كيف ينظر خبراء ومحللون للمصير السياسي للحركات المسلحة بدارفور؟
عاين- 12 نوفمبر 2025
يمر إقليم دارفور بمنعطف هو الأصعب منذ بداية مقاومة الحركات المسلحة في الإقليم للسلطة المركزية عسكريا في أوائل العقد الماضي. ولم تقتصر تداعيات الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023 على الميدان العسكري بعد سيطرة قوات الدعم السريع و”تحالف تأسيس” على الجزء الأكبر من الإقليم، بل امتدت لتضرب في صميم الوجود السياسي للحركات المسلحة التي نشأت في الإقليم.
تاريخياً، مرت الحركات المسلحة في دارفور، بتجارب ومنعطفات سياسية عديدة، وأدت الانقسامات المتكررة في صفوفها إلى تشكيل خارطة معقدة للقوى الفاعلة. لكن الحرب التي اندلعت في الخرطوم أبريل 2023 كانت أصعب معترك سياسي، إذ جعلت التفريق في مواقف الحركات المسلحة في دارفور كبيراً. انقسم تحالف الجبهة الثورية إلى قسمين رئيسيين: أحدهما انحاز إلى الجيش السوداني، وعُرف مؤخراً بـ “تحالف بورتسودان” (كونها المدينة التي اختارها الجيش عاصمة مؤقتة له بعد سيطرة الدعم السريع على الخرطوم). والآخر أصبح جزءاً من “تحالف تأسيس السودان الجديد”. أما حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، فظلت خارج هذه التحالفات، محافظة على موقف الحياد.
أدى سقوط الفاشر إلى وضع القوات التي يقودها مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم تحت مسمى “القوات المشتركة” في موقف حرج، حيث أصبحت بلا أرض تسيطر عليها. في المقابل، أصبح تحالف تأسيس المسيطر على معظم أراضي الإقليم. هذا الوضع يثير تساؤلاً مهماً حول المصير السياسي لحركة جيش تحرير السودان بقيادة مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم.
“لسقوط الفاشر تداعيات تجاوزت الخسائر الميدانية”. الباحث في بناء السلام والحركات المسلحة، يقول محمد الهادي لـ(عاين). ويشير إلى أن سيطرة الدعم السريع على الفاشر شكّل “تحولاً نوعياً في موازين القوى داخل دارفور، وفقدت القوات المشتركة، التي تضم تشكيلات من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، آخر موطئ قدم فعلي لها في الإقليم.

وتابع الهادي:”كانت هذه القوات تُمثّل إحدى ركائز الوجود السياسي والعسكري لتحالف بورتسودان في الغرب، باعتبارها القوة التي تحفظ توازن القوى في مواجهة التمدد الميداني لقوات الدعم السريع. لكن بعد سقوط الفاشر انكشف الضعف البنيوي لهذه التشكيلات العسكرية، وتراجعت صورتها لدى الرأي العام المحلي، كونها عاجزة عن حماية المدنيين أو الدفاع عن الرمزية التاريخية والسياسية للفاشر”.
ويرى الهادي، أن أثر هذا السقوط لم يكن عسكرياً فقط، بل سياسياً أيضاً، “إذ تآكلت جماهيرية هذه الحركات في دارفور وبعضهم يرى أنها تحولت إلى”قوى مُرهَقة تابعة لتحالف السلطة في بورتسودان أكثر من كونها ممثلة لهموم الإقليم”. ويضيف محمد الهادي:” كانت مدينة الفاشر القلب السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإقليم، ومن خلالها كانت الحركتان تحافظان على صلتهما المباشرة بقاعدتهما الشعبية، وعلى شرعية وجودهما كممثلين لأحد مكونات دارفور السياسية والمسلحة. من الناحية الاجتماعية والسياسية، كان كثير من سكان دارفور يرون في مناوي وجبريل جزءاً من منظومة نضالية قديمة واجهت التهميش المركزي. غير أن موقفهما من الحرب الحالية، وتحالفهما مع الجيش في معسكر بورتسودان، جعلهما يبدوان في نظر كثيرين كقوتين انتهازيتين فقدتا البوصلة الأخلاقية والسياسية، خصوصاً مع غياب أي جهد ملموس منهما لحماية المدنيين أو التخفيف من المأساة الإنسانية التي اجتاحت الإقليم.”
