تقاطع مصالح يتسبب في أزمة في الحليب المجفف بسنار

عاين- 28 ديسمبر 2025

يثير قرار الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس في ولاية سنار بسحب ومصادرة كافة كميات اللبن المجفف المعبأة في عبوات كبيرة (زنة 25 كيلوغراماً) من الأسواق جدلا واسعا في الولاية.

ونص القرار الذي حصلت عليه (عاين)، على سحب ومصادرة كميات الللبن من الأسواق  دون توضيح الأسباب الفنية التي استوجبت هذا التدخل العنيف في هيكل السوق، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام سيل من التساؤلات المشروعة: لماذا الآن؟ ومن هو المستفيد الحقيقي من تغييب المنتج الأرخص سعراً؟

خلف الستار: هل هي قضية جودة أم تسريب؟

بينما يلف الغموض التصريحات الرسمية، كشف مصدر من داخل هيئة المواصفات لـ(عاين) عن مبررات أخرى يتم تداولها في الكواليس. ويشير المصدر إلى أن معلومات استخباراتية ورقابية وصلت للهيئة تفيد بدخول كميات ضخمة من الحليب إلى الولاية عبر جهات مجهولة، وأن هذه الكميات أُعيد تعبئتها في جولات تحمل ديباجات لشركات أخرى، وسُربت للسوق بعيداً عن الرقابة الصحية المعتادة. هذا “التسريب”، حسب المصدر، هو ما دفع الهيئة للتحرك لحماية المستهلك من منتج مجهول المصدر.

وفي ذات السياق، يبرز رأي أحد مندوبي شركة “مروج” بسنار، الذي فضل حجب اسمه، حيث يوضح زاوية فنية غائبة عن الكثيرين؛ وهي أن هذا الحليب المستورد في عبوات كبيرة هو في الأصل “مدخل إنتاج” مخصص للمصانع وشركات صناعة الآيس كريم والحلويات، وليس مخصصاً للبيع المباشر للجمهور كمنتج نهائي. ويضيف: “المشكلة ليست في جودة الحليب ذاته، بل في أن التجار سربوه للسوق وتجزئته للمواطنين، وهو ما يخالف الغرض الذي استُورد من أجله”.

صراع العمالقة: عندما يختنق السوق بالمنافسة

على الجانب الآخر، يروي تجار قصة مختلفة تماماً، تتجاوز المخاوف الصحية لتصل إلى صلب الصراع الرأسمالي. ويرى محمد علي أبشر، أحد كبار التجار بمدينة سنار لـ(عاين)، أن القضية في نظره هي “حرب حصص سوقية”. ويوضح أبشر أن الشركات الكبرى، وفي مقدمتها شركة (كابو) ونظيراتها، وجدت نفسها في مأزق حقيقي بعد تراجع مبيعاتها نتيجة ضعف القدرة الشرائية للمواطن وتوقف بعض خطوط إنتاجها.

نص قرار هيئة المواصفات بولاية سنار

هذا التراجع أفسح المجال لظهور شركات ناشئة ومنتجات بديلة تُباع بأسعار تنافسية زهيدة. المقارنة التي يسوقها أبشر صادمة: “سعر كيلو اللبن من الشركات الكبرى يصل إلى 30 ألف جنيه، بينما يُباع الكيلو من المنتجات البديلة (المستهدفة بالقرار) بـ 12 ألف جنيه فقط”. هذا الفارق السعري الهائل (150%) أحدث إرباكاً في السوق وجعل المستهلك يهرب من “الماركات” المشهورة إلى البديل الأرخص. وبحسب أبشر، فإن الشركات الكبرى هي من حركت المياه الراكدة عبر تقديم بلاغات رسمية، مما دفع المواصفات للقيام بمسح شامل وإيقاف المنتج الرخيص تحت دعاوى التعبئة والتغليف.

المواطن والتاجر: ضحايا القرار

لم تكن نبرة التاجر محمد آدم أقل حدة، إذ اعتبر في حديثه لـ (عاين) أن لا يمت لمصلحة المواطن بصلة. ويطرح آدم تساؤلاً منطقياً: “إذا كان الحليب المستورد من الإمارات عبر ميناء بورتسودان فيه مشكلة، فلماذا سُمح بدخوله للبلاد أصلاً؟ ولماذا يُمنع في ولاية سنار فقط دون بقية الولايات؟”. ويرى آدم، أن جودة الحليب لا غبار عليها، وأن الهدف هو إجبار المواطن على شراء المنتج الغالي لإرضاء نفوذ الشركات الكبرى.

ويتفق معه ناشط اجتماعي في الولاية، مشيراً إلى “تناقض مريب” في سلوك الهيئة؛ فإذا كان الحليب منتهي الصلاحية أو غير صالح للاستخدام، فمن الواجب قانونياً وصحياً مصادرته فوراً وإبادته، لا منح التجار مهلة أسبوعين لتصريفه! هذه المهلة في نظر الناشط هي دليل قاطع على أن الأمر يتعلق بتسويات تجارية وضغوط من أصحاب المصالح، وليست قضية صحة عامة.

يحلل الباحث الاقتصادي سيف الدين محمد حسن تداعيات هذا القرار، واصفاً إياه بـ “الارتباك القسري” في بنية السوق. ويرى حسن، أن إجبار التجار على التخلي عن العبوات الكبيرة ومنع نظام البيع “الفلت” (السائب) يمثل رصاصة رحمة على القوة الشرائية المتهالكة أصلاً.

ويقول حسن لـ (عاين): “نحن أمام عملية إزاحة قسرية للمنتجات منخفضة التكلفة لصالح الاحتكارات الكبرى. هذا لن يرفع التضخم فحسب، بل سيغير النمط الاستهلاكي للفقراء؛ فالقدرة على شراء حليب (سائب) بمبالغ بسيطة كانت هي صمام الأمان للأسر الفقيرة، والآن سيُجبرون على شراء عبوات مغلفة غالية الثمن، مما يعني حرمان ملايين الأطفال من الحليب كعنصر غذائي أساسي”.

ويحذر الباحث الاقتصادي من مخاطر جانبية خطيرة، منها نشوء “سوق سوداء” للحليب المهرب، حيث سيعمد التجار الذين يمتلكون مخزونات كبيرة إلى بيعها سراً بعيداً عن الرقابة، مما قد يعرض المستهلك فعلياً لمخاطر صحية ناتجة عن سوء التخزين في الخفاء، وهو عكس ما تهدف إليه هيئة المواصفات ظاهرياً.

سوق في مهب الريح

بينما تقترب المهلة المحددة من نهايتها، يترقب تجار سنار ومواطنوها ما ستسفر عنه الأيام المقبلة. فالمشهد لا يقتصر على مجرد منع عبوات حليب، بل هو انعكاس لأزمة إدارة وتغول للمصالح الكبرى في ظل غياب الرؤية الكلية لحماية الطبقات الضعيفة.

وتقف الولاية أمام واقع اقتصادي جديد: إما الرضوخ لأسعار الشركات الكبرى التي تفوق قدرة المواطن العادي، أو مواجهة ندرة حادة في سلعة استراتيجية. ومع غياب البدائل المدعومة أو فترات السماح الكافية، يبقى المواطن هو الحلقة الأضعف في الصراع.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *