عَسْكَرَةٌ الأغاني.. محاولات تمزيق وجدان السودانيين
عاين– 21 ديسمبر 2025
لم تتوقف تداعيات الحرب في السودان، على القتل والتشريد والجوع، لكنها امتدت لتطال المساحات الأكثر خصوصية في حياة السودانيين، مساحة الوجدان والذاكرة الجمعية المرتبطة بالغناء، وذلك بعدما تردد على نطاق واسع نية السلطات الحكومية، فرض قيود جديدة تسمح فقط ببث الأغاني الحماسية والمحفزة على القتال عبر القنوات الفضائية، في مسعى يقود إلى “عسكرة الأغاني” وجعلها وقوداً للحرب.
وبحسب معلومات متداولة، فإن السلطات المعنية في السودان، بصدد إصدار قرار يقضي بإيقاف بث برامج الأغاني في القنوات السودانية والإذاعات المحلية على نحو مؤقت، وذلك استجابة لرغبة بعض المدونين الداعمين للجيش واستمرار الحرب، فهم يرون ضرورة مراجعة المحتوى الإعلامي ليتناسب مع التعبئة العامة والاستنفار الشامل الذي أعلنته الدولة، وأن البلاد تمر بمأساة تمنع الاحتفاء والطرب.
ولم تعد الرقابة على المحتوى الإعلامي بالسلوك الجديد على السلطات السودانية، فقد كانت سائدة على مدار حكم الحركة الإسلامية الذي بلغت ثلاثة عقود، حيث يراقب فرد من القوات الأمنية يسمى “الرقيب” محتوى الصحف ووسائل الإعلام قبل بثه ونشره، ويحذف جميع المواد التي لا تعجب السلطة، في عملية عُرفت في الوسط الإعلامي بـ”مقص الرقيب”.
قناة النيل الأزرق تتجه إلى بث الأغنيات الوطنية والحماسية خلال برنامج أغاني وأغاني، وإفراد مساحة لحرب الكرامة
مصدر لـ(عاين)
برنامج “أغاني وأغاني” على قناة النيل الأزرق الذي يُبث خلال شهر رمضان من كل عام، بدا الأكثر تأثراً بالقيود المرتقب صدورها من السلطة، في وقت تسعى إدارة القناة إلى إجراء تعديلات واسعة على محتوى البرنامج الذي يجري تسجيله هذه الأيام، بحيث يكون التركيز على الأغاني الوطنية والحماسية وتخصيص مساحات إلى ما يعرف بحرب الكرامة، وذلك وفق ما نقله مصدر مقرب لـ(عاين).
وتأتي هذه التعديلات ضمن محاولة قناة النيل الأزرق تفادي حجب البرنامج الذي ارتبط بوجدان المشاهدين السودانيين لقرابة عقدين من الزمان، ولم يعد مجرد مساحة غنائية، بل تحول إلى طقس رمضاني يجمع السودانيين، إلا أن ثمة من يرى في ذلك هذا تنازلاً كبيراً يفرغ البرنامج من محتواه الطربي الجمالي الأصيل، ويحول القنوات إلى تروس في آلة التعبئة الحربية.
نزاع وجودي
تلك التوجيهات المرتقبة، تعكس رغبة جامحة في تحويل الجهاز الإعلامي، العام والخاص المرتبطة بالسلطة بشكل أو بآخر، إلى مجرد بوق حربي لا صلة له بالواقع المدني أو الاحتياجات النفسية للمواطن المقهور تحت وطأة النزوح والجوع، مما يطرح سؤالاً جوهرياً حول قدرة السلطة على عسكرة المشاعر وتوجيهها قسراً نحو جبهات القتال.
الناقد الفني والمسرحي السر السيد، يضع هذه القضية في سياق النزاع الوجودي الراهن، ويشير في مقابلة مع (عاين) إلى أن السؤال حول التركيز على الأغاني الحماسية وإقصاء الأنماط العاطفية نادراً ما يطرح في إطار شروط النزاع نفسه.
الحرب كشفت سقفاً مرتفعاً للأطراف، وتصب كل إجراءاتها في صالح استدامة القتال كهدف محوري
ناقد فني
ويقول السيد: إن “الحرب السودانية كشفت عن سقف مرتفع جداً للأطراف المتصارعة، حيث تصب كل الإجراءات في مصلحة استدامة القتال كهدف محوري، وبناءً على هذا الفهم، فإن الإصرار على التعبئة العامة عبر الأثير يتناغم مع الخطة الأساسية الرامية لإطالة أمد الحرب وتغييب أي بدائل مدنية للوعي”.
ويطرح السيد تساؤلاً استنكارياً حول لجوء السلطة للتعبئة الموسيقية المكثفة، معتبراً أن المواطن المقتنع بشرعية الحرب لا يحتاج إلى غناء يحفزه، وأن هذا التركيز المبالغ فيه يمثل مؤشراً خفياً على غياب اليقين من دعم المواطنين الفعلي للنزاع، مما يدفع السلطة لإنشاء “روافع” عاطفية زائفة لتعويض الفراغ في القناعة الشعبية”.
ويوضح السر السيد، أن “المشكلة الأساسية تكمن في صميم موقع الإعلام ضمن ذهن السلطة السودانية عبر تاريخها، حيث لا يُنظر إلى الإعلام ككيان مستقل يحدد دوره المهني، بل كأداة تابعة تنفذ الأوامر الفوقية. فلو كان الإعلام مستقلاً، لما بدأ نقاشه من نقطة نوع الأغاني التي يبثها، بل كان سيبدأ من كيفية تأسيس خطاب إعلامي حر يناقش فكرة الحرب ذاتها وجدوى الاستمرار فيها، وهو أمر غير متاح حالياً، رغم كونه المطلب الأساسي للمواطن”.
خزان بشري
ويشير السر السيد، إلى أن المسؤولين الذين يوجهون الإعلام القومي نحو التعبئة والحظر، هم أنفسهم من يدلون بتصريحاتهم للقنوات الأجنبية، ويحجبونها عن قنواتهم الداخلية، مما يكشف عن استعلاء السلطة على إعلامها المحلي وعدم احترامها للمواطن الذي تخاطبه عبر الأناشيد، بينما تحرمه من الحقيقة.
إن فكرة التعبئة هنا، بحسب السيد، ليست تعبئة وطنية بالمعنى الحقيقي، بل هي تأكيد على وقوع الإعلام تحت وطأة الذهن العسكري المسيطر الذي لا يرى في المجتمع سوى “خزان بشري” للقتال، ولا ينظر إلى الإعلام كشريك في إدارة الدولة أو الحرب بل كمنفذ لأوامر تفتقر للتخطيط والعمق المهني.
من زاوية فنية واجتماعية، يرى الصحفي المهتم بالفنون، ياسر عركي، أن الفن لا ينبغي أن يكون كبش فداء للقرارات السياسية، فالفن يؤدي دوراً مزدوجاً في الحروب؛ فهو يؤسس للنزاع أحياناً، لكنه يظل الوسيلة الأقوى للمقاومة وتشكيل الوعي وتوثيق معاناة المقهورين.
ويرى عركي في حديثه لـ(عاين)، أن الحرب أحدثت تحولات في طرائق التعبير الموسيقي، حيث بدأت تختفي أغنيات “الحبيب والنجوى” لصالح أنماط جديدة، لكنه ينتقد بشدة الأصوات التي طالبت بمنع الغناء، معتبراً أن هذا الانتقاد لا يستند لأساس فلسفي أو معرفي، بل هو نتاج انفعالات عشوائية.
منذ بداية الحرب سُمح للأغاني والأعمال التي تمجد الكراهية والشقاق والموت، ولم يطلب أحد إيقافها، مما يؤكد أن الهدف من القيود الحالية هو إسكات أي صوت يحمل نبرة جمالية وإنسانية
صحفي مهتم بالفنون
ويشير ياسر، إلى مفارقة مذهلة، وهي أن الساحة الفنية منذ اليوم الأول للرصاصة الأولى شهدت ظهور مغنيين وأعمال غنائية تمجد الكراهية والشقاق والموت، ومع ذلك لم تجد تلك الأعمال أي نقد من الذين يطالبون اليوم بإيقاف الأغاني العاطفية، مما يثبت أن الهدف ليس “احترام دماء الضحايا” كما يُدعى، بل هو إسكات أي صوت يحمل نبرة جمالية أو إنسانية تذكر الناس بحياتهم الطبيعية قبل الكارثة. ويشدد على أهمية استمرار برامج مثل “أغاني وأغاني” لأنه يمثل نافذة للأمل وسط هذا الركام، ويقول:” وجود الغناء العاطفي لن يعيق العمليات العسكرية، بل سيوفر للمواطن الحد الأدنى من التوازن النفسي اللازم للبقاء”.
أعباء نفسية
تتطابق رؤية عركي مع التحليل النفسي الذي قدمته استشارية علم النفس ابتسام محمود أحمد، حيث تصف قرار منع الأغاني “بغير الحصيف”، ويحمل أعباء نفسية واجتماعية بعيدة المدى. وتوضح أن الإعلام، بما فيه الأغاني، هو وسيلة لغرس الثقافة وتلبية الاحتياجات الوجدانية والترفيهية، وإلغاء هذا المحتوى بهذه البساطة يعتبر نوعاً من “استلاب الوعي العام”.
