السودان: الحــــرب تحاصـــر الصحافـــة
عاين- 9 نوفمبر 2023
مثل مئات الصحفيين السودانيين، وجد الصحفي (أ.ج) نفسه في أحد مراكز إيواء النازحين بمدينة ود مدني أواسط البلاد نازحًا يبحث عن مصدر رزق له ولأسرته. وبينما يتوجب عليه تأمين الطعام واحتياجات أسرته النازحة التي تتألف من عدة أفراد من بينهم والده المريض بالسرطان، والذي يحتاج إلى العلاج غال الثمن على الدوام، توقفت المؤسسة التي يعمل بها عن العمل.
ومنذ اندلاع الصراع الدامي بين الجيش والدعم السريع في الخامس عشر من أبريل الماضي، وجد عشرات الصحفيين السودانيين أنفسهم تحت وقع النيران المتبادلة التي لم تفرّق بين المواطنين والأعيان المدنية بما في ذلك مقار المؤسسات الصحفية.
“فمنذ انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر العام 2021، هناك تضييق وتعتيم إعلامي أثر في أداء الصحفيين وانعكس على حرية التعبير”، يقول الخبير الإعلامي عباس التجاني في مقابلة مع (عاين).
عدم الحماية
كما أن التراجع في حماية الصحفيين، بحسب الخبير الإعلامي، عباس التجاني، أدى إلى مقتل بعضهم، فضلاً عن سقوط الدانات على المقرات الصحفية من قبل طرفي النزاع وهو الأمر الذي يؤدي إلى التأثير المباشر على حرية الصحافة والإعلام.
ويتعرض عدد كبير من الصحفيين في مناطق مختلفة في الخرطوم العاصمة والولايات لمضايقات من قبل السلطات حيث تعرض مؤخرًا -بحسب التجاني- بعض الصحفيين لمضايقات في مدينة ود مدني وسط البلاد وفُتحت بلاغات في مواجهتهم، كما تعرض بعض الصحفيين للإذلال في نقاط التفتيش التابعة للجيش، وتعرضت فرق التغطية الإعلامية التابعة لبعض القنوات الفضائية في مناطق مثل الكلاكلة جنوب الخرطوم، للتحقيق ومصادرة المعدات والتهشيم في بعض الأحيان.
التجاني يلفت الانتباه إلى ان استهداف الصحفيين في إقليم دارفور من قبل أطراف الصراع أثر في أدائهم الصحفي وفي بث رسالتهم الإعلامية من مناطق النزاعات المسلحة، مع الأخذ في الاعتبار انقطاع خدمة الإنترنت لفترات طويلة.
التهديد بالاعتقال
لم يقع عبء الحرب على الصحفيين وحدهم فإن المصورين الذين تنبع أهميتهم من خلال نقل واقع الحرب المؤلم ربما يدفعون ثمناً أكبر، لمنعهم التصوير من قبل طرفي النزاع.
في مقابلة مع (عاين) يرى المصور، فائز أبوبكر إن السلطات تتعامل مع الصحفيين خاصة المصورين كأنهم أعداء، فإذا رغب المصور في تصوير قصة عن النازحين على سبيل المثال فسرعان ما يُعْتَقَل. ويؤكد أن المصورين في السودان يعملون وفق أعلى درجات الحذر تجنباً للاعتقال.
وبسبب هذا الحذر الشديد، لا يستطيع المصور أبوبكر العمل مثل ما كان يعمل في السابق كما يتعذر عليه إنجاز مشاريع صحفية جديدة مع تزايد حدة المضايقات التي يتعرض لها.
المنسق العام لصحفيون لحقوق الإنسان-جهر، فيصل الباقر، يرى أن الحرب المندلعة الآن شهدت انتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني من بينها الهجمات المباشرة على المدنيين والأعيان المدنية، بما في ذلك المؤسسات الصحفية والإعلامية.
الباقر يؤكد في مقابلة مع (عاين) تعرض الصحفيون والصحفيات لانتهاكات فظيعة خلال حرب الخامس عشر من أبريل، وصلت حد القتل العمد ويدلل على ذلك بمقتل الصحفية حليمة إدريس التي تعمل بقناة (سودان بُكرة).
ويدعو الباقر للتحقيق في هذه الجريمة والوصول للجناة وتقديمهم للمساءلة والعدالة، بسبب ارتكابهم لجريمة يحظرها القانون الدولي الإنساني فضلاً عن مصادرة الحق في الحياة.
“كما أن هناك العشرات من الصحفيين والصحفيات الذين تعرّضوا للاعتقال التعسفي والتعذيب، والتشريد والإجبار على النزوح من مناطق العمل والسكن الأصلية لأماكن أخرى أو اللجوء خارج البلاد والحرمان من الحق في العمل والتنقل والأكثر أهمية المنع من التغطية الصحفية المستقلة للنزاع المسلح.” يقول الباقر. الذي اعتبر أن قرار والي الجزيرة إسماعيل عوض الله العاقب، بـ”تشكيل مجلس للتنسيق الإعلامي يعد انتهاكا صريحا لحرية الصحافة والتعبير وللحق في التغطية الصحفية الحرة والمستقلة للنزاع.
