«جزيرة يحَفَّها الموت».. (توتي) تحت حصار حرب السودان

عاين- 8 يناير 2023

في ليلة مظلمة يعلو فيها صوت  الرصاص ودوي المدافع، كانت عائلة “عبد الوهاب الرشيد” المصاب بمرض “الربو” تتجول به وسط جزيرة توتي في العاصمة السودانية بحثاً عن جلسة أوكسجين تعيد تنفسه المنقطع، لكن المركز الصحي الوحيد الذي تمكنوا من الوصول إليه لم يجدوا فيه ما ينقذ حياته، فخطفه الموت من بين يديهم خلال رحلة شاقة للبحث عن النجاة.

خسر “عبد الوهاب” معركة البقاء بعد صراع طويل مع مرض الربو المعروف محلياً “بالأزمة” والذي يصيب الجهاز التنفسي في ظل انقطاع أدويته الخاصة، تاركاً لعائلته حزن الفراق الأبدي، بينما تزداد مخاوف عشيرته من وقوع ضحايا جدد جراء استمرار تدهور الوضع الصحي في جزيرة توتي.

مصدر طبي: مائة مريض توفوا في جزيرة توتي منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في يوم 15 أبريل/ نيسان 2023م، بسبب غياب الرعاية الصحية وانعدام الأدوية المنقذة للحياة.

ويمثل الرشيد بحسب مصدر طبي، واحد من نحو مائة مريض توفوا في جزيرة توتي منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في يوم 15 أبريل/ نيسان 2023م، بسبب غياب الرعاية الصحية وانعدام الأدوية المنقذة للحياة خاصة للمصابين بالأمراض المزمنة مثل السكري وضغط الدعم، فالجزيرة تعيش تحت وضع أشبه بالحصار الكامل نتيجة المعارك العسكرية.

تقع جزيرة توتي في قلب العاصمة السودانية عند ملتقى النيلين (الأزرق والأبيض) وتحيطها المياه من كل جانب، وتبلغ مساحتها 990 كلم، ويسكنها حوالي 20 ألف نسمة، ونتيجة الحرب نزح معظم مواطنيها، لكن ما يزال نحو 7 آلاف شخص عالقين بها، وفق عضو غرفة طوارئ توتي (جمعية طوعية) محمد عبد الله والذي تحدث لـ(عاين).

يقول عبد الله: إن “الجسر الوحيد المؤدي إلى الجزيرة ما زال مغلقاً من قبل قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة. يوجد مركز صحي وحيد في الجزيرة، لكنه خال من الأدوية والأطباء الذين اضطروا للفرار، ويديره حالياً طبيبة امتياز ومعها مسعفون متطوعون يقدمون فقط رعاية صحية أولية محدودة”.

تحيط المعارك العسكرية بجزيرة توتي، ويحدها من الجنوب القصر الرئاسي وقيادة الجيش في الخرطوم، ويفصلها نهر النيل الأبيض عن مقر الإذاعة السودانية في الاتجاه الغربي عند مدينة أمدرمان، كما تجاورها قاعدة حربية لقوات الدعم السريع في الجزء الشمالي الشرقي بمدينة بحري

وتحيط المعارك العسكرية بجزيرة توتي من كل الاتجاهات، إذ يحدها من الجنوب القصر الرئاسي وقيادة الجيش في الخرطوم، ويفصلها نهر النيل الأبيض عن مقر الإذاعة السودانية في الاتجاه الغربي عند مدينة أمدرمان، كما تجاورها قاعدة حربية لقوات الدعم السريع في الجزء الشمالي الشرقي بمدينة بحري، وجميعها مواقع ملتهبة بالعمليات القتالية.

طوق نجاة

تنتهي رحلات مرضى جزيرة توتي عند المركز الصحي الوحيد هناك، فلم يتبق أي مستشفى يعمل بالقرب منهم بعد أن توقفت جميعها نتيجة الصراع المسلح، وتحول بعضها إلى ثكنات عسكرية، وهم يتشبثون به كطوق نجاة، رغم قلة الإمكانيات وشح الدواء في مشاهد مأساوية تروي الدكتورة “انتصار الأمين” بعضاً من فصولها المأساوية خلال مقابلة مع (عاين).

