رقصات و غناء الأنقسنا
– شبكة عاين – ٢٥ يناير ٢٠١٥ –
إرتبطت الموسيقى بالحروب منذ القدم، فتارة تُستخدم كوسيلة لمقاومة الحرب، وتارة اخرى تُستخدم للتعبئة القتالية ورفع الروح المعنوية للجيوش ، خاصة الموسيقى المصحوبة بالغناء فانها تُرسخ العقيدة القتالية. ورغماً عن ذلك ، لم تنجو الموسيقى من بطش الحروب ، ففي الحرب العالمية الاولى جُندت الموسيقى لخدمة اجندة أيدولوجية ، غير صوتها علا على البندقية ، فتم الغاء حفل (جون جوان ) للموسيقار شتراوس وتم منع الموسيقي في يوليو 1914، ولكن بعد أسبوع عادت موسيقى (بيتهوفن ، فاغنر وريتشارد شتراوس ) لتعزف لسفونية السلام نافحة في مشاعر التسامح والحب ثم الحنين والحزن لتعزيز روح مصالحة رافضة للعداء.
في السودان اُستخدم الفن في الحماسة ، الافراح ، والاحزان ، وللزراعة والحصاد عند غالب القبائل ، كما تستخدم للتعبئة في القتال ،وتعتبر الربابة (آلة العزف الأشهر في الفن الشعبي السوداني، وهي آلة عزف مصرية قديمة تعود اصولها للحضارة النوبية فصارت آلة للغناء الشعبي تمتد من اقصى شمال السودان فتعرف ب”الطمبور”، الى غرب السودان وتعرف ب”أُمبربري” و “أأم كيكي”. ثم شرق السودان والنيل الازرق وتعرف “بالربابة” ولكن في الأصل هي آلةُ وتريةٌ واحدة.
ارتبطت “الربابة“ بمناطق الحرب في السودان لعدة اسباب اولها لانها تُصنع من المواد المحلية قليلة التكلفة. الامر الثاني هو القدرة على التحكم في حجمها لامكانية التجوال، فهنالك ربابة كبيرة الحجم تٌستخدم في المأتم فقط ، واخرى صغيرة الحجم تستخدم في الغناء للمناسبات. في مناطق الحرب، لمع نجم عدد من الفنانين الذين استخدموا غنائهم طلباً للسلام ونبذاً للعنف في مناطق الصراع فعرفو بفناني السودان الجديد و أبرزهم الطاهر سراجية من النيل الازرق والراحل اسماعيل كونجي من جبال النوبة.
الفن الشعبي في مناطق الحرب يُستخدم كوسيلة للمقاومة ضد الحرب، في النيل الازرق مثلاً ، يصدح الطاهر سراجية بغنائه على الألة الوترية الشعبية “الربابة” لشد انتباه المواطنين من النعاس حتي لا يضربهم طيران الأنتنوف وهم نيام ، وأتضح ذلك في فيلم على إيقاع الأنتنوف للمخرج السوداني حجوج كوكا الذي فاز بعدة جوائز عالمية وإقليمية ، وتعتبر منطقة النيل الازرق الحدودية من اغنى المناطق السودانية بفن الغناء والموسيقية الشعبية، ويرجع هذا لتعدد القبائل والتنوع الثقافي الذي انتج بدوره ثقافة غنائية عُرفت بفن النيل الازرق ، يجتمع في هذه المنطقة عدد من القبائل تستخدم آلة “الربابة” اشهرها قبائل (الانقسنا ، الجمجم ، القمز، تولا، والادوك ) ، وكل هذه المكونات الثقافية تتخذ من آلة ال”ربابة” إيقاعاً وترياً لغنائها الشعبي.
كما تُتخذ آلة الربابة عند غالبية سكان النيل الازرق كآلة لرقصة ( الجالك ) التي تُعتبر ثاني اشهر رقصة بعد (الوازا ) ، ايضاً يستخدم سكان النيل الازرق النفخ على القرن ( موسيقى الوزا ) التي تستخدم استعاضة عن الآلات النحاسية مثل الفلوت الترومبيت والكورنو ، ويتميز القرن بإصدار اصوات مختلفة يتحكم فيها العازف “النافخ” بفمه وايديه ،ويشتهر نفخ القرن في رقصة (كشيلي ابمبم) التي تُستخدم في احتفالات جدع النار، عند اهل النيل الازرق فهو موسم يُحتفلون فيه بالحصاد و البدء في عملية الحرث والإستعداد لعامُ قادمُ بكافة أفراحه وأتراحة، والتي يطلق عليها جدع النار، وهو التجمع الذي يعرف بالنفير في بقية اجزاء السودان .
وبعد اندلاع الحرب لاكثر من ثلاثين عاماً نزح شعب النيل الازرق بذات الفن والحضارة ، حيث شهدت معسكرات اللجوء تظاهرات فنية كبيرة الغرض منها الحفاظ على التراث وتوريث الأجيال الجديدة التي إرتبطت اذهانهم بالحرب كثقافة مفارقة لثقافة القصف والنزوح، وعملت هذه الفنون من رقص وعزف موسيقي على حفظ الارث الثقافي واللغوي كحضارة ، خاصة وأن فقدان الفن واللغة يُشكلان عاملاً لذوبان الهوية ، فضلاً عن أن احدى عوامل الصراع في السودان قائم على صراع الهوية في السودان .