السودان: إنهيار اقتصادي وفجوة غذائية متزايدة
تقرير شبكة عاين – الاثنين 15 فبراير 2018
شهدت الأيام الماضية تدافع عالي من عملاء البنوك لسحب أموالهم بغية تغيرها الى عملات قوية بسبب تراجع العملة المحلية مما أفقد العديد من رؤوس الأموال مبالغ باهظة. وشهدت الاسواق عدم استقرار واضح ومتزايد كلما ابتعدت عن العاصمة القومية الخرطوم، مع غياب الحلول للازمة الاقتصادية ولم تصلح كافة حزم الاصلاح الاقتصادي التي أجرتها الحكومة السودانية. ادى التدهور الاقتصادي الى زيادة حدة التوتر، وشهد مدن السودان المختلفة موجات سخط عالية مقابل عنف مفرط من السلطات التي اعتقلت العشرات من قادة المعارضة والمناهضين للغلاء.
شهد الجنيه السوداني تدهور مريع في ايام قلائل حيث وصل سعر الصرف الى 43 جنيه مقابل الدولار الواحد في بداية شهر فبراير، مما أدى دخول الحكومة في اجتماعات مستمرة دون التوصل الى حلول ناجعة، الامر الذي سيقود المواطن السوداني الى عدم القدرة على مجاراة التردي الاقتصادي وارتفاع سعر الحياة. ويعاني الاقتصاد السوداني من تضخم متزايد حيث يرى بعض المحللين ان السودان بلغ المرتبة الثانية في التضخم عالمياً في ايام قلائل.
أزمة شبيهة بدول انهارت اقتصادياً
نتجت الأزمة المالية بشكل واضح من التضخم الذي الذي أصاب الاقتصاد السوداني، ومن أهم الأسباب هي الطباعة المتزايدة للعملة. وكان صندوق النقد الدولي قد عرض ديون السودان (التي بلغت 50 مليار دولار حتى نهاية العام 2015) على هامش اجتماعات واشنطن أواخر العام المنصرم. والتي طالب فيها الحكومة السودانية بتحرير الاقتصاد لتغطية الديون. وبلغ معدل التضخم 52,37% بزيادة يرجعها الخبير الاقتصادي خالد التيجاني النور الى سببين، الاول هو تحرير الاقتصاد بطلب من البنك الدول، والثاني هو التضخم الذي نتج عن طباعة العملة لتغطية الفجوة الحادة في النقد. قائلاً لـ(عاين)”تضمنت الموازنة العامة للسنة المنصرمة نسبة نمو الكتلة النقدية نحو 18%، وانتهى العام فإذا بنزيف طباعة العملة التي مارسها البنك المركزي دون أدنى حد من الرشد ولا الإحساس بالمسؤولية ، قفزت بنسبة النمو الحقيقة للكتلة النقدية إلى رقم فلكي بلغ ضعفي المستهدف في الموازنة ليسجل 54%، وزيادة السيولة ليست لعبة، بل هي بالطريقة التي حدثت بها جريمة اقتصادية مكتملة الأركان ليس لأنها خرق فاضح لقوانين الموازنة فحسب“.
وكانت هنالك بعض الدول التي تعرضت لانهيار تام في الاقتصاد بأسباب كانت شبيهة بوضع السودان الحالي. طباعة العملة كحل للأزمة الإقتصادية ادى الى انهيار الدولار الزيمبابوي، وفي عام 2009 اضطرت الدولة لاستبدال الدولار الزيمبابوي بالدولار الأميركي، مما تسبب في فقر مدقع طال 72% من جملة سكان زيمبابوي. من ناحية أخرى تعرض الاقتصاد السوداني لهزة عنيفة بسبب الفساد المالي وتبديل العملة من الجنيه الى الدينار ثم إلى جنيه مرة أخرى، وهي ذات الأسباب التي ادت الى اعلان دولة اليونان إفلاسها نسبة للتكلفة المترتبة على إزالة العملة.
حجم الفجوة الغذائية
كانت الولايات قد شهدت أزمات متفاوتة حيث اختفت المواصلات في بعضها بسبب ارتفاع اسعار المحروقات. واغلقت مخابز الخبز ابوابها في البعض الاخر، بينما ظلت شكوى المواطن مستمرة. حيث يقول المواطن هارون ادريس من بورتسودان لـ(عاين) “ما قادرين نواكب الزيادات السريعة للأسعار … انا بعمل عامل ورنيش كنت بشتري علبة الورنيش ب 7 جنيهات، الان السعر وصل 15 جنيه، فوقفت الشغل لانو الزبون داير اقناع وماعندي طاقة اقعد احاجج بيها ومافي زول بقبل ورنيش ب4 جنيهات“. اما في مدينة الابيض فيقول المواطن علي الضو “ارتفاع الأسعار جنوني، مامكن نواكب على الاطلاق، مثلاً انا استاذ مرتبي الشهري 800 جنيه، تعال نقسموا ملوة العيش 40 جنيه، الرغيف في الوجبة الواحدة داير 15جنيه، اللحمة نص الكيلو 60 جنيه، مجموع الاحتياجات 3000 جنيه لو اكلنا كسرة ، ولو رغيف 2,250 جنيه للوجبة شهرياً. دي بره من الزيت البصل والسكر اما اللبن ده خليناهو عديل ورونا نعيش كيف“.