“في مناطق مثل شمال دارفور وغربها، حيث كانت الحركة التي يقودها مناوي تتمتع بحاضنة أهلية واسعة، لكن سادت حالة من الإحباط والخذلان”. فالمجتمعات المحلية التي عانت من جرائم الدعم السريع كانت تنتظر من مناوي موقف مبدئي حازماً، لكنه “اكتفى بخطابات سياسية بعيدة عن الميدان، ما جعل كثيراً من أنصاره التقليديين ينفضّون من حوله، أو ينكفئون على ولاءاتهم الأهلية الضيقة”. يقول الباحث في بناء السلام والحركات المسلحة، محمد الهادي لـ(عاين) ويتابع:” أما جبريل إبراهيم، فقد وجد نفسه في مأزق أعقد، فقاعدته في غرب دارفور تآكلت بشدة، بعدما تحوّل الإقليم إلى ساحة نفوذ للدعم السريع، الذي بات يفرض سلطته الإدارية والأمنية على الأرض. وهكذا فقد جبريل الرابط الميداني الذي كان يمنحه شرعية التمثيل الشعبي، دون أن يكتسب بالمقابل نفوذاً فعلياً داخل مركز السلطة في بورتسودان، حيث “يُنظر إليه من قبل العسكريين كحليف مفيد مرحلي، يمكن الاستغناء عنه لاحقاً عند رسم خريطة الحكم الجديدة”.
تحدي الوجود.. الحركات تحت إمرة الجيش
“الخسارة الميدانية للفاشر وضعت القوات المشتركة في موقف عسكري وسياسي حرج”. يقول الخبير العسكري، عمر أرباب لـ(عاين)، ويشير إلى أن سقوط الفاشر كان “خسارة كبيرة” بالنسبة للقوات المشتركة على وجه التحديد، والتحالف بشكل عام. ففقدان هذه المنطقة التي كانت تُكسب الحركات وضعاً يمكن خلاله أن تمارس شيئاً من الضغط على القوات المسلحة، قد جعل القوات المشاركة في موقف حرج بالنسبة لوضعها العسكري. ويضيف أرباب:”التحالف ذو القدرة المتضائلة… هو الآن أيضاً يعيش حالة من التمزق والتصدع.

ميدانياً يشير أرباب إلى أن القوة المشتركة الآن هي تحت إمرة الجيش، ليس لها وجود منفصل على الأرض تستطيع أن تمارس من خلاله أي شكل من أشكال الضغط، وبالحسابات العسكرية، لم يتبق للحركات إلا “اتفاق جوبا” كنص مكتوب، ولكن على الأرض هي تتأثر كثيراً.
وعلى النقيض، يرى الخبير الأمني والعسكري، الفاتح عثمان محجوب، أنه وبعد سيطرة الدعم السريع على إقليم دارفور، تلوح فرصة للقوات المشتركة بأن تتحول إلى “قوات تحرير” بالنسبة لمعظم سكان إقليم دارفور غير المنتمين للمجموعات العربية. على الرغم من وجود منافسين على الجانب الآخر في تحالف تأسيس وأصحاب نفوذ عسكري مثل الطاهر حجر والهادي إدريس.
عبد الواحد نور.. موقف مغاير
في المقابل، يبرز موقف حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور مغايراً من حيث الشكل والمضمون. ويرى محمد الهادي، أن وجود الحركة في المناطق الجبلية المحصنة بجبل مرة جعله “بمنأى عن سيطرة الدعم السريع من جهة، وعن الارتباط بالتحالفات العسكرية في بورتسودان من جهة أخرى”. هذه العزلة الميدانية، رغم أنها تُضعف حضوره السياسي المباشر في المشهد الوطني، إلا أنها “تحافظ له على رصيد رمزي كبير في الوعي الشعبي”، بوصفه آخر القيادات الدارفورية التي لم تتورط في الحرب الدائرة، أو في تحالفات مع قوى المركز، مما يعزز صورته كـ “صوت متمسك بمشروع العدالة والمواطنة”.
ويقول الناطق الرسمي باسم حركة عبدالواحد محمد نور، محمد عبدالرحمن الناير: أن “سيطرة الدعم السريع على عواصم الولايات بدارفور ليس لديه تأثير عسكري، أو على مناطق سيطرة حركته”.
ويشير الناير في مقابلة مع (عاين) إلى أن قوات الدعم السريع “تعلم وتحترم موقف الحركة المحايد في الحرب الجارية”. ويقول: “رغم حدود التماس بين مناطق السيطرة، استطاع الطرفان إدارة الموقف بحكمة ووعي متقدم، مما انعكس إيجاباً على سلامة المواطنين واستقرارهم”. ويضيف: “التجارة والرعي وحركة المواطنين من وإلى سيطرة كل طرف لم تتأثر رغم الحروب”. ويؤكد الناير أن الحركة لها موقف ثابت ومبدئي حول السلام بالسودان وضرورة “مخاطبته للجذور التاريخية للأزمة، وأن يقود إلى تغيير شامل في بنية الدولة”، وتعمل من أجل بناء “أكبر جبهة مدنية لإيقاف وإنهاء الحرب”.
فيما يرى محمد الهادي، أن بقاء عبدالواحد في مناطق نفوذه المحدودة، مع حرصه على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع قوى أخرى مثل حركة الطاهر حجر ضمن مسمى “قوات حماية المدنيين”، يوحي بمحاولة ذكية لإعادة صياغة مشروعه في سياق جديد، يركز على الحماية الإنسانية لا المواجهة المسلحة. وإذا تطور هذا الاتجاه، فقد يتحول إلى نقطة ارتكاز في أي معادلة سياسية جديدة لدارفور.

من جانب آخر، يقول القيادي في تحالف السودان التأسيسي، فتحي محمد: إن “حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور، لديها رؤيتها وقراءتها للواقع الجديد. والعلاقة بين تحالف تأسيس وبين تحرير السودان بها نقاط التقاء كبيرة جداً، أكثر من النقاط التي يمكن أن تفرق بين الحركة والتحالف. وهناك نقاشات مستمرة غالباً ستقود إلى نتيجة طال الزمن أم قصر، وهذه النتيجة بالتأكيد ستكون إيجابية، خاصة بعد المتغيرات الضخمة التي حصلت في الإقليم”.
ويعتقد الخبير العسكري عمر أرباب، أن “عبدالواحد نور ” هو أفضل من تبقى من قادة الحركات المسلحة بدارفور، باعتباره لم يُستنزف في هذه الحرب، ولم يقدم تضحيات كبيرة كالتي قدمتها القوات المشتركة. وبالتالي، هو الآن في وضع مريح (موضع الحياد). ويضيف أرباب: “لا أتوقع مهاجمة الدعم السريع مناطق سيطرة حركة جيش تحرير السودان؛ لجهة عدم نيته فتح جبهة جديدة مع شخص لا يُضمر له العداء، لا سيما أنه يخوض معارك مع جهات كثيرة تتربص به”. ويخلص أرباب، إلى أن “المشهد القادم يجعل الحركات المتحالفة في حرج، وأن الخيار الأفضل لها هو أن تتحرك في جانب سياسي تستطيع أن ترمِّم به الخسائر التي تكبدتها”.






















