مناهج التعليم السودانية.. إقصاء الأديان الأخرى
24 أغسطس 2021
“كانت المعلمة تجبرني على أن أحضر حصص القرآن، ولكني لم أستطع تقبل ذلك، وتسعى بكل جهدها إلى أن تدخلني الإسلام وتغريني بتوفير كل احتياجاتي لو أصبحت مسلمة. وتردد دائما أنتِ لا ينقصك أي شيء، فقط ما يعيبك هو أنك مسيحية”.
تقول ويني لوكا طالبة مسيحية من ولاية النيل الأزرق مستنكرة: هل يعقل أن مجرد اعتناق الدين المسيحي يعيب الإنسان! ألا تعد المسيحية دينًا مثل بقية الأديان؟. وتضيف قائلة: “كنت أسمع لفظ “يا كافرة” في المدرسة يوميًا وأعود آخر النهار إلى المنزل والحزن يتملكني. كل هذه المرارات كانت تجعلني أذرف دموعي بغزارة، ولكن في قرارة نفسي أرفض أن أرتد عن ديني..”.
ورثنا نظام تعليم صُمم خصيصا لتثبيت أركان النظام المستبد والفاسد الذي عمل على تطويع الأطفال للتحكم في عقولهم، عبر الاعتماد على الحشو والتلقين”- وزير التعليم السابق
ويني لوكا؛ واحدة من آلاف المسيحيين الذين ذاقوا الأمرين بسبب اعتناق ديانة أخرى. تسرد ويني لـ(عاين) المشاكل التي واجهتها أثناء الدراسة بمرحلة الأساس، قائلة: “معظم الدروس كانت تتحدث عن انتصارات الإسلام التي تحققت، وعند الحديث عن الدين المسيحي؛ كانت كل أنظار الطالبات تتجه نحوي، لتركز بعدها المعلمة على أن الإسلام أفضل عقيدة، ومن يعتنقون الأديان الأخرى كفار”، تصف ويني (16 عامًا) طريقة تلقي المناهج في المدرسة.
حتى الآن لم تفقد ويني الأمل في تغيير النظرة السابقة نحو الأقليات الدينية، فهي تحلم بتدريس جميع الأديان بالمناهج الجديدة، لتثبيت فكرة أن الأخوة الإنسانية هي الرابط بين البشر؛ توحدهم وتساوي بينهم.
أزمة تغيير المناهج
رغم أنها المرة الأولى التي انقسمت فيها آراء السودانيين بين مؤيد ومعارض، حول تغيير المناهج التعليمية، إلا أنها نواة أولى حقيقية لحملة تستهدف تبني مناهج تعليمية بمفاهيم إنسانية؛ ترسخ لقيم التعددية والتنوع الديني والإثني لتعزيز السلام في السودان.
بدأت الحملة بحشد إعلامي قادته الجماعات الدينية، اتهمت فيه المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، باستهداف المناهج وتفريغها من محتوى القرآن والسنة، مما تسبب في توتر مجتمعي؛ دفع برئيس الوزراء إلى إصدار قرار بتجميد العمل بمقترحات تعديل المناهج، وأعلن عن تكوين لجنة قومية تضم التربويين والعلماء المتخصصين، للمشاركة في مراجعة المناهج الجديدة.
واصل المنتقدون للتعديل الضغط على الحكومة، للتسليم بمشاركة المؤسسات الدينية، لمراجعة مناهج مراحل التعليم كافة، وهو ما أثار تساؤلات حول مصداقية الحكومة الانتقالية لتحديث المناهج بما يخاطب التنوع الإثني ويحقق الحريات الدينية؟.
تطور التعليم
كان لتأثير الدين القدح المعلى في وضع المناهج التعليمية في السودان، إذ بدأ بإنشاء الخلاوى كمؤسسات تربوية في القرن الخامس عشر الميلادي، وظل تأثيرها فاعلاً حتى الحكم التركي، حينها ظهرت المدارس النظامية لأول مرة في السودان، وفي العام 1902م؛ تأسست كلية غردون، وتطورت من مدرسة أولية إلى ثانوية ثم كلية، لتصبح بعدها جامعة الخرطوم. وشهد السلم التعليمي تعديلات عديدة ألقت بظلالها على جودة التعليم.