الأثر النفسي المدمر يتمثل في حرمان الناس من متنفس وجداني ضروري يخفف مشاعر القلق والغضب والحزن الجماعي التي خلفتها الحرب
استشارية علم نفس
وتؤكد ابتسام خلال مقابلة مع (عاين)، أن الأثر النفسي المدمر يتمثل في حرمان الناس من متنفس وجداني ضروري يخفف مشاعر القلق والغضب والحزن الجماعي التي خلفتها الحرب. وتضيف: أن “الإصرار على أن يكون كل الإعلام مكرساً لـ أغاني الاستنفار، يعزز مشاعر التصلب والانغلاق العاطفي، ويحول المزاج العام إلى حالة من الشدة الدائمة، مما يشجع على القطيعة مع الحياة الطبيعية، ويخلق إحساساً بالتهديد الانهيار المستمر داخل البيوت، وهو ما تسميه “عسكرة النفس البشرية”.
وتحذر ابتسام من البعد الاجتماعي لهذا الحرمان الثقافي، حيث إن الأغاني توحد الناس عبر الذاكرة الجمعية وتاريخ الأجيال، وفقدانها يؤدي إلى فراغ هوياتي لا يملؤه سوى الخطاب التعبوي التحريضي الذي يزيد الاستقطاب والقبلية. وتلفت الانتباه إلى خطر كبير يهدد الأطفال والمراهقين الذين يشاهدون هذا الإعلام الموجه؛ فهم ينمون في بيئة لا تعرف سوى ثقافة الصراع، مما يؤسس لمستقبل مشوه لا مكان فيه لقيم الإنجاز والتعمير والمحبة.
وتؤكد أن المجتمع يحتاج إلى برامج تخص الجانب العسكري والتحفيزي لدعم الجنود، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب الحاجات الإنسانية الأخرى، فالغناء يحمل رسائل وطنية ضد العنصرية والفرقة، وهي رسائل يحتاجها السودان حالياً أكثر من أي وقت مضى. وتدعو ابتسام إلى ضرورة تجديد الدماء في الفن الوطني بدلاً من المنع، من خلال دعم الأجيال الشابة التي تقدم فنوناً تعبر عن روح العصر والواقع الراهن، لتكون مرآة صادقة للمرحلة لا مجرد صدى لأوامر السلطة.
استراتيجية الحرب
وفي سياق متصل، يرى الفنان محمد أبوه، أن هذا القرار ليس مفاجئاً، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لدعم الحرب واستمرارها من خلال السيطرة على الوجدان العام، مؤكداً أن السلطات تسعى لفرض سردية حربية موحدة من خلال تشجيع الفنانين الموالين مادياً ومعنوياً لإنتاج أعمال تحرض على الحرب، وفي الوقت ذاته قمع حرية التعبير لدى الفنانين الآخرين الذين يرفضون الانصياع لهذا التوجه.
تغييب المشاعر الجمالية والوجدانية يهدف في النهاية إلى تحويل المواطن إلى جندي لا يسأل عن أهداف الحرب أو مآلاتها، بل يكتفي بالاستجابة للتحفيز الموسيقي الصاخب الذي يغطي على أنين الجوعى وصرخات الضحايا
الفنان محمد أبوه
ويرى أبوه خلال مقابلة مع (عاين) أن استغلال موسم رمضان القادم لبث رسائل دعائية عبر البرامج الغنائية هو محاولة لتوظيف الدين والفن معاً لخدمة أجندة الصراع، خاصة في ظل غياب استوديوهات الإنتاج المستقلة والظروف المعيشية القاسية التي يمر بها الفنانون، مما يجعلهم عرضة للابتزاز السياسي مقابل البقاء، فالفكرة وفق تقديره – تكمن في صناعة “رأي عام قسري” يوجه الوجدان والفنون لخدمة مصالح السلطة، مما يحول الفن من أداة للتحرر إلى أداة للقمع والتغييب.
ويقول أبوه، إن “التدقيق في طبيعة الخطاب الإعلامي الرسمي المرتبط بالتعبئة يكشف عن ارتهان كامل للمؤسسة الإعلامية لدرجة فقدان المهنية. فالإعلام الذي يمنع الأغاني بدعوى الحرب هو نفسه الإعلام الذي يتجاهل الحديث عن الانتهاكات الجسيمة ومعاناة المدنيين الحقيقية، مما يؤكد أن المنع ليس نابعاً من حس أخلاقي، بل من رغبة في السيطرة على (أدوات صناعة الوعي).
ويتابع: أن “تغييب المشاعر الجمالية والوجدانية يهدف في النهاية إلى تحويل المواطن إلى “جندي” لا يسأل عن أهداف الحرب أو مآلاتها، بل يكتفي بالاستجابة للتحفيز الموسيقي الصاخب الذي يغطي على أنين الجوعى وصرخات الضحايا.
![الفن_والسلطة[1]](https://3ayin.com/wp-content/uploads/2025/12/الفن_والسلطة1.png)


![المرتزقة_في_حرب_السودان[1]](https://3ayin.com/wp-content/uploads/2025/12/المرتزقة_في_حرب_السودان1.png)


