ففي الوقت الذي يشكي فيه مواطني المدن الكبيرة من غلاء طاحن، وشح في السيولة لمواكبة تزايد الأسعار في الاسواق، وانعدام في الدواء. تعاني مناطق اخرى في اطراف السودان (الهامش) من فجوة غذائية تكاد ان تصل الى حد انعدام الغذاء مع التوقعات بزيادتها. اضافة الى عمليات التهجير القسري بسبب الحروب التي هجرت أعداد كبيرة من قراهم بمناطق دارفور، جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق حيث بلغ اجمالي نازحي هذه المناطق الـ 2,3 مليون نازح وفق منظمة اوتشا. في دارفور وحدها هنالك 2,1 مليون نازح و240 الف نازح في ولايتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، فضلاً عن اللاجئين في دول الجوار. اضافة الى ذلك شهدت عدد من الولايات السودانية فجوة غذائية حادة اواخر العام المنصرم مع التوقعات بزيادتها في الفترة ما بين شهر فبراير الجاري الى مايو.
“ربنا يرفع البلاء”
لم يقتصر الأمر على الخبز “الرغيف” وغيره من إحتياجات الحياة اليومية. فقد شهدت الادوية زيادات في الاسعار، مع اختفاء الادوية المنقذة للحياة في بعض المدن البعيدة من المركز بسبب شح السيولة. حيث اختفت كل من ادوية السكري وضغط الدم من صيدليات مدينة ابوجبيهة جنوبي كردفان. يقول صيدلاني فضل حجب اسمه لـ(عاين) “ما عندنا انسولين في الصيدليات لانو وصل 800 جنيه، اما ادوية ضغط الدم فقد وصلت 1200 جنيه. المتوفر عندنا ادوية الملاريا ب200 جنيه للشريط، البندول 65 جنيه. اما الادوية الغالية ما عندنا امكانية للحصول عليها. ومن ناحية اخرى مافي زول بقدر يشتريها“، واكتفى بالقول “غايتو ربنا يرفع البلاء“. هذا وكانت اسعار ادوية مرضي السكري والضغط قد شهدت ارتفاع جنوني حيث بلغ سعر عقار الأنسولين 600 جنيه بينما وصل عقار ضغط الدم 900 جنيه بالعاصمة الخرطوم. وكان الصيادلة قد دخلوا في إضراب بسبب زيادات الدولار.
احتجاجات متفاوتة
أدى التزايد المضطرد في الأسعار الى احتجاجات في مدن السودان المختلفة، حيث ظلت قوة المعارضة السودانية في حالة دعوة دائمة للتظاهرات ضد الغلاء. قامت غرفة سائقي الحافلات بمدينة بورتسودان بالاضراب العام، اما في الابيض قد اضرب اصحاب الافران من مقاطعة الخبز بسبب ارتفاع اسعار دقيق الخبز. في ود مدني فقد خرج المواطنين في مظاهرات قابلتها السلطات بعنف مفرط وشهدت مدينة الخرطوم عدد من التظاهرات الليلة، مقابل ذلك واصلت اجهزة الحكومة الرسمية اعتقالاتها ضد السياسيين والناشطين رغم عن إطلاق سراح بعض قادة المعارضة. وكان الرئيس عمر البشير قد طالب قوات الدفاع الشعبي بالاستعداد للدفاع عن الحكومة والتصدي لمن وصفهم بـالمتآمرين الكترونياً في اشارة منه للجهاد الالكتروني أو ما يعرف في الأسافير ب”الجداد الالكتروني”.
