الجزيرة تحت وطأة تشكيلات عسكرية وانفلاتات أمنية

عاين- 29 ديسمبر 2025

يثير استمرار وجود وانتشار عدد من التشكيلات العسكرية بولاية الجزيرة، أواسط السودان، جملة من المخاوف حول المستقبل الأمني بالولاية التي تعد واحدة من كبريات الولايات السودانية ذات الكثافة السكانية العالية، والنشاط الاقتصادي الكبير والتعايش المجتمعي الممتد، لقرون.

ومع اندلاع الحرب المستمرة في السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023، بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، وفي يومها الأول، عرفت ولاية الجزيرة التي كانت بعيدة عن الحروب التي دارت في السودان، ولأول مرة الحرب، إذ سيطرت قوات الدعم السريع على مقر اللواء الأول التابع للجيش بمنطقة الباقير بولاية الجزيرة، 20 كيلومترا من العاصمة الخرطوم، كما سيطرت معه على عدد من القرى والبلدات المجاورة، وبعد ذلك تقدمت القوات، واستولت على أكبر مجمع للتصنيع العسكري، وتلا ذلك تمددها على كل الجبهات المتاخمة انطلاقا من الخرطوم سواء من جهة الشرق، أو الجنوب الشرقي، أو الجنوب، إلى أن تمكنت في ديسمبر من العام 2023 من السيطرة على معظم محليات ومدن وقرى الجزيرة بما في ذلك مدينة ود مدني، مركز الولاية وعاصمتها التاريخية، فيما كانت محليتا المناقل والقرشي، الاستثناء الوحيد حيث بقيتا تحت سيطرة قوات الجيش السوداني.

لكنه، وفي في يناير 2025، استعاد الجيش السوداني السيطرة بالكامل على ولاية الجزيرة بالكامل، وذلك تحت إسناد ودعم ذي تأثير واضح من عدد من التشكيلات العسكرية، على سبيل المثال لا الحصر، قوات درع السودان تحت قيادة اللواء أبوعاقلة كيكل، والذي انسلخ من قوات الدعم السريع في أكتوبر 2024، والقوات المشتركة المكونة من الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية 2020، ومجموعة البراءون المحسوبة على الحركة الإسلامية والنظام السابق، فضلا عن تشكيلات أخرى من مجموعات أهلية أو قروية أقل حجما تأسست أثناء استيلاء الدعم على الولاية كشكل من أشكال المقاومة، كما توجد في الولاية فصائل للمقاومة الشعبية، ووجدت كل تلك المجموعات في انتهاكات الدعم السريع ضد الأهالي، مناخا خصبا لتجنيد آلاف الشباب لصفوفها، وقبل ذلك مبررا لوجودها.

مكاتب لمواصلة التجنيد

على الرغم من طرد قوات الدعم السريع من ولاية الجزيرة وبعدها من ولاية الخرطوم المتاخمة، احتفظت تلك التشكيلات العسكرية بمكانتها في ولاية الجزيرة وافتتح بعضها مكاتب في العديد من مدن الولاية لمواصلة التجنيد، كما احتفظ بعضها خصوصا في الأشهر الأولى من استعادة الولاية، بانتشار ميداني كثيف أنشأ بموجبه نقاط تفتيش وتحصيل الرسوم المالية على السيارات والمنقولات التجارية، كما اتهم بعضها وتحديدا قوات درع السودان بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مجموعات سكانية معينة، إضافة لذلك اشتكى الأهالي من تفلتات مستمرة لأفراد تلك التشكيلات بحق المدنيين، وأبرزها اعتداءات خلال الأشهر الماضية من “مليشيا التقراي” الأثيوبية التي ساندت الجيش أثناء القتال في الولاية، اعتداءات طالت المدنيين ونهبهم بمحلية أم القرى وكذلك اعتداء ذات المليشيا على البيئة بقطع الأشجار وبيعها وتهريبها، طبقا لما نشره الأهالي هناك من مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.

