سباق المال والنفوذ .. لماذا استولى الجيش السوداني على السلطة؟
8 نوفمبر 2021
بين معسكرين اقتصاديين، ذرت الرياح أحلام السودانيين بتحقيق التحول الديمقراطي ومدنية الدولة وتطبيق شعارات ثورة ديسمبر 2018 المرتبط بالحرية والسلام والعدالة.
وأطاح الجيش السوداني في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي بالحكومة الانتقالية في البلاد بحل مجلسي السيادة والوزراء والزج بقيادات الحكومة الانتقالية في المعتقلات والإبقاء على رئيس مجلس الوزراء المدني عبد الله حمدوك تحت الاقامة الجبرية من تاريخه في منزله وسط تحركات محلية وإقليمية ودولية لحل الأزمة تتعثر خطواتها حتى الآن.
وبينما كانت حكومة الانتقال في السودان تعمل على إعادة الاقتصاد السوداني المتدهور واسترداد الأموال العامة المنهوبة من قبل نظام الرئيس المخلوع عمر البشير ، وحديث قادتها المستمر حول ايلولة استثمارات وشركات القطاع الأمني للخزينة العامة يرفض قادة هذه القوات على رأسهم رئيس مجلس السيادة ما يردده الحكام المدنيين قبل ان يعزز رفضه بذرائع بعمل المدنيين على انهيار المنظومة الامنية في البلاد وتهديد الأمن القومي وصولا للاستيلاء الكامل على السلطة.
كان المأمول بعد سقوط نظام البشير أن يحصل المدنيون على منظومة اقتصادية تبلغ قيمتها السوقية نحو 15مليار دولار مثل مصنع جياد للسيارات وشركة سوداتل للاتصالات المتنقلة ومبيعات الإنترنت وشركة زادنا العملاقة في القطاع الزراعي والبستاني لكن جميع هذه الشركات آلت إلى الجيش السوداني فيما عرفت بمنظومة الصناعات الدفاعية والتي يديرها كبار العسكريين ممن لديهم تأثير قوي على صناعة القرار داخل المؤسسة العسكرية بحسب مختار.
وصرح عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني الذي انقلب الجيش على حكومته في 25 أكتوبر الماضي بأن الحكومة المدنية تدير 20% من الاقتصاد والمال في البلاد بينما يستحوذ الجيش على 80% وذلك في خطاب شهير في أغسطس 2020 كان حمدوك يشكو من أن القوة الاقتصادية الهائلة لدى الجيش برأسمال لا يقل عن عشرة مليار دولار بينما تكافح الحكومة الانتقالية لجمع ثلاثة مليار دولار لوضعها كاحتياط في البنك المركزي لتحقيق استقرار في سعر الصرف حتى العام 2023.
وتعثرت نقاشات بين حكومة حمدوك وكبار جنرالات الجيش السوداني ممن يتولون مسؤولية الشركات العسكرية عندما ابتدر المدنيون النقاش حول أيلولة الشركات ذات الطابع المدني الى وزارة المالية ويقول محللون اقتصاديون ان ”الإرادة غير متوفرة لدى قادة الجيش لتمرير هذه الشركات الى الحكومة المدنية“.
يؤكد حسن عبد الرحمن الباحث في الشؤون القانونية والمحاسبية أن : ”الشركات العسكرية لا يمكن أن تؤول الى الحكومة المدنية في ظل قيادة الجيش التي ترى أن هذا الطلب المقدم من المسؤولين المدنيين ضرب من الجنون أي أنهم لايستحقون عناء الرد على هذا الطلبات ناهيك عن تسليم شركات تستثمر ملايين الدولارات وقد تنمو سريعا حال هيمنة الجيش السوداني على السلطة بشكل منفرد“.
ويرى عبد الرحمن في مقابلة مع (عاين)، أنه من الصعب حدوث انتقال مدني دون انحياز حقيقي لقادة الجيش نحو التحول الديمقراطي الذي يضع إمكانيات المؤسسة الاقتصادية العسكرية تحت إدارة المدنيين في سلم أولوياته لأن النشاط الاقتصاد العسكري قد يشكل خطرا على الديمقراطية ”.
أموال إزالة التمكين
أكثر من عامل اقتصادي كان سببا في احتدام الصراع السياسي بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية التي انقلب عليها الجيش، ومع استمرار الأخير في الحفاظ على مكتسباته الاقتصادية ووراثة نظام الرئيس المعزول اقتصاديا، وضع عينيه على الأموال المستردة من قبل لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال العامة.
مسؤول بلجنة تفكيك التمكين: العسكريون عينهم كانت على الأموال المستردة وعطلوا عمل اللجنة
ويوضح مسؤول قانوني بلجنة التفكيك وإزالة التمكين مشترطا حجب اسمه على خلفية الاعتقالات التي تطال أعضاء هذه اللجنة من المجلس العسكري أن :”المنظومة العسكرية التي تشارك في السلطة الانتقالية عينها على الأصول التي استردتها اللجنة من رموز النظام البائد”. واضاف لـ(عاين) :”هذا ما لمسناه من تعطيل العسكريين لجنة الاستئنافات التي تقرر عما إذا كانت هذه الأصول ستدمج في أصول حكومية بوزارة المالية او تعاد إلى ملاكها نتيجة المسارات القانونية“.