“منذ الاستقلال لم يحظَ التعليم بالصرف عليه، سواء من الحكومات المدنية أو العسكرية، رغم رفعها شعار مجانية وديمقراطية التعليم، ليخلف ذلك تردياً في المناهج والبيئة المدرسية، وعدم تأهيل المعلم وتدريبه”. بذلك وصفت الأستاذة قمرية عمر، نائب مدير المكتب التنفيذي للجنة المعلمين السودانيين لـ(عاين) واقع التعليم حاليا.
وقالت إن النظام السابق عمد إلى تدمير ممنهج للتعليم الحكومي حتى وصل إلى الانهيار، أعقبه فتح المسؤولين الباب واسعًا أمام التعليم الخاص. “خلال ثورة ديسمبر تقرر إحداث تغيير شامل للتعليم، ابتدره البروفيسور محمد الأمين التوم، وزير التربية والتعليم السابق، إلا أنه أوقف بقرار سياسي وعاطفي من رئيس مجلس الوزراء بتجميد تعديل المقررات”، تضيف الأستاذة قمرية عن قرار التجميد.
عدم وجود معلمين بالمدارس لتدريس مادة التربية المسيحية؛ دفع إلى تدريس المادة تطوعًا في الكنيسة أيام العطل بواسطة معلمين متطوعين بمجهودهم الخاص”- مدير مدرسة
أدلجة المناهج
سعى النظام السابق إلى إعداد مناهج لخدمة توجهه الآيديولوجي؛ أسفر عنه تراجع مستوى التعليم، خاصة عقب تطبيق مخرجات مؤتمر السياسات التربوية في العام 1990م، وفرض سلم تعليمي جديد؛ أدى إلى اختلال المناهج. وتلخصت غايات النظام في الترسيخ لأن يكون الدين هو المحور والهدف الأساسي للتعليم في السودان، وكرس لتبني علاقة المواطنين في الدولة على عقد يهدف لسيادة المسلمين، مما أدى إلى التهميش والظلم لمعتنقي الأديان الأخرى، وهو ما يتعارض مع الدستور وحقوق المواطنة، ويحض على الكراهية، ويهدد التعايش السلمي.
الدكتور أحمد النعمة محمد النعمة، رئيس دائرة الأصول والمناهج بمجمع الفقه الإسلامي، رغم إقراره بأدلجة المناهج في عهد النظام السابق لخدمة التنظيم؛ إلا أنه شدد على حرمة تدريس كتاب الصف السادس وحذف لجنة تقييم المناهج للكتاب، لتوصية مجمع الفقه الإسلامي. وأكد لـ(عاين) قومية التعليم، على أن لا تؤثر فيه جوانب فكرية أو حزبية أو سياسية؛ رافضًا “أي تشويه للدين أو فكر شاذ حتى في الفكر الإسلامي”، بحسب قوله.
“نتقبل إدخال الديانات الأخرى في المناهج، على أن تخضع لدراسة تربوية تثبت نفعها للمسلمين وفائدتها لتنمية قدرات الطلاب”، يقول النعمة عن تقبلهم للأديان. وتشرح قمرية ما درج عليه النظام السابق بقولها “النظام السابق تبنى العنف الديني وقرارات سياسية تنتقص من حقوق الجماعات الدينية، وهذا ما فجر المواقف”.
وتضيف قائلة عن استمرار معوقات التعليم “إن اللجنة التي كونها رئيس مجلس الوزراء لمراجعة المناهج الجديدة، غير محايدة؛ فكل أعضاء اللجنة من ديانة واحدة، رغم وجود أقليات دينية أخرى”. مؤكدة أن هذا ينبئ باستمرار المناهج التعليمية السابقة، مما يحدث غبنا يؤدي إلى التهميش والعودة إلى مربع الحرب.
تراجع التعليم
وبحسب إحصائيات وبيانات تفصيلية تحصلت عليها “عاين” من وزارة التربية والتعليم، عن حالة التعليم العام في السودان في العام 2018م، في أواخر حكم النظام السابق؛ فإن ما يقارب (2.245.851) طفلاً بين سن (6-13) سنة، خارج المدرسة في السودان لأسباب عديدة، من ضمنها عدم ملاءمة المناهج التعليمية، وأن نسبة الاستيعاب الظاهري في مرحلة الأساس بلغت 73.5% وتتراجع إلى 39.9% في المرحلة الثانوية، وأن نسبة 60.1% من جملة السكان في سن التعليم بالمرحلة الثانوية؛ خارج النظام التعليمي، وذلك لنقص عدد المدارس وإغلاق بعضها لتسرب التلاميذ وعدم مطابقتها المعايير في بعض الولايات. وتعد ولاية جنوب دارفور الأسوأ أداء من حيث عدد الأطفال خارج المدرسة في مرحلة الأساس، بنسبة تبلغ 34.1%، فيما يبلغ إجمالي نسبة الإنفاق على التعليم العام 2.22%، بحسب آخر إحصاء للبنك الدولي.
البروفيسور محمد الأمين التوم، وزير التربية والتعليم السابق، قال في ندوة شهدتها (عاين) حول “التعليم بين تدمير النظام البائد وإهمال النظام الحالي” إن مسيرة التعليم منذ الاستقلال حلّ بها قصور يصل إلى مستوى الجرم الذي يتطلب المحاسبة والمساءلة لكل النخب الحاكمة.
وأكد أن نظام التعليم به خلل بنيوي وعدم عدالة وإنصاف وفروقات جغرافية ودينية ونوعية واجتماعية بين الريف والحضر؛ تستدعي تغييرًا جذريًا، وبناء منظومة تعليمية جديدة، وإشراك المجتمعات المحلية في صناعة السياسات التعليمية.
الدكتور عمر القراي، مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي السابق، قال إن تدمير التعليم يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، لافتًا إلى تخلف المناهج عن مهارات التعليم في القرن الحادي والعشرين، والذي يتطلب تعليم الأطفال التفكير النقدي والإبداع والمبادرة والمشاركة والقيادة للتواصل مع التطور التكنولوجي.
لابد من جعل المنهج تفاعليًاً وليس تلقينيًا، ومعالجة قضايا التعليم من جذورها، بتغيير المناهج في كافة المراحل التعليمية، والابتعاد عن أسلوب استقطاب عقول الناشئة، والوقوف على مسافة متساوية من كل الأديان والثقافات”، مؤكدًا على ضرورة تغيير المناهج، ليكون مصدر قوة لمجتمع تعددي؛ يحتضن الآراء والأديان كافة – عمر القراي
تحديات التنوع
لم تتوقف أدلجة المناهج من النظام السابق على عدم التفريق بين الأقليات الدينية فقط، بل وقع ذلك النظام في سوء تقدير وصل إلى مرحلة سد الطريق أمام حقوق هذه الأقليات والتعبير عنها. هذا ما كشفت عنه الجولة الميدانية التي سجلتها “عاين” لولاية النيل الأزرق.
يؤكد دينق بول دينق، مدير مدرسة الكمبوني، الكنيسة الكاثوليكية بمدينة الدمازين، أن تدريس مادة التربية المسيحية تواجه تحديات عديدة من ضمنها المنهج وتوفير الكتاب المدرسي والمعلمين.
“المنهج عدل مرات عديدة وهو لا يواكب قدرات الطلاب ويتطلب تدريسه وجود معلمين أكفاء ومؤهلين، ومعظم المشاكل التي يواجهها الطلاب في المرحلة الثانوية هي (عدم النجاح في مادة اللغة العربية)، وذلك بعد ما سحبت مادة اللغة العربية الخاصة المبسطة؛ التي كانت تدرس لغير الناطقين باللغة العربية”، يقول دينق ل”عاين” عن الصعوبات اللغوية التي يواجهها الطلاب من الإثنيات الأخرى.
ويضيف أن تغيير المناهج يتطلب تبسيط مادتي التربية الإسلامية والمسيحية من أجل استيعاب الطلاب، وأهمية تدريس الأديان للطلاب لتعريفهم بكافة الرؤى والأفكار، وعدم التركيز فقط على ديانة واحدة فقط.
“تعديل المناهج خلال فترات الأنظمة السابقة؛ أدى إلى رفع نسبة الأمية بولاية النيل الأزرق إلى 54.8% بحسب آخر إحصائيات البنك الدولي بالولاية للعام 2020″، تؤكد ذلك لـ(عاين) الدكتورة عرفات محمد إبراهيم، منسق مشروع البنك الدولي لتعليم الأساس بولاية النيل الأزرق، مرجعة الأسباب لعدم مراعاة خصوصية التداخل اللغوي والتنوع الديني بالولاية، مشيرة إلى أن أهم التحديات تدريس المناهج العامة للأقليات الدينية دون توافقها مع معقداتهم، مما أدى إلى ارتفاع نسبة التسرب المدرسي.
حقوق الأقليات
عائشة عامر الطاهر، وزيرة التربية والتعليم المكلفة بولاية النيل الأزرق، أقرت بتدرس مادة التربية المسيحية في الكنائس، لعدم وجود معلمين، وشددت في حديثها لـ(عاين) على أن الولاية تشهد تعايشا سلميا بالرغم من التنوع الإثني والديني.
“من حق الأقليات الدينية ممارسة حقوقهم دون إضرار، ولابد أن يضع المسؤولون نصب أعينهم أن تغيير المناهج يجب أن يتم وفقا للتعدد الديني، وهو من الثوابت، حتى لا تُهضم حقوق الأقليات”، معلقة على تصحيح مسار المناهج التعليمية الجديدة. وأكدت الوزيرة استمرار الوعي السياسي الذي حققته ثورة ديسمبر دون استدرار العواطف الدينية، مطالبة بضرورة مواكبة المناهج للتغيير الذي حدث في السودان، ليخاطب التنوع الديني واحترام حقوق الآخرين.
“لابد أن يواكب تغيير المناهج التعدد الديني واللغوي بالولاية، والاعتراف بهذا التنوع، وإشراك التربويين واستصحاب أراء الآخرين من أبناء الولاية لحفظ حقوق هذه الأقليات”، ترى الدكتورة عرفات أنها النقطة الأهم التي تكمن في جوهر تغيير المناهج.
ارتفاع التسرب المدرسي
وبحسب الإدارة العامة للتخطيط والإحصاء التربوي، وزارة التربية والتوجيه بولاية النيل الأزرق، حول مؤشرات التعليم بمرحلة الأساس، للعام 2019/2020، فإن عدد السكان في الفئة 6 سنوات بلغ 35.158 تلميذا، فيما بلغ عدد التلاميذ داخل النظام التعليمي بالصف الأول 23.950 تلميذا، وسجل معدل القبول بالصف الأول نسبة 64.4%، وسجلت نسبة الاستيعاب الظاهري 57.9%.
أما الأطفال في سن التمدرس خارج المنظومة التعليمية، فقد بلغ 108.562 طفلا، منهم 10.400 طفل داخل مراكز الأطفال والشباب، وبلغ عدد أطفال (الكرمك وقيسان وبو)؛ الذين يدرسون خارج الحدود ويتوقع عودتهم بعد السلام 41.500 طفل. وبلغت جملة الأطفال المستهدفين من جملة الأطفال خارج المنظومة التعليمية 56.662 طفلا. وبذلك تسجل ولاية النيل الأزرق ثاني أعلى نسبة تسرب بالسودان 29.3% بعد ولاية جنوب دارفور؛ وفقا لآخر إحصائيات التعليم.
تم إنتاج هذه القصة بدعم من المركز الدولي للصحفيين (ICFJ) و Code for Africa