التلاميذ القتلى.. الموقعون الماضون في دفاتر الثورة السودانية
19 يونيو 2022
عندما دخل الطلاب الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية لهذا العام الى القاعات كانت هناك مقاعد شاغرة بغياب اصحابها إلى الأبد بعد ان حصدت أرواحهم اسلحة الموت ضمن قائمة من القتلى الذين بلغ عددهم (102) في الاحتجاجات المناوئة للانقلاب العسكري.
شكل اولئك الطلاب حضورا باسمائهم وارقام جلوسهم، لكن غابوا باجسادهم ليبقى السؤال مثالا، من الذي فرض عليهم هذا الغياب القسري؟
الامتحان يجدد الاحزان
امتحانات الشهادة السودانية التي بدأت يوم السبت 11 يونيو الحالي، كانت سانحة جددت أحزان الاسر التي رزئت بموت فلذات اكبادها برصاصات السلطة وصحت أوجاعها التي مافتئت تساورها منذ رحيلهم المأساوي.
منذ أيام تدولت مواقع التواصل بالسودان على نطاق واسع مناجاة ” ام جاسم” والدة القتيل زروق طارق الحزينة، وهي تسأل طيف ولدها الغائب بحنان فياض كيف وجد الامتحان وهل واجه صعوبة بالاسئلة ام كانت سهلة؟ وطفقت تقول في مناجاتها الحزينه على صفحتها بفيسبوك:” ربنا كتب إنك ماح تمتحن ولا ح تكون معاي ولا بفرح بنتيجتك”.. وتنهي مناجاتها التي اطلعت عليها (عاين) بالدعوة على الذين تسببوا في سفك دمه غدرا قائلة:” اللهم انتقم لزروق من سلب منه حق الحياة”.
زروق طارق زروق(14) عاما كان من المفترض أن يكون أحد الطلاب الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية لهذا العام.
زروق طارق، كان ضمن المحتجين بكبري الحصاحيصا- رفاعة بولاية الجزيرة يوم 3 يونيو 2019 ولقي مصرعه هناك.
وفي يناير الماضي قضت محكمة جنايات الحصاحيصا بإعدام المدان بقتله، شنقا حتى الموت قصاصا وفي مايو الماضي قام قضاة محكمة الاستئناف بتأييد عقوبة الاعدام بحق القاتل.
التفاصيل الحزينة
وكما فعلت والدة زروق طارق كانت والدة القتيل احمد كامل رمضان، تبكي فلذة كبدها بكاءا حارا، وروت لـ(عاين) بصوت متهدج كثيرا ما منعه البكاء والنحيب من الاسترسال في التفاصيل المحزنة.
وقالت :” احمد كامل كان شابا اجتماعيا ومحبوبا من الجيران”. واحمد الذي يبلغ من العمر (18) عاما من المفترض ان يكون ضمن الطلاب الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية. كانت أمنيته أن يصير مهندسا كهربائيا لذلك اختار الالتحاق بالمساق الصناعي بعد حصوله على (212) درجة في امتحانات شهادة الاساس بولاية الخرطوم. وبالفعل درس الكهرباء العامة بمدرسة علي السيد الصناعية.
رصاصة في العنق
احمد كامل، اصيب في شارع الاربعين بامدرمان بالتحديد في مليونية 13 نوفمبر 2021 برصاصة في العنق تسببت في كسر الفقرتين الخامسة والسادسة وشلل تام حتى رحيله في 14 ديسمبر أي بعد شهر تقريبا من اصابته بالرصاص الحي.
احمد اسعف الى مستشفى البقعة بامدرمان حيث لزم السرير الابيض بقسم العناية المكثفة لـ(28) يوما، قبل ان ينقل الى مستشفى رويال كير بالخرطوم حيث قضى يومين ومنتصف اليوم الثالث لفظ انفاسه الاخيرة.
وفي مرضه الأخير ذلك ابلغني ان امنيته كانت السفر الى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج ولمواصلة دراسته هناك.
هكذا علمت بالنبأ
تقول والدة احمد كامل :” دائما ما اتفقد احمد بعد كل موكب، عندما اصيب ظللت اتصل بهاتفه دون انقطاع لكن بلا جدوى حيث كنت اصطدم بأن هاتفه مغلق في كل مرة وهنا استبد بي القلق وازدادت مخاوفي أكثر، وعلمت بقلب الام ان ولدي ليس على مايرام.
عند ذهابي الى مستشفى البقعة، وجدت اصدقائه بالخارج وهناك أبلغت بالنبأ الصاعق الذي كان صدمة زلزلت كياني ولاتزال. “ولدي اصابته رصاصة في العنق وتم تحويله الى العناية المكثفة”.
لا ادري كيف حملتني قدماي الى حيث يرقد بالعناية المكثفة، لكنني غالبت دموعي واظهرت له جلدي وصبري حتى لا اضاعف من وطأة آلامه.
بكاء شديد
في يوم استشهاده خرج والده وابنتي الصغرى باكرا ثم طلبت مني ابنتي الحضور الى المستشفى لان احمد في وضع حرج لكنني قلت لها :” ابني ليس في وضع حرج ابني توفى، وانا احتسبته شهيدا عند الله تعالى “.
وتستعيد ام احمد شريط ذكرياتها مع ابنها الشهيد وتقول وهي تبكي بحرقة شديدة لـ(عاين) :” كان يطلب مني العفو دائما، وكان كثيرا مايداعبني وهو متوجه الى المواكب ويقول لي “ابنك بطل يحمل على الأعناق”.. واذكر في احدى المرات أبلغته برغبتي في الهجرة عن البلاد لكنه أجابني دون تردد : “احب مكاني وطني السودان”. وهنا بكت بحرقة مرة اخرى .
اريد القصاص
تقول ام احمد : احمد هو اكبر اخوته والعام الماضي قام بتجميد عامه الدراسي ليعمل مع اصدقائه لتخفيف العبء على أسرته. وكان من المفترض ان يكون جالسا هذا العام لامتحانات الشهادة السودانية. الآن لا نريد شيئا سوى القصاص ” الدم قصادوا الدم ما بنقبل الدية” كما يردد ابناؤنا المتظاهرين.
كامل رمضان مصطفى احمد قال لـ(عاين) :” كان من المفترض ان يكون احمد ممتحنا الشهادة السودانية لكنهم قتلوه، اصدروا امرا بقتله دون ان يهتز لهم جفن. واحمد ابني البكر وكنت اعده سندي في الحياة وأنا أتساءل ما هو الخطأ الذي اقترفه ليقتل؟ كيف لشخص خرج للمطالبة بحقه في حياة أفضل كيف يأمرون باعدامه، كيف يقتل بكل بساطة ؟.
واضاف والد احمد :” هذه ليست حكومة، هؤلاء قتلة وان شاء الله ثورة حتى النصر”، وغالبته دموعه وبكى بحرقة شديدة وهو يؤكد بكلمات قاطعة مقرونة بالفجيعة : “انا لن اعفو عن الانقلابيين ماحييت، لانهم قتلوا ابني ، الذي كان يرغب في نيل الشهادة والسفر لمعاونتي لكن هؤلاء القتلة قطعوا الطريق على تحقيق احلامه كما فعلوا من الآلاف غيره”.
الانقلاب والتعليم
“الانقلاب العسكري أثر بشكل مباشر على العملية التعليمية وتوقفت الدراسة في الولايات والمحليات لفترات طويلة”يقول عضو لجنة المعلمين السودانيين، أحد الأجسام المؤسسة بتجمع المهنيين السودانيين سامي الباقر، يقول لـ(عاين)، ويضيف ” من المعلوم ان قوى الثورة بها مجموعات كبيرة من الشباب وكان من بين القتلى الذين حصدوا بسلاح السلطة الانقلابية كان من المفترض جلوسهم لامتحان الشهادة السودانية ليس هذا فحسب هناك عدد كبير جدا- لانملك احصائية دقيقة لهم- من المصابين حرمتهم الاصابة من خوض الامتحان”.
ويتابع وهو يتحدث عن المعلمين، “نحن ايضا لدينا معلم قتيل وهو الاستاذ لؤي الذي قتل بالرصاص في مجزرة 17 نوفمبر الماضي بالخرطوم بحري ومن قبل لدينا المعلم احمد الخير”.
ويضيف الباقر : في اعتقادي أن المعالجة المطلوبة تتمثل في انهاء الانقلاب العسكري وتسليم السلطة لحكومة مدنية مثلما يرى الثوار وقوى الثورة الحية. لأن الانقلاب لديه آثار كارثية على التعليم العام والتعليم العالي.
احصائيات صادمة
وحسب احصائية لمنظمة “حاضرين” وهي منظمة طوعية تعنى بالقتلى والمصابين والمعتقلين من ثوار ديسمبر، فقد بلغت عدد اصابات الاطفال الاقل من (18) عاما (127) اصابة تنوعت بين الطلقات النارية، المطاطية، الخرطوش، القنابل الصوتية، المسيلة للدموع، الدهس، أعقاب البنادق” دبشك”، التعثر.
وشكلت الاصابة بقنابل الغاز المسيل للدموع الاعلى بـ(206) اصابة والاسبوع الماضي قتلت طفلة صغيرة دهسا بدورية تابعة للشرطة بمنطقة الكلاكلة جنوبي الخرطوم.
ومؤخرا بدأت الشرطة وبقية الوحدات الامنية والعسكرية في استخدام الطلق الناري المتناثر “الخرطوش” وهو سلاح انشطاري تسبب في مقتل (8) وإصابة أكثر من (747) ثائر بالفترة من 25 اكتوبر 2021 الى 16 يونيو 2022 حسب احصائية اصدرتها لجنة اطباء السودان المركزية . واشارت الى ان معظم الاصابات القاتلة في الرأس والعنق والصدر والبطن والاعين.
وازاء آلة البطش التي لا تستثني احد، بادر نشطاء وفاعلون في قوى الثورة السودانية بضرورة اقتصار مشاركة الأطفال دون سن الثامنة عشر على الفعاليات الثورية داخل الأحياء وعدم مشاركتهم في التظاهرات المركزية.
ووجهت تنسيقية لجان مقاومة جنوب الحزام في 1 مايو الماضي، نداءً دعت خلاله “جميع الثوار والنشطاء لرفض تقدم الأطفال للصفوف الأمامية، وإيقاف الحملات غير المسؤولة التي تمجد دفع الأطفال للصفوف الأمامية”، ودعا النداء لحصر مشاركتهم في الفعاليات التي لا تمثل تهديداً لسلامتهم، في ظل وجود منظومة أمنية وعسكرية باطشة ودموية لا تميز بين أبناء الوطن وأعدائه.