تقول الأمين وهي طبيبة امتياز تدير وحدها المركز الصحي في جزيرة توتي إن “أكثر من مائة مريض توفوا خلال الفترة التي أعقبت نشوب الحرب نتيجة صدمات السكري وبسبب ضغط الدم، فهناك نقص دائم في الأدوية المنقذة للحياة وعلاجات الأمراض المزمنة مثل الأنسولين، فهي سريعة النفاد نظراً لاستهلاكها المستمر والدائم”.

سكان محاصرون بجزيرة توتي

فيما يشير عضو غرفة الطوارئ في جزيرة توتي محمد عبد الله أن لجنته أحصت 98 شخصاً توفوا في الجزيرة خلال الفترة من 17 أبريل/ نيسان 2023 وحتى ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه نتيجة لعدم تمكنهم من الوصول إلى الرعاية الطبية اللازمة، وأن غالبية الضحايا هم من مرضى السكري وضغط الدم، ومن بينهم أطفال كذلك.

وتعرب الطبيبة “انتصار الأمين” عن حزنها الشديد لموت المرضى في ساحة المركز الطبي وهي قليلة الحلية مع نقص الأدوية والمعينات الطبية المختلفة، رغم تفانيها في مساعدة الجميع على النجاة.

“هناك العديد من الأطفال توفوا بسبب لدغات العقارب والثعابين حيث تنعدم الأمصال بجزيرة توتي. أيضا مات بعضهم نتيجة تشنجات لعدم توفر الأدوية، إذ توجد بعض الحالات يلزمها علاج دائم مدى الحياة، لكنها اضطرت لتوقف قسري عنه، فالوضع الصحي في توتي كارثي بحاجة إلى تدخل”. تضيف الأمين.

سرادق كبير

تواصل الأمراض المزمنة في حصد سكان جزيرة توتي لدرجة تحولت معها المنطقة إلى سرادق كبير لتبادل التعازي، بينما تقل فرص النجاة في ظل إغلاق الجسر الوحيد المؤدي إلى الجزيرة، فمحاولة الخروج عبر القوارب النيلية تنضوي عليها مخاطر كبيرة لكونها هدفاً للأطراف العسكرية المتحاربة، بحسب عمرو حسن الذي تحدث مع (عاين).

يروي عمرو حسن، وهو من السكان العالقين في توتي، بأسى قصة خاله “عبد الوهاب الرشيد” المصاب بمرض “الأزمة” والذي توفي بالجزيرة نتيجة انقطاع الأوكسجين، بعد أن فشلوا في إنقاذه فالجسر الوحيد مغلق، أما القوارب فستكون بمثابة مغامرة ربما تقود جميع أفراد العائلة إلى الهلاك.

“كان الظلام حالك إثر انقطاع التيار الكهربائي في جزيرة توتي لأكثر من خمسة أشهر متواصلة، والمدافع تدوي بشدة ساعتها كان عبد الوهاب يلتقط أنفاسه بصعوبة، ولم يمض طويلا سلم روحه إلى بارئها عند ساحة المركز الطبي” يقول عمرو.

ويرتفع مستوى الحزن عند عمرو حسن بعد أن يتذكر العشرات من أقاربه ومعارفه في جزيرة توتي ماتوا بسبب نقص الرعاية الصحية وشح الأدوية، ويقول “امتلأت مقابر الأطفال، ولم يتبق بها أي مساحة تتسع لمواراة جثامين جديدة، في حين نواجه حصاراً محكماً ويتم تقييد حركتنا، بينما تحولت الجزيرة إلى سرادق كبير”.

سكان من جزيرة توتي

وذكر تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” في يوم 26 ديسمبر /كانون الأول 2023م إن “القتال المستمر في السودان لا يزال يعيق جهود الاستجابة، ويعطل الوصول إلى خدمات الصحة العامة الأساسية، ويفتقر ما يقرب من ثلثي سكان البلد إلى الرعاية الصحية مع توقف أكثر من 70 بالمئة من المستشفيات في المناطق المتأثرة بالنزاع، عن العمل”.

القتال الذي اندلع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/ نيسان الماضي، ما زال محتدماً في العاصمة الخرطوم وإقليمي دارفور وكردفان غربي البلاد، وتمدد لاحقاً ليشمل ولايتي الجزيرة وسنار وسط السودان، ومع غياب أفق لحل الصراع يستمر تدهور الأوضاع الإنسانية خاصة فيما يتعلق بالغذاء والأدوية.