جانب من مدينة الحصاحيصا- (مواقع التواصل الاجتماعي)

وتجلت أبرز التفلتات من قبل التشكيلات العسكرية تلك، في جريمة مقتل الطبيب عبد الله الطيب، أحد سكان قرية العزيبة، شرق الجزيرة، حينما اختطف مسلحون، الطبيب، ونهبوه ثم أردوه قتيلا، وألقوا بجثته في العراء، ما أثار غضبا واسعا وسط أهالي المنطقة، ودفعهم للمطالبة بإبعاد جميع المجموعات العسكرية عدا الجيش من الولاية عامة، أو إبقائها على أقل تقدير، بعيدا عن المناطق المأهولة بالسكان.

أبرز مخاوف سكان الجزيرة تتمثل في حدوث احتكاكات بين التشكيلات العسكرية وهو أمر تكرر في أكثر من مرة حسب رصد مراسل شبكة (عاين)

أما التخوف الأعظم وسط أهالي الجزيرة، فيتصل بإمكانية واحتمالية حدوث احتكاكات بين المجموعات نفسها، وهو أمر تكرر في أكثر من مرة حسب رصد مراسل شبكة (عاين)، وعقب إعادة السيطرة على الولاية حيث تسابقت المجموعات العسكرية على الانتشار، وعلى نسب “فضل تحرير الولاية” كل لنفسه، ما سبب توتر بين الجيش وقوات درع السودان في الأسابيع الأولى من استعادة السيطرة على الولاية، وإبعاد مجموعات كبيرة موالية للدرع من مدينة مدني، كما حدث توتر آخر بين القوات المشتركة ودرع السودان، وصل حد التلاسن بين قائد درع السودان أبوعاقلة كيكل ورئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم، وجاءت آخر تلك التوترات في نوفمبر الماضي، بمدينة ود مدني حينما حدث اشتباك بدأ بالأيدي بين أفراد يتبعون للجيش مقابل أفراد يتبعون لقوات درع السودان أمام بوابة أحد المستشفيات، وسرعان ما حدث تدخل للشرطة العسكرية، ليصل التوتر إلى محيط الفرقة الرابعة التابعة للجيش بمدني، لينتهي الأمر بتفاهمات، حسمت الموقف لكنها ضاعفت التخوفات من أي توترات مستقبلية ربما تؤدي إلى الانفجار.

انتشار سلاح في أيدي أي مجموعات سيهدد لا محالة النسيج الاجتماعي المترابط والمتماسك، ويهدد مبدأ حكم القانون، ويرسخ لفكرة الإفلات من العقاب

مواطن من الجزيرة

“السودانيون عامة، وأهالي ولاية الجزيرة خاصة بحاجة إلى استخلاص أكبر دروس حرب الخامس عشر من أبريل، والتي ما كانت لتنفجر لولا وجود قوات موازية للجيش السوداني، وأن ذلك الدرس يوجب الاستفادة والعظة والاعتبار من تجربة إنشاء مليشيا الدعم السريع، وذلك بعدم السماح بتمدد قوات أخرى موزاية سواء في ولاية الجزيرة أو أي ولاية سودانية أخرى”. يقول أحد سكان ولاية الجزيرة لـ(عاين) دون ذكر اسمه لتخوف أمني.

ويشير إلى أن ولاية الجزيرة وبعد استعادتها لا تحتاج إلى تشكيلات عسكرية بهذا العدد والحجم، والأولى إبعادها كليا، دون أن يؤثر ذلك على الخطة الدفاعية الكلية التي تضمن عدم تكرار احتلال الولاية. لكن انتشار السلاح في الولاية يثير قلق هذا المواطن في ولاية عرفت لمئات السنين بالتعايش الأهلي السلمي والمتنوع في أعراق وثقافات وأهليات مختلفة، ولم يعرف سكانها حتى وقت قريب حمل السلاح لإيمانهم بوجود دولة يسود فيها حكم القانون. ويعود مشددا، “انتشار سلاح في أيدي أي مجموعات سيهدد لا محالة النسيج الاجتماعي المترابط والمتماسك، ويهدد مبدأ حكم القانون، ويرسخ لفكرة الإفلات من العقاب.

ماذا قالت قوات درع السودان؟

قوات درع السودان كإحدى أكبر التشكيلات العسكرية بولاية الجزيرة، تؤكد على الدور الذي لعبته في تحرير ولاية الجزيرة، وما تلاه من عملية ضبط الأمن والمشاركة في الحملات الأمنية مع القوات المسلحة والشرطة وجهاز المخابرات العامة بعد خروج قوات الدعم السريع.

ويقول مستشار قوات درع السودان يوسف عمارة أبو سن حول الاتهامات التي تطال القوات بالتفلتات الأمنية لـ(عاين): “التفلتات الفردية تحدث في كل مكان، وقوات درع السودان لا تشجع ولا تتبنى أي نهج يؤثر في صورة القوات المسلحة، وليست لديها أي خلاف مع أي جهة”.

مطلب دمج القوات عادل وضروري لكنه يجب ان يرسل رسالة تطمئن كافة المجتمعات السودانية بأنه لن يستخدم أحد السلاح لابتزاز الدولة

يوسف أبوسن، مستشار قوات درع السودان

 وحول مقترحات وقرارات دمج كافة القوات المساندة في الجيش، يرى أبوسن، أن ذلك مطلب عادل وضروري، وأنهم يقفون مع ذلك بصدق، ولكن يجب أن يتم ذلك بشكل يحفظ التوازن والعدالة، ويرسل رسائل إيجابية تطمئن كافة المجتمعات السودانية بأنه لن يستخدم أحد السلاح لابتزاز الدولة أو تقويض استقرارها وأمنها”.

في المقابل، يدافع الناشط المجتمعي بولاية الجزيرة، مدثر علقم، ويقول: “التشكيلات العسكرية في ولاية الجزيرة تتكون من القوات المسلحة السودانية، وهناك تشكيلات في مرحلة التكوين، وهي تتبع للمقاومة الشعبية، وجميعها أدت دورا كبيرا في تحرير الجزيرة وهي المسؤولة عن حفظ الأمن، وهذا هو الدور المهم المنوط بها والواجب عليها أن تقوم به وفق الدستور”.

قائد قوات درع السودان ابو عاقلة كيكل

ويقول علقم لـ(عاين): “قوات درع السودان لعبت ومازالت تلعب دورا مهما في خلق درجة من التوازن العسكري لصالح الولاية، أما فصائل المقاومة الشعبية فبناؤها كان ضرورة حتمته المرحلة، والمطلوب فرض الضوابط لتنظيم المقاومة الشعبية، ومنها عدم تسيس العمل الشعبي المقاوم، وأن يلازم التكوين درجة عالية من التوعية والتثقيف، حتى يلم كل عنصر فيها إلماما تاما بالدور الذي يمكن أن تقوم المقاومة على المستوين العسكري والمدني في حالتي الحرب والسلم”. كما يجب والحديث لـ علقم، عدم تجنيد الأطفال في النشاط العسكري، وعدم استخدام العاطفة الدينية في عمليات التجنيد.

التشكيلات المسلحة غير النظامية في ولاية الجزيرة تشكل خطرا واسعا على الأمن القومي والحريات العامة

محمد عبد الحكم، قيادي بتحالف صمود

لكن القيادي بتحالف “صمود” محمد عبد الحكم، يقول في مقابلة مع (عاين): إن”التشكيلات المسلحة غير النظامية في ولاية الجزيرة تشكل خطرا واسعا على الأمن القومي والحريات العامة، وتخضع في كثير من الأحيان لأمزجة قادتها وعناصرها، وذلك في غياب النظم العسكرية المنضبطة داخلها”.

ويشير عبد الحكم المنحدرة جذوره من ولاية الجزيرة إلى عدد من التشكيلات العسكرية، والتي يقول إنها في حالة تناسل مستمر حيث تنتشر قوات درع السودان وكتائب المغيرات، وكتيبة عبدالله جماع والبرق الخاطف فضلا عن تكوين كتائب وتشكيلات أهلية، مع انتشار عناصر كتائب البراء الذراع العسكري للحركة الإسلامية وتوسعها في استقطاب الشباب المدفوع بغبن حاد تجاه الانتهاكات الجسيمة التي حدثت له أيام تواجد الدعم السريع في الولاية.

ويرى عبد الحكم، أن الصحيح في تقديره هو تسريح كل المجموعات العسكرية غير النظامية ودمج الراغبين في مواصلة العسكرة داخل القوات المسلحة السودانية وتدريبهم على نظم العسكرية وقواعدها والانصياع لقوانينها الصارمة، مع زيادة العمل الشرطي لإحكام السيطرة الأمنية وممارسة مهامها كقوات لإنفاذ القانون على الجميع، وترك مهام الحماية الأمنية للجهات الرسمية المختصة بعيدا عن المليشيات الأهلية والعقائدية التي يجب وقف تناولها بشكل فوري وتنفيذ إجراءات الدمج والتسريح لهذه المليشيات وصولا للجيش المهني الموحد وسلطات إنفاذ القانون المتوافق عليها قانونا والمقرة دستوريا.

المليشيات.. هشاشة الدولة

وعلى عكس غيره من الكيانات التي نشأت بعد الحرب بولاية الجزيرة التي اتخذت طابعا عسكريا، نشأ مؤتمر الجزيرة ككيان مدني من ضمن أهدافه المنشورة تمتين وحدة أبناء الجزيرة وتضميد جراحات الحرب وملاحقة المتورطين في الانتهاكات ضد المدنيين، وقبل أشهر تحرك المؤتمر، وأفلح في جمع العديد من الأطراف المسلحة خارج الجيش بولاية الجزيرة، وحصل على توقيعاتهم على وثيقة تضمن عدم انزلاق الولاية من جديد نحو الفوضى.

اشتباكات في ولاية الجزيرة- شرق ود مدني- أرشيف

 ويقول  أمين عام المؤتمر، مبر محمود، في مقابلة مع (عاين): إن “مؤتمر الجزيرة منذ أن تأسيسه في العام 2024 ظل وفيا لمبادئه، ومنها التشديد على عدم وجود سلاح خارج سيطرة القوات النظامية، وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية، بالتالي فإن كل المليشيات الموجودة في الساحة الآن ننظر إليها كحالة من حالات مرض الدولة التي تتطلب علاجاً عاجلاً، لكن محمود يستدرك بقوله: نحن نتفهم أن الحرب أنتجت”مليشيات” بدواعي مختلفة منها وصول الدولة في مرحلة من المراحل إلى حالة غير مسبوقة من الهشاشة تكاد تكون أشبه بالانهيار.

ويشير مبر إلى أن المجموعات العسكرية المدرجة كمقاومة شعبية لم يبدر منها حتى الآن جرائم بالقدر الذي يمثل ظاهرة، قبل أن يستدرك مرة أخرى بقوله” نعم توجد تفلتات هنا وهناك، وتبرز احتقانات بين الأطراف، كما تظهر محاولات للثأر من بعض المتعاونين في مليشيا الدعم السريع، وهي حالات رصدها مؤتمر الجزيرة ووثق لها، ووجدها محدودة ورغم ذلك لا يمكن تغافلها، مشيرا إلى أن أبرز تلك الانتهاكات وقعت في الأيام الأولى لتحرير ولاية الجزيرة وتحديدا حادثة كمبو ستة بمحلية أم القرى.

مؤتمر الجزيرة -بحسب أمينه العام- يتفهم تماما دواعي حمل السلاح وانتشاره، خصوصا في هذا الطور الدفاعي. ولكن “نخشى أن تنزلق الولاية لأي أعمال عنف بين مكوناتها المختلفة”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *