محو الجداريات.. يد البطش تطال ذاكرة الثورة السودانية

12 مارس 2022

“الجداريَّاتُ أصواتٌ من اللَّون/ أرواحُ هذي الميادين من عهد “كُوشٍ”/إلى عهد “كِشَّةَ”/صوَرٌ من نقوش الوجود على طينة الكون/ فها نحن أبناء هذا الزَّمان/ لنا موكبٌ في خضمِّ الحياةِ/ لنا كلمةٌ في جدار المكان”. هكذا كتب الشاعر بابكر الوسيلة، لوحة لإحدى جداريات الثورة السودانية.

ولم تبدأ محاولات محو الجدرايات التي تختزن ذاكرة الثورة مع انقلاب 25 أكتوبر، فقد بدأت هذه العملية منذ فض المجلس العسكري لاعتصام القيادة العام في 3 يونيو 2019.

وتأتي فاعلية الثورة السودانية، نتيجة لتنوع أشكال المقاومة منذ انطلاقتها، فإلى جانب المواكب والوقفات الإحتجاجية وأشكال الاحتجاج الأخرى، ازدانت شوارع العاصمة السودانية الخرطوم بالعديد من الجداريات، التي تُخلد مراحل تخلق الثورة. والجدارية؛ هي قطعة من الأعمال الفنية المرسومة أو المطبقة مباشرة على الجدار ، وتنتشر الجداريات على جدران المنازل وعلى الشوارع الرئيسية وتحت الأنفاق وفي مداخل الجسور التي تربط الخرطوم ببقية مدن العاصمة الثلاث.

 تتناول الجداريات المنتشرة في مدن السودان موضوعات الثورة السودانية بشعاراتها الثلاثة “الحرية والسلام والعدالة” .

وتتيح الجداريات تخليد الانتصارات والبطولات الشعبية على القوة الشمولية بهدف نقلها إلى الأجيال القادمة، كما تهدف للتذكير ببسالة الشهداء الذين أودت بحياتهم الآلة العنيفة للنظام العسكري الشمولي. كما أن عدد كبير من بلدان العالم عمل على المحافظة على الجداريات كإرث فني يجب رعايته والمحافظة عليه.

محو الجداريات.. يد البطش تطال ذاكرة الثورة السودانية
من اعمال الفنان التشكيلي – جلال يوسف

لكن ومنذ قيام ثورة ديسمبر التي انطلقت في العام 2018، تتعرض الجداريات وبشكل مستمر لمحاولات طمس وتخريب مستمرين، بما في ذلك الجداريات التي قام برسمها فنانون تشكيليون في محيط القيادة العامة، ساهموا وما يزالوا في صناعة ثورة ديسمبر المجيدة.

وشهد الشهر الحالي تعدياً متعمداً بواسطة منسوبين للأجهزة الأمنية على عدد من الجداريات؛ بينها جداريات لكل من الفنانات إيثار عبد العزيز وأميمة عبد اللطيف وسوزان إبراهيم و بالإضافة للفنان إسماعيل حسن، وهي جداريات أُنتجت في الفترة من مارس إلى أبريل 2021، في المعرض الذي أقيم بنادي الأسرة وسط العاصمة الخرطوم.

يقول التشكيلي كمال أبو عامر في حديث لشبكة عاين، إن الجداريات التشكيلية لم تكن جزءاً من الثورة السودانية إلى حين الوصول إلى محيط إعتصام القيادة العامة للجيش في السادس من أبريل 2019، مشيراً إلى أن دور التشكيليين  بداية الثورة اقتصر على اللافتات الإعلانية التي تروج للمواكب والتوثيق لجماليات الثورة.

وأضاف :”كنا بين مجموعة من الفنانيين بادرنا بتشكيل تجمع التشكيليين السودانيين وهو أحد أجسام تجمع المهنيين السودانيين، مهمتنا كانت الإسهام في الإعلان عن وجه الثورة الجمالي والتحفيز في المشاركة في المواكب”.

“في أعقاب ذلك، أثير النقاش حول إمكانية عمل جدارية داخل ميدان الإعتصام  لتشكل رمز جمالي جديد يُضاف إلى إعتصام القيادة العامة”، يوضح أبو عامر وتابع” فكرنا في كيفية تحويل ميدان ساحة الاعتصام لساحة ثورية يمكن أن تصبح في المستقبل مزاراً تاريخياً”.

تشكيلي: الجداريات التي رُسمت والتي كانت تعبر عن روح الثورة أزيلت بنسبة 70%

ويلفت أبو عامر،  إلى أن الجداريات التي رُسمت والتي كانت تعبر عن روح الثورة أزيلت بنسبة 70%، موضحاً أن الذين قاموا بذلك يفتقرون لقيمتها الجمالية والتاريخية نسبة لعدم درايتهم بماهية الجداريات.

ويرى  أبو عامر، أن أهم جداريتين تم طمسهما عن طريق الطلاء باللون الأبيض، كانتا  تحت نفق جامعة الخرطوم وهو المعبر الذي يمتد من شارع المعلم وحتى شارع الجامعة، مشيراً إلى أنه كانت توجد جداريتان متقابلتان تعبران عن الروح الثورية للثورة السودانية، رسمتا بالون الأسود بخلفية بيضاء. إحداهما صورت رموز النظام البائد ـــ الذي عاد من جديد ـــــ وتحت كل صورة كٌتبت عبارة تشير لكيفية القصاص منه بواسطة الدولة الجديدة نتيجة لما أُرتكب في عهده من جرائم.

محو الجداريات.. يد البطش تطال ذاكرة الثورة السودانية

ويشير أبو عامر، إلى أن الشباب الذين رسموا تلكما الجداريتان امتلكوا وعياَ سياسياً عالياً.  ففي الجدارية التي رُسم فيها رموز النظام السابق رسم المخلوع البشير وتحته كتبت عبارة “ما بنتغشى ما لم  يتحاكم بشة”. وتابع “أيضاً تم  التغول على جداريات رُسمت في دار خريجي جامعة الخرطوم، عندما تم دهن الدار من جديد”، مشيراً إلى أنه كان هناك جداريات كثيرة حول السور من الداخل والخارج تم محوها كلها تقريباً.

“إن الجداريات هي تعبير فني يحاول الفنان التشكيلي أو من لديه هواية الرسم توصيل مفهوم معين وهو حب الوطن”، تقول التشكيلية إسراء سعيد لـ(عاين)، وتضيف “في عهد المخلوع  البشير كانت الجداريات غير معروفة نسبة لسياسة تكميم الأفواه التي إتبعها النظام البائد، كانت الجداريات تزين كل شوارع السودان فرحا بانتصار الثورة”.

وأوضحت سعيد، بأن أهمية الرسومات الحائطية تكمن في أنها  تعكس للعالم ما كان يعيشه السودانيين من قتل وسحل، مشيرة إلى الجداريات رموز يمكن فهمها دون تعقيد، لذلك  فنجدها نالت شهرة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم .

تشكيلية: الأجهزه الأمنية عملت على مسح الرسومات لقدرتها على إرسال رسائل قوية

وتابعت “للأسف تعمل الأجهزه الأمنية على مسح الرسومات لقدرتها على إرسال رسائل قوية.  فالتعبير السلمي والرموز القوية التي كانت تنادي بالحريه والسلام والعداله تؤرق مضاجع القتلة. وأشارت إلى أن الجداريات مكنت السودانيين من فهم معنى الدفاع عن الوطن و إرجاع حق الشهداء، وقالت “يمكنهم محو الجداريات لكن لن يستطيعوا محو الأفكار”.

ورأت سعيد أن الانقلابيين لا يفهمون قيمة الوطن ولا قيمة الفن، واصفة محو الجداريات “بنادى الأسرة، بأنه تعبير عن “رعب مستتر”، لافتة إلى أن الجداريات نجحت في توصيل الرسائل التي تحمل التوق للحرية والسلام والعدالة، مؤكدة على أنهم عازمون على إعادة رسم الجداريات من جديد ولو بعد حين.

محو الجداريات.. يد البطش تطال ذاكرة الثورة السودانية

 هزيمة للإسلاميين

 “إن الفنون بمشاربها المختلفة هي التي تصدَّت لمشروع الإخوان المسلمين منذ البداية، وهي التي هزمت مشروعهم وعرَّت تكوينه حتى صار مجرَّد هيكل وسط ريح التَّغيير العاتية”.  يقول الشاعر بابكر الوسيلة لـ(عاين)، موضحاً أنه في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر، بدا أن الأسلاميين استوعبوا ــ نوعاً ما أهمية الفنون.

الشاعر بابكر الوسيلة: الانقلابيين الذين يستبطنون عقلية السحل عملوا على محو رسم الجداريات، التي غطت بما تملكه من حس حضاري، معالم غالبية مدن السودان بعد الثورة.

وأشار الوسيلة، إلى أن الانقلابيين الذين يستبطنون عقلية السحل عملوا على محو رسم الجداريات، التي غطت بما تملكه من حس حضاري، معالم غالبية مدن السودان بعد الثورة، لافتاً إلى أن الشموليين فهموا أنَّ الذَّاكرة الفنِّيَّة، بما تحويه من بصريَّات واستبصارات وتبصُّرات جماليَّة، هي التي يجب أن تُمحَى من خيالات الشَّعب ومُعاينته اليوميَّة ومفكِّراته ومُفاكَراته التي تُعاين الشَّارع جيئةً وذهاباً، بذاكرة الثَّورة ووجوه الشُّهداء التي تصرخ في وجه الجميع.

وأضاف: “صحيحٌ أنَّهم قاموا بمحو كثيرٍ من الجداريَّات، ليس في هذه الأيَّام فحسب؛ بل إنَّهم قاموا بهذا الفعل الشَّنيع عقب فضِّ اعتصام القيادة مباشرة؛ ولكنهم لن يفهموا أبداً أنَّ ذاكرة هذا الشَّعب الحضاريَّة لها القدرة المتجدِّدة على إبداع غير متناهٍ في الزَّمان والمكان، على امتداد جدار الفنون الذي يرتسم بمحبَّةٍ وتعظيمٍ على صدورهم أينما وكيفما يتَّسع خيال الفنَّان”.