ويرى أن القرار يحرم الصحافة والصحفيين والصحفيات من أداء مهامهم وواجباتهم الوظيفية، ولفت إلى أن الأخطر من ذلك أنه يجعل من الصحفيين والصحفيات أدوات لنشر “البروباغاندا” و الدعاية الحربية لمصلحة أحد طرفي النزاع وهو “القوات المسلحة”.
ودعا لمقاومة ومعارضة القرار برفع الصوت الصحفي الجماعي والمجتمعي ضده. وأضاف: “أن الانضمام إلى هذا المجلس يعد تخلياً عن واجب الصحفيين في التغطية الصحفية المستقلة للنزاع وتخلياً عن الحق في التعبير وممارسة المهنة بعيداً عن أيّ توجيهات تتعارض مع ميثاق الشرف الصحفي.
إنكار الهوية الصحفية
وفرضت الحرب على الصحفيين السودانيين إنكار هويتهم الصحفية التي لا يستطيعون إبرازها أمام أحد طرفي النزاع، لأنهم في نظر الطرفين المتنازعين مجرمون؛ بسبب سعيهم لإبراز الحقائق التي يحاولان إخفاءها بنشر الشائعات والأخبار المفبركة التي يروجان لها، ويعد ذلك أولى الانتهاكات التي وقعت عليهم. تقول مسؤولة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين إيمان فضل السيد لـ(عاين)
إن إخفاء الصحفي لهويته الصحفية يقود إلى انتهاك آخر يتمثل في عدم استطاعته ارتداء الملابس الواقية أو التي تميز هويته، وتعمل على توفير الحماية له في أثناء تغطيته للصراع وفقاً للأعراف والمواثيق الدولية، توضح فضل السيد وتضيف: “فرضت الحرب على الصحفيين إخفاء هويتهم الصحفية ونقل الأحداث في آن واحد.”
وبحسب مسؤولة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، تعرض العاملون جميعهم في الإعلام بولاية الخرطوم لتهديدات حقيقية بعد أن تعرضت مساكنهم للقصف أو النهب في ظل الاشتباكات العنيفة بين الجيش والدعم السريع.
وتابعت: تعرضت منازل صحفيون للقصف الذي أودى بحياة أفراد من عائلاتهم، ومنهم الصحفية عرفة خواجة التي قُتل ثلاثة من أبنائها بمنطقة الجنينة غرب دارفور قبل أن تفر مع بناتها عبر الحدود البرية إلى دولة تشاد وهي حُبلى في شهرها التاسع.
وقتلت والدة الصحفية اعتماد الميراوي واثنين من إخوتها وابن أختها جراء سقوط دانة بمنزلهم بأمدرمان. كما قتلت زوجة وابن المصور بصحيفة قوون علي جن إثر سقوط قذيفة في منزلهم بحي العباسية بمدينة أمدرمان في أغسطس الماضي، كما قُتل شقيق الصحفي أباذر مسعود نتيجة لسقوط دانة في منزل الأسرة بمدينة نيالا جنوب دارفور وفقاً لفضل السيد.
وتعرض عدد من الصحفيين للاختفاء القسري أو الاعتقال أو التعذيب أو التهديد وغيرها من الانتهاكات النفسية والجسدية.
فضل السيد تشير إلى تعرض 7 صحفيين من بينهم 3 صحفيات للإصابة وبلغ عدد الذين تعرضوا للاعتقال والاختفاء القسري 20 حالة من بينها 3 صحفيات بعض هذه الانتهاكات ارتكبت من قبل الجيش وبعضها من قبل الدعم السريع.
وتلقى أكثر من 20 صحفيا تهديدات وصل بعضها درجة التهديد بالتصفية الجسدية، بينهم 6 صحفيات. تؤكد فضل السيد وتابعت:” تم رصد حملة تقودها بعض الحسابات على (فيسبوك) ضد الصحفيين والقنوات الفضائية وتشجع الحملة المواطنين على طرد الصحفيين من مواقع الأحداث وتطالب السلطات بطرد القنوات التلفزيونية ما يُعد خطاب كراهية موجه ضد الصحفيين، بحسب فضل السيد.
“وفضلا عن الانتهاكات التي وقعت على الصحفيين، فإن عدداً من الصحفيين والصحفيات بينهم أعضاء في المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين السودانيين تعرضوا للتهديد بالقتل عبر مكالمات هاتفية ورسائل عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي”. تقول مسؤولة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين.