سباق الذهب
في صراعهم مع شركائهم السابقين من المدنيين في الحكومة الانتقالية، إستعمال جنرالات من الجيش سياسيون كانوا جزء من القوى المدنية التي عارضت نظام عمر البشير أبرز هؤلاء القادة علي عسكوري الذي يتمتع بعلاقة مرنة مع العسكريين وهو احد منظمي اعتصام القصر المدعوم من الجيش في ظل تقارير تتحدث عن تقلده وظائف في مؤسسات اقتصادية عسكرية إلى جانب ذلك مدير شركة الموارد المعدنية- شركة حكومية معنية بتحصيل رسوم الذهب- مبارك أردول. وانخرط الرجلان في تحالف سياسي مناوئ للحكومة الانتقالية ضم وزير مالية الحكومة المحلولة جبريل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة ومني اركو مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان.
كيف بنى الجيش السوداني تحالفه الاقتصادي المناوئ للحكومة الانتقالية في البلاد؟
وفي شهر أغسطس الماضي فشل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في إقالة أردول من منصبه بسبب ضغوط مورست عليه لإبقاء الرجل ضمن الدائرة الاقتصادية للسلطة الانتقالية ولاحقا شوهد اردول يعتلي منصة اعتصام القصر مطالبا بحل الحكومة الانتقالية واتهم أحزاب في قوى الحرية والتغيير ”الإئتلاف الحاكم“ بسرقة الثورة.
وقالت تقارير اعلامية ان سلطات مطار الخرطوم عثرت على 18كيلو من الذهب تخص حركة مسلحة موقعة على اتفاق السلام أثناء عملية تصديرها بشكل خفي الى إحدى دول الخليج الشهر الماضي بحسب تسجيلات صوتية تحدث فيها صلاح مناع عضو لجنة التفكيك قبل أيام معدودة من ”انقلاب البرهان“ وهذه التسجيلات اظهرت الأزمة المستفحلة بين ترويكا السلطة الانتقالية بدءً من لجنة التفكيك ومكتب رئيس الوزراء ووزراء قوى الحرية والتغيير ومجموعة اعتصام القصر المدعومة من قوات الدعم السريع والبرهان.
وكان عضو المجلس القيادي لقوى الحرية والتغيير ورئيس اللجنة الاقتصادية في حزب الأمة القومي الصديق الصادق المهدي قد ألقى باللوم على العسكريين في عدم تأمين المعابر والمطارات قائلا في مؤتمر صحفي قبل يومين من إنقلاب البرهان إن السودان بإمكانه تصدير 200 طن من الذهب ومعالجة الوضع الاقتصادي خلال ثلاثة أشهر فقط إذا جرى إحكام القبضة الأمنية على المطارات والحدود.
الصدام المؤجل
في خضم السباق المحموم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع نحو امتلاك القوة الاقتصادية في عهد ما بعد ”إنقلاب 25 أكتوبر“ سيما مع الرغبة الملحة لوراثة المنظومة الاقتصادية لنظام عمر البشير. يعتقد كبار جنرالات الجيش أن القوى المدنية التي كانت تناصفها السلطة الانتقالية منذ أغسطس 2019 ستجبر ”الاقتصادي العسكري“ على التراجع لصالح الاقتصاد المرتبط مع المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية والتي تشترط الشفافية المالية وتصفية الشركات العسكرية لصالح المدنيين.
ويقول الباحث السياسي احمد مختار في مقابلة مع (عاين) إن المنافسة محتدمة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لورثة المنظومة الاقتصادية لنظام عمر البشير. قائلا إن هاتين القوتين بعد فض اعتصام القيادة العامة استغلت تلك السانحة وسيطرتا على العديد من العقارات والمباني في العاصمة والولايات وعندما تولت حكومة عبد الله حمدوك السلطة لم يترك لها الجيش والدعم السريع سوى الفتات.
إزاء الوضع الاقتصادي المرموق للجيش السوداني اتجهت قوات الدعم السريع إلى امتلاك بنية تحتية لصناعة اللحوم بمدينة أم درمان غربي العاصمة وبدأ هذا المشروع العام الماضي بحسب تقارير أوروبية إلى جانب ذلك يدير مسؤولون عسكريون من هذه القوات شركة عملاقة للخدمات الامنية شرق العاصمة السودانية إذ أن أغلب الأنشطة الاقتصادية لقوات الدعم السريع غير مُعلنة.
ويرى عثمان أحمد المحلل في اقتصادات الجيوش في افريقيا في حديث لـ(عاين) أن قوات الدعم السريع التي تتلقى تمويلات سخية من ايرادات الذهب والرجال المقاتلين في حرب اليمن ترى أن هذه الأنشطة قد تساعدها على تأمين السلطة لاحقا بالتحالفات مع الادارات الأهلية وبعض قادة المجموعات المسلحة لذلك تحاول توفير غطاء سياسي ومؤخرا تحالفت مع مجموعة سياسية وحركات مسلحة خاصة التي وقعت اتفاق السلام وهما حركتي مناوي وجبريل.