تعويم الجنيه
وضع بنك السودان المركزي سعر جديد للصرف من 18 جنيه الى 30 جنيه للدولار الواحد مطلقا على ذلك مصطلح “سعر الصرف التأشيري”، وأدى الى زيادات جديدة في الأسعار. ويعرف استاذ الاقتصاد بكلية هوارد الجامعية بامريكية محمد الطيب مصطلح الدولار التأشيري بأنه “نوع من نظم سعر الصرف المرن، او تحديدا يعتبر نوع من انواع نظام التعويم المدار. في هذا النوع من أنظمة سعر الصرف يقوم البنك المركزي بتعديل وتغير سعر الصرف، حسب الظروف الاقتصادية والمالية، وحسب مستوى الاحتياطي لديها من العملات الأجنبية والذهب و ميزان المدفوعات. وفي هذه الحالة يسمى نظام التعويم المدار التأشيري ويحدد هذا السعر التأشيري على ان لا يكون اعلى من الحد الاعلى ولا أقل من الحد الأدنى بمعني ان يتحرك السعر في اطار محدد. مثال كاعلان بنك السودان أن السعر التأشيري للدولار اليوم الاثنين سيكون 30 جنيهاً عند 31.50 جنيه كأعلى نطاق، مقابل 28.50 كحد أدنى“. واضاف الطيب لـ(عاين) “القادم هو التعويم الحر وهو نوع من أنواع سعر الصرف المرن والذي يسمح لقيمة العملات أن تتغير مع حركة السوق، وهذا النظام يسمح للسياسات الاقتصادية بالتحرر من قيود سعر الصرف ٠في هذا النظام يقوم البنك المركزي بتحديد وتثبيت سعر صرف العملة المحلية على عملة قوية كالدولار“.
اما الخبير الاقتصادي محمد حسن العمدة فقد وصف رفع تعريفة الجنيه إلى 30 مقابل الدولار بالقفزة في الظلام حيث قال “رفع سعر الدولار الى 30 جنيه قفزة اخرى في الظلام، وجزء من إجراءات وسياسات النظام المتخبطة الأخيرة ولا ينفصل عن قرارات محافظ بنك السودان الاخيرة الخاصة باحتكار تجارة الذهب وشراء، او همبتة بالاصح، حصائل الصادر من المصدرين رغم أن البنك أصدر في منتصف نوفمبر قرار بتخفيض نسبة توريده النقد الأجنبي في البنوك من 75٪ الى 25٪ ثم قرار اخر بالتخلي عن نسبة الـ25٪ ليعود مرة اخرى بردة عكسية 100٪ للتغول على كافة إيرادات المصدرين التي تدخل البنوك بنسبة 100٪. ثلاثة قرارات في اقل من ثلاثة أشهر تعكس مدى الهمجية والتخبط في سياسات البنك دون مراعاة للنتائج السلبية لكل قرار، أضف لذلك قرار حظر حسابات أكثر من 134 مصدر والأسوأ من ذلك وقف الاستيراد وفق مزاج محافظ بنك السودان والتي بررها بحصر الاستيراد في الضروريات مثل المدخلات الزراعية والقمح والبترول ومعروف من يستورد هذه السلع بالطبع“.
حلول مطلوبة
يجمع المواطن السوداني على غياب الحلول في الأفق، حيث اكتفي متحدثي (عاين) في مختلف ولايات السودان بعبارات العجز التام على شاكلة “ربنا يرفع البلاء“. ولكن د. محمد الطيب وضع حلول للوضع الاقتصادي. فقال “الحلول العاجلة مرتبطة بزوال النظام مباشرة، ثم استعادة الاموال المنهوبة، ووقف الإنفاق الحكومي على الدفاع والأمن والتي تستنزف أكثر من سبعين في المئة من الميزانية. وكذلك الصرف على جهاز الدولة وعلى جيوش العاطلين من مايسمى بالدستوريين. هذه إجراءات توفر مبالغ طائلة من العملات“. اما الحلول المتوسطة حدد لها محمد الطيب فترة سنة إلى ثلاث سنوات قائلا “هناك حلول متوسطة تحتاج الى فترة 3 سنوات وتكمن في تأهيل قطاع الصادر، جذب مدخرات إعادة التوازن الكلي وتبني سياسات نقدية فعالة المعتربين. وهنا يمكن التركيز على الثروة الحيوانية وتطويرها وفتح اسواق جديدة وزيادة الكميات والنوعيات المصدرة كذلك الاهتمام بقطاع التعدين وخاصة الذهب وتأهيل قطاع الصمغ العربي وبعض المحاصيل“. أما الحلول الآجلة فقد ربطها محمد الطيب بتنمية الانسان فقال “تنمية الإنسان هي اولى مدخلات المعالجة الاقتصادية ثم تفعيل قطاع التعليم واعادة النظر في كل سياسات التعليم، وإلغاء واغلاق كافة المتاجر الجامعية مثل (مامون حميدة) والتركيز على الصحة, وتكريس مبدأ مجانية العلاج والدواء وتأهيل المستشفيات العامة، والقطاع الزراعي والحيواني. جعل هذا القطاع قطاعا رائدا كما كان فالسودان بلد زراعي بامتياز لوجود الأراضي الواسعة الخصبة، وتوفر المياه والخبرات الزراعية المتراكمة”.