وحول احتجاز الصحفيين، تؤكد فضل السيد احتجاز نحو 100 صحفي وصحفية يعملون في مختلف المحطات الإذاعية والتلفزيونية في أماكن عملهم لفترات متفاوتة، أقلها 72 ساعة تحت القصف دون مؤن غذائية، وتشير إلى أن بعضهم خرج بمهاراته الفردية خلال ساعات الهدنة بينما تم إجلاء البعض الآخر من قبل الصليب الأحمر بعد مناشدات من النقابة.
وأضافت بأن 25 صحفيا وصحفية تعرضوا للاعتداء بالضرب أو نهب ممتلكاتهم الشخصية أو للانتهاكين معاً بواسطة قوات الجيش وقوات الدعم السريع على حد سواء.
وحول تشريد الصحفيين، تقول مسؤولة الحريات بنقابة الصحفيين إن معظم الصحفيين شردوا عن عملهم بسبب توقف معظم الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية عن العمل.
“لم يتم سداد رواتب (1166) عاملا وعاملة بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون القومي، كما لم يتم سداد (153) متعاونًا ومتعاونة بذات الهيئة منذ 15 أبريل الماضي”. تقول فضل السيد. وتضيف : “آخر راتب صُرِف للعاملين كان راتب شهر مارس 2023، ومؤخرا صُرِف راتب شهر أبريل.
وبالنسبة للصحف الورقية والإذاعات الولائية فقد توقفت 26 صحيفة عن الصدور كما توقفت 10 محطات إذاعية بولاية الخرطوم عن العمل بحسب مسؤولة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين.
وبلغ عدد الإذاعات الولائية التي توقفت عن العمل توقفا كاملا 7 إذاعات مع وجود إذاعتين تعملان بشكل متذبذب وهما إذاعتا مدينتي الأبيض والفاشر، بناء على مسؤولة الحريات التي لفتت إلى أن بعض الإذاعات توقفت عن العمل لفترة وعاودت العمل مثل إذاعتي عطبرة وبورتسودان وكذلك إذاعة أمدرمان التي عاودت البث مؤخراً من مدينة بورتسودان.
وبالنسبة للمحطات التلفزيونية، بلغ عدد المحطات التلفزيونية التي توقفت عن العمل داخل ولاية الخرطوم 6 محطات، وفقا لفضل السيد التي قالت إن معظم الصحف والإذاعات والقنوات لم تسدد رواتب منسوبيها، ولفتت إلى أن هنالك مؤسسات صحفية أنهت خدمة العاملين بها، بينما منحت بعض المؤسسات العاملين اجازة مفتوحة بدون راتب. ومؤسسات قامت بفصل صحفيين دون صرف نهاية خدمة لهم بحسب قوانين العمل.
سلامة الصحفيين
يعود الخبير الإعلامي عباس التجاني لتأكيد، أن تعامل طرفي النزاع بعدم مسؤولية فيما يختص بحماية المواطنين في الحرب المندلعة الآن وهو الأمر الذي وقع على الصحفيين الذين هم جزء من هؤلاء المواطنين، وهو الأمر الذي عده التجاني أحد انتهاكات الحرب.
ويتبنى طرفا النزاع في السودان الدعاية الإعلامية السوداء وفقاً لتعبير الخبير الإعلامي من خلال اتهام أحد الأطراف المتصارعة للطرف الآخر بارتكاب جرائم، كما أن احتدام الصراع بين داعمي الطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى تعميق الانقسام المجتمعي.
كل ذلك، وفق ما يرى الخبير الإعلامي، يطرح عدة أسئلة من بينها ضرورة وضع المؤسسات الصحفية لخطط تتصل بحماية أمن وسلامة الصحفيين، خاصة أولئك الذين يغطون مناطق النزاعات المسلحة، فضلاً عن ضرورة فتح نقاش مستقبلي حول شروط العمل الواجب توفرها للصحفي وفقاً للسياق الذي يعمل فيه.
وبناء على الوضعية الماثلة، حسب التجاني، فإن المؤسسات الصحفية بحاجة إلى توفير استراتيجية لحماية بقية الصحفيين الذين لا يزالون يعملون في مناطق النزاعات المسلحة مع ضرورة ربطهم بالمؤسسات الدولية التي توفر حماية للصحفيين.
يرى التجاني، أن طرفي النزاع لم يحافظا على التزاماتهم الدولية تجاه ضمان حرية التعبير وممارسة العمل الصحفي، ويدلل على ذلك بتعرض عدد من الصحفيين في شهور الحرب الأولى للتوقيف والتحقيق من قبل الاستخبارات العسكرية، كما أن بعض الصحفيين تعرضوا للاعتقال عن طريق قوات الدعم السريع في عدة مناطق مختلفة.
ويخلص التجاني إلى أن طرفي النزاع ليس لديهم الرغبة في أن ينقل الصحفيون الانتهاكات والفظائع والجرائم التي ارتكبت في الحرب المندلعة الآن وتوثيقها مؤكدا أن ذلك يضع على الصحفيين عبء بناء مصادر حقيقية تمكنهم من التحقق من المعلومات بشكل أكبر.