صرخة عائلات أطفال مفقودين بالفاشر

عاين- 31 أكتوبر 2025

بعد رحلة نزوح قاسية، وصلت حواء عبد الله إلى محلية طويلة قادمة من الفاشر، لكنها لم تهنأ بنجاتها؛ لأنها فقدت طفلها الوحيد الذي رُزقت به في الحياة، ولا تعرف مصيره حياً كان أم ميتاً، لتجلس في العراء تبكي من شدة الألم، وتدخل في فصل جديد من المأساة.

 كانت النيران تملأ المكان والذخائر تنهال عليها من كل الاتجاهات مع قذائف مدفعية متواصلة، هي صورة المشهد عندما قررت حواء الفرار من الفاشر، عقب تصعيد قوات الدعم السريع هجماتها على المدينة الأحد الماضي، وتحت هذه الظروف فقدت طفلها الوحيد التوم محمد آدم، وفق ما ترويه لـ(عاين).

تقول: “في منطقة الدفاع الجوي شمال الفاشر، كان القصف المدفعي كثيفاً، وعلى نحو مفاجئ دخلت قوات الدعم السريع، لحظتها افترقنا مع طفلي، رأيته يجري باتجاه المدينة، وذهبت أنا في اتجاه مغاير، ومنذ يومها لم نره ولم نسمع صوته أو أي أخبار عنه”.

تجسد حواء عبد الله، لواقع تعيشه مئات الأسر، فقدت أطفالاً خلال النزوح من الفاشر إلى طويلة، عقب سيطرة قوات الدعم السريع عليها مطلع الأسبوع الجاري، لتكشف وجهاً آخر للمأساة الإنسانية التي عاشها سكان عاصمة ولاية شمال دارفور، بعد هذه الهجمات.

وبينما تتكاثف الجهود المحلية والدولية لمحاولة لمّ شمل الأسر، تظل الأرقام الواردة من الميدان مؤشراً خطيراً على اتساع دائرة الفقد والضياع بين الأطفال.

وفي هذا السياق، كشفت خديجة دايا، مسؤولة مكتب المرأة والطفل في الإدارة المدنية التابعة لحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور  بمنطقة قولو، عن حصر 126 طفلاً من الأطفال المنفصلين أو غير المصطحبين في مناطق متعددة من السودان، من بينهم ذكور وإناث تتراوح أعمارهم بين ثلاث سنوات وسبعة عشر عاماً.

55% من الأطفال في فئة عمرية بين خمسة إلى عشر سنوات

مسؤولة في الإدارة المدنية

وقالت دايا لـ(عاين): إن “البيانات أظهرت أن الفئة العمرية بين العاشرة والخامسة عشرة تمثل نحو 55 في المائة من العدد الكلي، في حين تبلغ نسبة الأطفال دون العاشرة نحو 30 في المائة، أما الفئة من السادسة عشرة إلى السابعة عشرة، فتشكل قرابة 15 في المائة”.

وأضافت: أن “التوزيع الجغرافي للحالات يتركز في ولايات دارفور الكبرى ومدينة العاشر من رمضان، موضحة أن العدد الأكبر سُجل في مدينة الفاشر ومحيط سوق الخضار، تليها مدينة العاشر التي استقبلت عدداً من الأطفال داخل المراكز النسوية والاجتماعية. كما سُجلت حالات أخرى في نيالا، طويلة، كتم، كبكابية، الخرطوم، وعدد من المعسكرات أبرزها زمزم ووادي صالح”.

نازحون فروا من معارك الفاشر ووصلوا لمنطقة طويلة: الصورة عاين- 27 أكتوبر 2025

وأشارت دايا، إلى أن معظم الأطفال فقدوا ذويهم، أو انفصلوا عن أسرهم بسبب القصف، والنزوح، أو الانتقال القسري للعائلات نتيجة للحرب المستمرة، مؤكدة أن “بعضهم يعيش حالياً في الأسواق أو بالقرب من المدارس ومراكز الخدمات من دون أي حماية أو رعاية أسرية مباشرة”.

وشددت مسؤولة مكتب المرأة والطفل على أن هذه الأرقام تعكس حجم الأزمة الإنسانية واتساع دائرة الخطر الذي يهدد الطفولة في السودان، داعية إلى تدخل إنساني منسق وعاجل يركز على تتبع الأسر ولمّ الشمل، وتوفير مراكز إيواء آمنة تقدم الرعاية الصحية والنفسية والتعليمية لهؤلاء الأطفال، إلى جانب توثيق الحالات ومتابعتها ضمن برامج الحماية الوطنية والدولية.

وختمت دايا حديثها بالتحذير من أن استمرار الحرب سيزيد اتساع الفجوة الإنسانية، مؤكدة أن “كل يوم يمر من دون تحرك فعّال يعني مزيداً من الأطفال بلا أسر، ومزيداً من الجراح المفتوحة في جسد المجتمع السوداني”.

وفي المقابل، هناك 450 طفلاً وصلوا إلى طويلة بعد أحداث الفاشر الأخيرة، فقدوا أسرهم، بينما وصل 930 طفلاً في وقت سابق إلى طويلة، بدون عائلاتهم التي فقدوها، وفق ما أفاد به وبحسب المتحدث الرسمي لمنسقية النازحين واللاجئين في السودان، آدم رجال (عاين).

ويوم الأحد الماضي، سيطرت قوات الدعم السريع على الفاشر وهي آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور، وذلك بعد حصار وقتال استمر لأكثر من 16 شهراً، وصاحب ذلك انتهاكات واسعة ارتكبها مسلحو الدعم السريع بحق المدنيين شملت إعدامات ميدانية، وتصفيات على أساس عرقي، واحتجاز ونهب، وفق ما أفادت به جهات حقوقية دولية، ووثقته مقاطع فيديو بثها المسلحون.

مرارات الفقد

أما المواطنون الذين نجو من الانتهاكات الواسعة، ووصلوا إلى طويلة، يعيشون على مرارة من فقدوهم أحياء على طريق النزوح، خاصة الأطفال. تقول حواء عبد الله التي فقدت طفلها الوحيد لـ(عاين): “بالقرب من منطقة قرني، أوقفني مسلحون ونهبوا كل شيء بحوزتي، لم نتمكن من البحث عن طفلي؛ لأن الوضع كان صعباً للغاية”.

وتضيف: “كل الذي أتمناه الآن هو معرفة طفلي، حي كان أم ميتاً. الموت أهون من الغياب، لو شاهدته ميت سوف نرتاح، لكن الفقدان بلا أثر مُوجع، من المحتمل هو نفسه الآن يفكر فيني ويتساءل، أمي ماتت أم عائشة”.

أما طيبة أحمد محمد التي وصلت طويلة من الفاشر، تذوقت حزناً مضاعفاً، إذ فقدت كل أفراد أسرتها دفعة واحدة. تقول والدموع تغالب صوتها لـ(عاين): “أنا فقدت أبوي وأمي وإخواني وزوجة أخون، وكل عائلتي المكونة من تسعة أشخاص، لقد خرجت يوم السبت الماضي، وتركتهم خلفي، البعض يخبرني أنهم عالقون في منطقة طرة، وآخرون يقولون لي أن جميع أهلك ماتوا. أحد شقيقاتي كانت مصابة في الفاشر”.

عمليات نزوح إلى منطقة طويلة

تحاول أن تواصل الحديث، لكنها تختنق بالعَبرة: “حاولت أوصل إلى أختي المصابة، ما لقيت طريقاً، ولا وسيلة تواصل. ما عارفة عنها أي حاجة. صعب جدا تفقد كل أسرتك فجأة.. صعب تتنفس بعدهم”.

