«6 أشهر تحت القصف».. مراسل لـ(عاين) يحكي أصعب لحظات حرب السودان
“بعد مضي ستة أشهر من الحرب قررتُ مغادرة أم درمان لمدينة أكثر أماناً. ودَّعت المكان الذي بات أشبه بمدينة أشباحٍ كئيبة تخلو شوارعه من السكان، ولا تُسمع في جنباته إلا أصوات القذائف المتساقطة”. مراسل لـ(عاين) يروى أصعب اللحظات في حرب السودان.
عاين- 14 نوفمبر 2023
لم تكن مدينة أم درمان غربي العاصمة السودانية، بمعزلٍ عن حرب الخامس عشر من أبريل الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل شهدت أحياء وحارات محلياتها الثلاثة معارك محتدمة لاحتوائها على عدد من المواقع العسكرية المهمة.
مرَّ الشهر الأول من الحرب بهدوء نسبي في أم درمان، ولم يكن الصراع آنذاك قد تمدد كما هو الحال اليوم. فقط كانت تصلنا أصوات الانفجارات المتقطِّعة الآتية من شمال أم درمان بمعسكر سركاب وصينية كبري الحلفايا، إضافةً لأصوات الاشتباكات العنيفة التي شهدها حي الملازمين الذي يضم مبنى الإذاعة والتلفزيون.
يروى أحد الجنود الناجين من الهجمة الصباحية التي نفَّذها الجيش على معسكر سركاب، أنه منتدب من جهاز الأمن ليعمل مع قوات الدعم السريع، وأن المعسكر كان يحوي مئات العسكريين المنتدبين، وقد تفاجأوا صباح يوم الخامس عشر من أبريل بوجود انفجارات كبيرة داخل مباني المعسكر، وأن الطيران الحربي التابع للجيش قد قام بطلعات جوية مكثَّفة؛ مما أدى إلى مقتل مئات الجنود التابعين للدعم السريع، واستطاع هو الفرار والتسلل إلى الحارات المجاورة للمعسكر، ومن ثم وصل إلى منزله.
ذهول
هذا الجندي الناجي حكى، وفي عينيه ذهول كبير لا يخلو من استغراب يدور حول أن أفراد الجيش والدعم السريع كانا حتى تاريخ الرابع عشر من أبريل يُقيمان في المعسكرات نفسها، ويُرابطان في ارتكازات موحَّدة، وبين ليلةٍ وضحاها تحول الأمر إلى حرب بين القادة دفع الجنود الثمن.
أحد الأسباب التي دفعتني للبقاء طوال هذه الفترة بالخرطوم المسؤولية المهنية التي تُحتِّم علينا أن نبقى لنعكس ما يدور، خاصة وأن معظم الصحفيين حاصرتهم ظروف الحرب في مناطق أكثر عنفاً واضطرتهم إلى المغادرة، لم نتوقف عن تغطيتنا للأحداث المتعلقة بتطورات الصراع وتأثيره في حياة المواطنين، وبالطبع لم يكن العمل سهلاً تحت هذه الظروف. كانت المدافع تدوي والرصاص يتساقط والطائرات تُحلق والخطر في كل مكان، فضلاً عن الخطر الإضافي المتمثل في ممارسة الصحافة في ظروف أمنية معقدة كهذه قد يجعل الصحفي عرضةً للاعتقال، ومن السهولة اتهامه بالتخابر لصالح أيٍ من أطراف الصراع.
كان يملؤنا عشم كبير بأن الحرب لن تستمر كثيراً إلى أن دخلت شهرها الثاني. شهر مايو شهد تطورات عديدة في ميدان المعركة، فقد حاولت قوات الدعم السريع التسلل مرات عديدة إلى حارات الثورة من جهة الجنوب، وحدثت اشتباكات عنيفة في حيِّنا لعدة أيام متتالية.
في أحد أيام تلك الفترة، هاجمت قوات الدعم السريع ارتكازات الجيش في مدخل المدينة، وعند الظهيرة سمعنا صوت تحليق الطائرة الحربية فوق رؤوسنا، أعقب ذلك التحليق صوت انفجار مدو اهتزت على إثره الأسقف والأبواب والقلوب، ولا أنسى مشهد أمي وهي ممدة على الأرض مغمى عليها، وأختي متكومة في زاوية الفراش وجسدها يرتعد خوفاً.
قرار
بعدها عزمنا أمرنا بأن تُسافر والدتي وأخواتي، كان وداعهم مراً، وتجول في المِخيال هواجس وتساؤلات شتى، هل سيلتئم شملنا مجدداً أم لا؟ وما زلت أبحث عن إجابة لهذا السؤال!.. تقع ضاحية الثورة بمحلية كرري شمال مدينة أم درمان، وبها ما يربو فوق المائة حارة. في الجزء الشمالي الشرقي من المحلية يقع معسكر وادي سيدنا الذي يُعد أحد أهم معسكرات الجيش بالعاصمة الخرطوم، فضلاً عن كونه أحد أكبر المعسكرات، فإن أهميته الكبرى تتمثل في احتوائه على قاعدة وادي سيدنا الجوية.
واحتمى آلاف المدنيين بمحلية كرري لأنها لم تشهد معارك ضارية في بدايات الحرب مقارنة بمحليات ولاية الخرطوم الأخرى، فأنشئت عدداً من مراكز الإيواء للنازحين بالمنطقة. سعى الجيش لحماية معسكر وادي سيدنا بكل ما أوتي من قوة؛ لأن سلاح الجو هو كرته الأقوى في معاركه مع الدعم السريع، وظهرت هذه الحماية في نشر أرتال من الجنود على كل مداخل ومخارج محلية كرري، فأضحى المكان أشبه بثكنة عسكرية كبيرة تضم آلاف الجند المدججين بكل أنواع الأسلحة.
ملامح تتبدل
تبدَّلت ملامح المكان كثيراً، فالشوارع الرئيسية التي كانت في يومٍ ما مكتظة بحركة الناس والسيارات حلَّت محلها خطاوي الجنود والدبابات المجنزرة، وتكوَّمت المتاريس والخنادق الدفاعية في أطراف الشوارع، ولا تكاد تمر بمكانٍ إلا وتلاحظ ثقوب الرصاص قد اخترقت واجهات معظم المنازل، أو أن القصف المدفعي دكَّ بعضها.
أكثر حارات الثورة التي شهدت معارك ضارية، هي الحارات التي تقع على الحدود مع المحليات المجاورة، مثل محلية أم درمان التي تحدها ودنوباوي وحي العمدة والقماير من جهة الشمال، وقد وصلت القذائف إلى الحارات من الأولى حتى الحارة الثامنة التي تضم مستشفى النو، ومؤخراً تعرَّض هذا المستشفى لقصفٍ مدفعي توفي على خلفيته أربعة مواطنين.
أما حارات الثورة الغربية المتاخمة لمحلية أمبدة، فقد عانى سكانها من تهجير ونزوح كبيرين بعد وصول قوات الدعم السريع إليها، فأصبحت المنطقة بمثابة خط تماس فاصل بين تمركزات الجيش وأماكن سيطرة الدعم السريع، وينتشر في رؤوس بيوتها العالية ومآذن المساجد القناصين الذين لا يدَّخرون أي رصاصة في التعامل مع كل غريب.
ولأن منزل أسرتي يقع في إحدى الحارات الحدودية لمحلية كرري مع محلية أم درمان، فقد نلنا نصيبنا من الرصاص المتساقط وشظايا القنابل. لن يفارق ذاكرتي إحساس الذعر الذي انتابني عندما كنت في إحدى الحارات المجاورة وعدُّتُ إلى المنزل لأجد أن قذيفة صاروخية يقال إن مصدرها مدفع (هاون ١٢٠) قد نسَفت واجهة منزل جارنا، وأحالته في لحظات إلى كوم خراب، تطايرت الشظايا في كل مكان إلى وصلت مسافة أكثر من ثلاثين متراً لتتسبب في جرح ثلاثة من أبناء الحارة بإصابات متفاوتة الخطورة.
مدفعية ثقيلة
بمقدم شهر يوليو حدث اختلاف كبير في سير المعارك مقارنة بالشهرين الأولين، حيث انحسرت المواجهات البرية، واعتمد الطرفان على المدفعية الثقيلة والطائرات المسيَّرة التي لم يكن الدعم السريع يمتلكها عند بداية الحرب. كانت وما تزال قذائف المدافع تهوي على البيوت والأعيان المدنية في محلية كرري، مسببة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، مما جعل الكثيرين من الذين احتموا بحارات هذه المحلية يفرون منها، وينجون بمعية ما استطاعوا حمله من ممتلكات.
جميع المنازل الواقعة في خط النار كان مصيرها النهب، ومثلما اقتحم أفراد قوات الدعم السريع بيوت المواطنين في مناطق سيطرتهم عنوةً وطردوا سكانها، استغل أفراد الجيش خُلُو البيوت الواقعة في مناطق سيطرتهم فسرقوها.
عند خروجك لشارع النص أو الوادي يمكنك مشاهدة هؤلاء العسكريين الذين يرتدون أزياء القوات المسلحة، وهم يحملون شاشات التلفاز المسروقة، ويُجرجون الحقائب المعبَّأة بالمقتنيات، حتى أواني المطابخ لم تنجو منهم!. المفارقة العجيبة أن أي مواطن مدني أراد نقل أثاث منزله ومقتنياته يُطالَب بتصاريح وتصاديق تُستخرج من قيادة المنطقة العسكرية، في حين أن العسكريين المتفلتين يمرون بمسروقاتهم أمام الارتكازات جميعها، دون أن يتعرضوا لأي مساءلة، بل إن بعض هذه المسروقات تُعرض للبيع حتى الآن على قارعة الطريق بالقرب من طلمبة الثورة الحارة 14 وسوق صابرين.
مغادرة أم درمان
بعد مضي ستة أشهر من الحرب قررتُ مغادرة أم درمان لمدينة أكثر أماناً، ودَّعت المكان الذي بات أشبه بمدينة أشباحٍ كئيبة تخلو شوارعه من السكان، ولا تُسمع في جنباته إلا أصوات القذائف المتساقطة.
اتخذت قرار المغادرة بعد جدل داخلي كبير بين العاطفة والمنطق، فانتصر الأخير، وحملت حقائبي متوجِّهاً إلى إحدى الولايات الآمنة. تحركنا بالبص السفري في تمام الساعة السادسة صباحاً من الموقف الجديد الواقع بسوق حلايب القديمة بالثورة الحارة 21.
بدأت حملات التفتيش والارتكازات بعد دقيقتين فقط من تحرك البص، حيث صعد إلينا جندي برتبة مساعد بالقوات المسلحة، ألقى التحية وتمنى السلامة للركاب بأسلوب طيب، وطلب من كل الركَّاب النزول بمعية حقائب الظهر والأوراق الثبوتية لإجراء فحص ما قبل التحرك. فور وصولنا لنهاية شارع النص ظهر أفراد من الجيش أمروا السائق بالتوقف، وعند حديث السائق معهم علمنا أن هنالك قصفاً مدفعياً مكثفاً لقوات الدعم السريع من جهة مدينة بحري باتجاه معسكر وادي سيدنا الذي يجب علينا أن نمر أمامه حتى نعبر خارج حدود أم درمان.
كانت تصلنا على كل رأس دقيقة أصوات الانفجارات الهائلة بداخل وادي سيدنا، كما كان الغبار وأعمدة الدخان تتصاعد لأعلى. هذه المشاهد أدخلت مزيداً من الرعب في نفوس الأسر النازحة التي تحاول الفرار من جحيم الحرب، ويُطاردهم جحيمها حتى وهم في طريق الخروج.
عندما طال الوقت، افترش الأطفال وكبار السن الأرض تحت ظلال الحوائط والأشجار، وانحصرت حركة الشباب في أماكن محدودة خوفاً من شظايا القذائف. انضممت إلى مجموعة من النازحين الآتين من أحياء أم درمان القديمة، حكوا جميعاً قصص يومياتهم مع الحرب، وكان الحكي لا يخلو من الحذر خوفاً من أن يلتقط أفراد الاستخبارات العسكرية المنتشرين أي حديث له علاقة بالعمل العسكري وسير المعارك.
قال أحد الشباب إنه كان مقيماً في إحدى دول الخليج، وبعد اندلاع ثورة ديسمبر ألغى إقامته، ثم رجع إلى السودان أملا في أن يعمل هنا، وبالفعل بدأ في تأسيس عمله الخاص، لكنه فَقَدَ كل مدَّخراته بعد الحرب، وهو الآن متوجه خارج السودان للاغتراب مجدداً.
شاب آخر حكى عن نجاته من الموت بعد فقدانه لصديقيه إثر وقوع مقذوف بحي الموردة، أما أنا فقد شاركتهم الحديث عن بعض مغامراتي وجولاتي الدائمة في شوارع المدينة، وكان القاسم المشترك بيننا هو يأسنا من الواقع، وتبدد آمالنا العريضة في محيط الخيبات. حوالي الساعة الثالثة عصراً بعد أن نفد صبرنا، وكدنا أن نتراجع عن رحلة النزوح المتعطَّلة، جاءت الإشارة إلى سائق البص السفري بأن يتحرك؛ لأن القصف المدفعي قد هدأ.
وصلنا إلى صينية كبري الحلفايا التي كان يملؤها الخراب، حيث ترى السيارات العسكرية المحترقة في كل مكان، ولون الحريق الأسود يكسو عدد من المباني حول المعسكر، وثقوب الرصاص تتوزع على الجدران. حضرت عربتنا إلى إدارة المنطقة العسكرية الواقعة بحي الجرافة لأخذ إذن العبور، كان الإجراء سريعاً جداً، بعدها تحركنا وعلى بعد كل كيلومتر تقريباً انتصبت الارتكازات التابعة للجيش السوداني، وقد تركَّزت مهامها في التحقق من هويات المسافرين.
شقّت العربة ظلام الليل والإرهاق بائن في كل الوجوه، لكن رغم كَبَد الرحلة أحسسنا براحة كبيرة بعد اجتيازنا لريف أم درمان الشمالي الذي أيضاً شهد قصفاً مدفعياً عنيفاً صباح ذلك اليوم. وفي أول ارتكاز بعد خروجنا من حدود أم درمان أمرني أحد عناصر الاستخبارات بالنزول من البص، حينها أصابني القلق؛ لأنني الوحيد الذي أُنزلت.
تفتيش
أعتقد أن مقعدي الواقع خلف السائق مباشرة يجعل كل من يركب البص يركز بصره تلقائياً على هذا المكان. نزلت بحقائبي ثم بدأ الجندي بتفتيش أغراضي. أدخل يديه في جيوبي، ومرَّ على قدماي وأمرني بنزع حذائي، ثم طلب مني فتح هاتفي الجوال، وعندما لم يجد فيه شيئاً قال لي افتح سلة المحذوفات ففتحتها، حينها رأيت خيبة أمل كبرى ارتسمت في وجهه؛ لأنه وجد سلة المحذوفات فارغة، ولم يفلح في أن يُثبت عليَّ أي دليل يحتجزني بموجبه!. عند وصولي لمدينتي الجديدة التي نزحت إليها؛ رأيت ما لم أره منذ ستة أشهر، رأيت أسواقاً تضج بحركة الناس، وشوارع مزدحمة بالسيارات، وحياة طبيعية افتقدتها منذ نصف عام من الآن.
لم تبارحني ذكرى الخرطوم، وأنا أرى في كل شارع هنا نفس الازدحامات الحيوية التي كانت تتصف بها أسواق العاصمة المدمرة، كما أن ملايين المواطنين الذين تشتت بهم سبل الحياة، وجعلتهم نازحين في مدن وقرى السودان المختلفة، ومن ضمنها هذه المدينة تستطيع رؤية الحسرة الكبيرة في أعينهم عند سماعهم لسيرة الخرطوم، لكن سرعان ما تتبدد هذه الحسرة ببريق الأمل في أن تنتهي الحرب قريباً، ويعودوا إلى منازلهم التي فارقوها مجبرين.