وتقول رئيس اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان دكتورة هبة عمر إبراهيم في مقابلة مع (عاين) إن “الوضع في جزيرة توتي لا ينفصل عن ما يجري في العاصمة الخرطوم من انهيار في النظام الصحي، إذ لم يتسن دخول أي معينات طبية ودوائية منذ اندلاع الحرب قبل نحو تسعة أشهر من الآن وهو وضع كارثي ظللنا ننبه إليه باستمرار”.

وبحسب هبة، فإن أربعة مستشفيات فقط تعمل حالياً في العاصمة السودانية، واحدة في أمدرمان ومثلها في الخرطوم واثنين في مدينة بحري، ورغم ذلك تشهد نقص في الكوادر الطبية التي هربت لانعدام الأمن، كما تواجه شحاً في الأدوية، وتشير  إلى ضرورة فتح عاجل للمسارات من أطراف النزاع؛ لأن خطر الموت يهدد آلاف المرضى.

جريمة حرب

سكان الجزيرة يواجهون أزمة غذاء بعد نفاد المخزون المواد الغذائية مع غلاء طاحن في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية في ظل استمرار إغلاق الجسر الوحيد الذي يربطها بباقي العاصمة.

ولم يكن تدهور الوضع الصحي سوى جزء محدود من مآسي الحرب في جزيرة توتي، وينقل “يوسف بشير” وهو مواطن من توتي الوجه الأكثر قسوة لحياة سكان الجزيرة والمتمثل في نفاد المخزون من المواد الغذائية مع غلاء طاحن في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية في ظل استمرار إغلاق الجسر وتضييق أمني شديد من قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة.

ويقول بشير في حديثه لـ(عاين): “يموت سكان توتي بسبب المرض، وربما يقتلهم الجوع إذا استمر الحصار المفروض على الجزيرة، نناشد طرفي الصراع بالسماح بدخول المساعدات الغذائية والدوائية إلى جزيرتنا”.

وبالنسبة إلى عضو محامي الطوارئ (جمعية حقوقية) محمد صلاح بناوي الذي تحدث إلى (عاين) فإن الحصار المفروض على المدنيين في جزيرة توتي يعتبر من الانتهاكات الخطيرة التي يحرمها القانون الدولي الإنساني، لما ينطوي على ذلك من تجويع للمواطنين وحرمانهم من الحركة بقفل الجسور وطرق الإمداد الغذائي والدوائي.

كيف رأيت الخرطوم بعد (3) أشهر من الحرب؟ مراسلة لـ(عاين) تعود للعاصمة وتتجول لوقت قصير في شوارع المدينة

ووفق المحامي بناوي، تقع على عاتق قوات الدعم السريع كامل المسؤولية على الوضع الإنساني الكارثي الذي يعيشه مواطنو جزيرة توتي وما يتعرضون له قبيل هذه الانتهاكات، والتي تخالف القانون الدولي الإنساني والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعني بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

لكن مصدراً بقوات الدعم السريع ينفي لـ(عاين) فرض أي حصار على جزيرة توتي، وأنهم يقومون فقط ببعض التدابير الأمنية المحدودة بغرض الحماية، لافتاً إلى أنهم عملوا على توفير الاحتياجات الدوائية للمركز الطبي وبعض المتطلبات من الوقود لتشغيل عربة إسعاف الطوارئ، وذلك بالتنسيق مع الجهات الشعبية في الجزيرة.

بين نفي وإثبات حصار جزيرة توتي، يستند عمرو حسن على حقيقة وفاة خاله عبد الوهاب الرشيد والعديد من معارفه لانعدام الأدوية المنقذة للحياة وغياب الرعاية الصحية، وترتفع وتيرة الخوف عنده لوجود آخرين في عائلته يعانون الأمراض المزمنة، ويخشى أن يواجهوا المصير نفسه في ظل استمرار تدهور الخدمات الصحية.

يطلق عمرو حسن مناشدة لإنقاذ سكان جزيرة توتي الذين حجبت أصوات المدافع ودوي الطائرات بكائهم على من خطفهم الموت نتيجة نقص الأدوية، وصيحات الاستغاثة من واقعهم المؤلم.