من جانبه، وصف المتحدث الرسمي لمنسقية النازحين واللاجئين آدم رجال، ما جرى في مدينة الفاشر بأنه “أمر مروع وخطير للغاية”. وقال لـ(عاين):” ما حدث في الفاشر تتحمل مسؤوليته جميع الأطراف؛ الجيش الذي انسحب وترك المواطنين بلا أمان، وكذلك قوات الدعم السريع التي ارتكب بعض أفرادها جرائم صادمة داخل المدينة”.

وأضاف: “هناك أعداد كبيرة من الناجين وصلوا إلى منطقة طويلة، لكنهم يعيشون في ظروف إنسانية قاسية للغاية. كثير من الأسر فقدت أطفالها أثناء الخروج من الفاشر. حتى الآن لم نتمكن من حصر العدد الحقيقي، لأن هناك موجات نزوح جديدة تصل كل يوم. الأزمة أكبر من طاقة الجميع، وهي كارثة إنسانية بكل المقاييس، تحتاج إلى تضافر الجهود المحلية والدولية”.

إغاثة الأطفال

وتابع: “نطالب المنظمات الإنسانية بالتحرك الفوري لإغاثة الأطفال في جميع المعسكرات، فهم في أمسّ الحاجة إلى الغذاء والرعاية الصحية. معظم من وصلوا إلى طويلة يعانون الجوع والمرض، وبعضهم مصابون بالرصاص. الوضع مأساوي ومحزن للغاية، ولا بد للمجتمع الدولي ومجلس الأمن من ممارسة ضغط حقيقي على طرفي الصراع لإيقاف الحرب فوراً، لأنها أصل المأساة ومصدر كل هذه الانتهاكات”.

وحذّرت المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، كاثرين راسل، من أن ما يقرب من 130 ألف طفل في مدينة الفاشر يواجهون تهديدات جسيمة وانتهاكات مروعة لحقوقهم، وسط تصاعد العنف في عاصمة شمال دارفور. وقالت راسل إن التقارير تشير إلى حالات اختطاف وقتل وتشويه وعنف جنسي، مؤكدة أنه “لا يوجد طفل في مأمن” هناك.

وجددت يونيسف دعوتها إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتأمين وصول إنساني آمن ودون عوائق، وحماية المدنيين ولا سيما الأطفال، إضافة إلى توفير ممرات آمنة للعائلات الفارة من مناطق القتال، وفقاً لما يفرضه القانون الدولي الإنساني. كما شددت على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

آلاف الفارين

بدورها، دعت منظمة الهجرة الدولية إلى حماية المدنيين والسماح بوصول الإغاثة، مشيرة إلى أن أكثر من 26 ألف شخص فرّوا من الفاشر خلال يومين فقط، وفق بيانات مصفوفة تتبّع النزوح التابعة لها.

وأعلنت المنظمة أنها بصدد إرسال مساعدات عاجلة تشمل مستلزمات المأوى والخيام إلى قرية طويلة، التي تحولت إلى مركز استقبال رئيسي للنازحين من الفاشر.

وأعربت المنظمة عن قلقها البالغ إزاء الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك الهجمات العشوائية، واستهداف المدنيين والبنية التحتية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والهجمات ذات الطابع العرقي ضد النازحين.

قصص حواء وطيبة وغيرهن من النساء الجريحات، ليست سوى جزء من مأساة أكبر، تتجدد كل يوم في مدن السودان المنكوبة. وجوه أمهات وأطفال تملؤها الدهشة والخوف، وعيون تبحث عن بقايا حياة وسط الرماد. فالفقد هنا ليس رقماً في نشرة، بل وجعٌ نابض يحمل ملامح إنسانية تروي قصة وطنٍ أنهكته الحرب، لكنه ما زال يتمسك بخيط من أمل، لعل الغد يحمل سلاماً يعيد الحياة لطبيعتها.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *