشفى النو في ام درمان الذي افتتح في الأسبوع الثاني من بداية الحرب. ويضم النو مركزاً للعلاج الكيميائي والأمراض السرطانية.

ويشير أسامة أبوبكر، وهو أحد الكوادر الطبية المتطوعة في هذا القسم برفقة عدد من المتطوعين، إلى أنهم بدأوا العمل باستقبال ٢٥ مريضاً يتلقون العلاج خلال يومين في الأسبوع، وفي البدايات استطاع المركز عبر إحدى المنظمات توفير ٥٤ علاجاً كيماوياً، والآن يقدم خدماته الصحية لـ ١٥٨ مريضاً، والعدد آخذ في الازدياد.

يبدي أسامة أبوبكر تخوفه من الموقف الحرج للعلاج بقوله: (المريض الواحد يأخذ حوالي ثلاث جرعات في الأسبوع، وهذا يعني أن كمية الجرعات التي تحصَّل عليها المركز مؤخراً قليل جداً مقارنة بحوجة المرضى).

متطوع يقدم الرعاية الطبية لمرضى السرطان

وفيما يتعلَّق بأسعار الجرعات العلاجية، فإنه يشير إلى أن الجرعة الواحدة وصل سعرها بعد اندلاع الحرب إلى ٥٠ ألف جنيه سوداني ـ أي حوالي ٥٠ دولاراً، وبسبب ندرة هذه الجرعات، فقد أصبحت تباع في السوق السوداء بسعر يصل لثلاثة أضعاف السعر الرسمي.

ويواجه آلاف السودانيين مشكلة صرف استحقاقاتهم المالية ومرتباتهم منذ مارس الماضي، مما أثر سلباً في حصولهم على احتياجاتهم المستمرة كالعلاجات.

في حديثها لـ (عاين) قالت أخصائية الأورام د. ندى عثمان، إن أدوية السرطان كانت تأتي عبر الإمدادات الطبية في الخرطوم، وبعد قيام الحرب أصبحت تأتي عن طريق المنظمات الطوعية بكميات قليلة مقارنة بأعداد المرضى، وجزء منها يدخل السودان عن طريق المهربين ليتم بيعها في السوق السوداء.

وعمت السودان أزمة علاجية حادة منذ العام ٢٠١٨ بعد الإجراءات المتمثلة في رفع الدعم الحكومي عن عدة أدوية، وتسببت الأزمة في ندرة وانعدام الأدوية المنقذة للحياة، بجانب أدوية الأمراض المزمنة.

ومنذ ٢٠١٧ تعاني (خديجة عبد المحمود) من سرطان الدم، وتضاعفت المعاناة بسبب عدم حصولها على علاجها الشهري بعد قيام الحرب، حيث تقول ابنتها إن والدتها أخذت آخر جرعة في شهر نوفمبر الماضي بمركز شندي، ومنذ مجيئهم إلى مدينة بورتسودان لم تخضع لأي علاج، مضيفةً: (العامل الأساسي في شفاء مريض السرطان هو الإسراع في تدارك المرض قبل أن يصل لمرحلة الانتشار الكامل، لكن بانعدام الدواء سيتطور الأمر سريعاً) تستطرد (تهاني) بحزن: (أسوأ إحساس يصيب الإنسان عندما يرى أحد أفراد أسرته يعاني بسبب المرض، ولا يستطيع أن يقدم له شيء).

كارثة كبرى

مع الازدياد المستمر لأعداد المصابين بالسرطان من فئة الأطفال، واستمرار العجز في توفير الاحتياجات الصحية لهم، ولدت منظمات مجتمع مدني تعمل على مساعدة هؤلاء الأطفال.

تعتبر منظمة كلنا قيم من أكبر المنظمات التي تعمل في مجال علاج أطفال السرطان عبر استراحات جوانا أمل.

في إفادة لـ(عاين) يشير عضو المكتب التنفيذي بمنظمة كلنا قيم محمد الشين العقيد، إنهم أسسوا استراحتين، الأولى كانت بمدينة الخرطوم، بينما الثانية بود مدني.

وبحسب (العقيد) فإن (جوانا أمل) توفر السكن المهيأ للطفل المريض ومرافقه، والتغذية العلاجية، والدعم النفسي، والتشخيص الطبي، بجانب توفير تكلفة العلاج المصاحب.

وفيما يتعلق بانعدام العلاج الكيماوي، فإنه يعتقد أهم أسباب الغلاء والانعدام ناتجة عن خصخصة الدواء عندما أصبح يُباع في الصيدليات الخاصة في عام ٢٠١٨م.

ويضيف قائلاً: (الكارثة الكبرى حلَّت بقيام الحرب، فقد خرجت استراحة الخرطوم عن الخدمة، مما جعلنا مضطرين لإجلاء الأطفال نزلاء الاستراحة إلى مدينة ود مدني).

دواء (الكاربوبلاتين) الذي يستخدم في علاج سرطان المبيض المتقدم ويشهد ندرة

حالت ظروف الحرب بين بعض الأطفال المرضى وبين متابعتهم الشهرية مع الأطباء، ويُبدي العقيد أسفه الشديد على هذا الأمر موضحاً أن المنظمة أصبحت لا تعلم عن هؤلاء الأطفال المرضى أي معلومة منذ بداية الحرب.

وصرَّح عضو المكتب التنفيذي بمنظمة كلنا قيم محمد الشين العقيد بأن استراحات” جوانا أمل “خسرت بسبب الحرب ما يُقدَّر بآلاف الدولات قائلاً: (نُملِّك المعلومة للشعب السوداني وكافة الداعمين والخيرين والشركاء، حيث فاقت خسارة استراحات جوانا أمل ٨٠٠ آلاف دولار).

مرضى نازحون

لم يسلم مرضى السرطان في السودان من مآسي النزوح المزدوج، ومثلما تم إجلاء أطفال مرضى السرطان من ولاية الخرطوم في بدايات الصراع، فإن ٢٥ طفلاً منهم عايشوا تجربة النزوح المزدوج من ولاية الجزيرة إلى حاضرة ولاية البحر الأحمر بورتسودان في ديسمبر الماضي عقب اجتياح الجزيرة من قبل قوات الدعم السريع.

ويبدي العقيد أسفه على انعدام العلاج حتى في المناطق الآمنة التي نزح إليها المرضى مؤخراً قائلاً: (انعدام العلاج يعني الانتكاسة ومن ثم يعني الموت).

يتواصل أنين مريضة سرطان الدم (خديجة عبد المحمود)، وكل يوم يمر عليها دون علاج يأتي على حساب صحتها، بينما أبناؤها من حولها تقيدهم سلاسل الظروف الاقتصادية وأوضاع الانهيار الصحي بالبلاد؛ مانعةً إياهم من الحصول على علاج يخفف آلام والدتهم.