بنادق الذهب
ويضيف عثمان أحمد: ”الملاحظ وجود نشاط خفي بين قوات الدعم السريع وقطاع المعادن منذ العام 2020 وهذا يقودنا الى الإجراءات التي نفذتها وزيرة المالية الأسبق هبة احمد علي والتي أشرفت على استلام مواقع التعدين في جبل عامر بولاية شمال دارفور غربي البلاد لصالح الحكومة الانتقالية متحدثة عن تنازل الدعم السريع للمناجم لصالح الحكومة المدنية وهي مواقع استنفدت جدواها الاقتصادي لكن هذه القوات درجت في البحث عن موطئ قدم وسط المدنيين وتلميع صورتها السوداء“.
ويتابع أحمد بالقول: ”رغم الجدل الذي صاحب مقابلة الحكومة المدنية لهذا الإجراء من تنازل لبعض الأسهم في شركة سودامين لصالح قوات الدعم السريع وهي الشركة المسؤولية تقنيا عن استيراد المواد السامة لأغراض التعدين إلا انه استمر وُوضع قيد التنفيذ لغياب المؤسسات المعنية بالرقابة ولم يكتشف المدنيين أن عدم اكتمال هياكل السلطة يقوض الانتقال إلا صبيحة الانقلاب العسكري 25 أكتوبر حينما أقتيد بعضهم الى الاحتجاز القسري“.
ويعتقد الباحث أن قوات الدعم السريع شعرت بالمخاطر جراء اقتراب استلام المدنيين للسلطة ما يعني أن الوضع لن يكون مواتيا للاستمرار في القوة الاقتصادية المستمدة من النفوذ الأمني جراء التسلح الكبير لهذه القوات خاصة الاسلحة اليدوية لذلك جاءت عرقلة التقدم المدني نحو السلطة الانتقالية بالمشاركة في ”انقلاب 25 أكتوبر“.
ويتوقع عثمان عدم وجود مؤامة بين أي حكومة منتخبة مستقبلا وبين هذه القوات أي أن وجودها معا مستحيل بالتالي سيعمل الجنرال دقلو على ضمان انتخابات تضعه في قلب المعادلة السياسية التي تسفر عنها الانتخابات“. ويضيف قائلا : ”من الصعب الإجابة على سؤال عن مصير الحكم المدني قبل الإجابة على سؤال حول التكلفة الأقل لتذويب هذه القوات“.
فيما يبين الخبير الاقتصادي، صدقي كبلو في حديث لـ(عاين) ان الإستثمارات العسكرية بجميع تشكيلاتها تشكل عقبة أمام التحول الديمقراطي في السودان بشكل كبير. مضيفا أن دوافع الانقلاب قد تكون من بينها الحفاظ على الثروات الخاصة بالمنظومة العسكرية في البلاد بالتالي الاستيلاء على السلطة.
ويلفت كبلو في هذا الصدد إلى أن الصدام المسلح قد يهدد السودان بسبب تعدد الجيوش وهذه من المخاطر التي تعرقل الفترة الانتقالية لأن اتفاق جوبا يسمح للمجموعات المسلحة الاحتفاظ بمقاتليها أثناء الانتخابات أي أن قادة المجموعات المسلحة قد يخوضون الانتخابات وهم يقودون جماعات مسلحة. ويضيف كبلو:“السودانيون أمام بركة غامقة لا يمكنهم مشاهدة ما بداخلها“.
لكن الباحث في قطاع الأنظمة العسكرية في افريقيا عثمان أحمد له رأي مغاير في مستقبل العلاقة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ويلفت إلى أن هذه العلاقة مستمرة بسبب التحالف بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي. ويقول أحمد لـ(عاين)، ان اي تغيير داخل كابينة الجيش قد يؤدي الى قلب الطاولة تماما على الجنرال القادم للتو إلى النادي السياسي الجديد.
وهناك ما يهدد مستقبل الدعم السريع في السودان بحسب عثمان أحمد أبرز هذه التهديدات تقارير نشرها محللون في الصحف الأميركية عن إمكانية تصنيف هذه القوات منظمة إرهابية على غرار الحرس الثوري الإيراني وهذه المطالب صعدت الى السطح عقب الانقلاب الأخير على المدنيين في السودان.
وأردف عثمان : ”أما استثمارات الجيش السوداني فإن أي حكومة مدنية قادمة قد تتمكن من السيطرة على الشركات ذات الطابع المدني التجاري وترك مصانع الأسلحة والمعدات العسكرية للقطاع العسكري ليديرها بنفسه وهذه التصريحات ظل يكررها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بإستمرار“. ويختتم عثمان أفادته بالقول: ”استمرار الانقلاب العسكري يعني عودة السودان عشرات السنوات إلى الوراء ليحكمه جنرالات وعسكريين ومجموعات مسلحة لا تتوانى في تصدير الذهب علنا عبر المطارات“.