حرب مأجورة.. كيف حوّل المرتزقة نزاع السودان إلى مأساة؟

عاين- 17 ديسمبر 2025

مع تصاعد الحرب في السودان منذ منتصف أبريل 2023، تزايد الحديث عن وجود مقاتلين أجانب يقاتلون في صفوف طرفي الصراع وبشكل أوسع مع قوات الدعم السريع، وسط اتهامات متبادلة واستقطاب سياسي حاد. هذا التقرير لا يسعى إلى إثبات الميداني لأعداد أو جنسيات، بقدر ما يركز على تفكيك الظاهرة من زاوية قانونية وتحليلية: متى يُعد المقاتل الأجنبي “مرتزقًا” وفق القانون الدولي؟ وما المسؤولية القانونية للأطراف التي تستخدم هذا النوع من المقاتلين، وكيف يؤثر وجودهم على حماية المدنيين ومسارات التفاوض ووقف إطلاق النار؟

ويعتمد التقرير على مقاربة القانون الدولي الإنساني، التي تميّز بين المقاتلين الأجانب والمرتزقة، وتربط توصيفهم بطبيعة الدور الذي يلعبونه في النزاع، ودوافع مشاركتهم، وصلتهم بأطراف الحرب، وليس بجنسيتهم وحدها. كما يستعرض كيف يرتبط وجود المرتزقة بتفكك سلاسل القيادة، وضعف المساءلة، وتصاعد الانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك الهجمات على المدنيين واستخدام وسائل قتال محظورة.

يستعرض التقرير كيف يرتبط وجود المرتزقة بتفكك سلاسل القيادة، وضعف المساءلة

من خلال إفادات خبراء القانون الدولي، وباحثين في الشؤون الأفريقية، ومنظمات حقوقية، لـ(عاين) يناقش التقرير أيضا حدود المحاسبة الدولية للأطراف التي تلجأ إلى المرتزقة، وتأثير هذه الظاهرة على مسار النزاع، وأفق حماية المدنيين. يُظهر التقرير أن ملف المرتزقة ليس تفصيلًا هامشيًا، بل عاملًا بنيويًا يساهم في تعقيد النزاع وإطالة أمده، وإضعاف أي أفق لتسوية سياسية عادلة.

أكدت الحكومة السودانية التي يقودها الجيش السوداني أنها تمتلك، وثائق تثبت تورط مرتزقة من كولومبيا ودول الجوار في القتال بجانب قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وقد أُبلغ بها المجتمع الدولي ومجلس الأمن.

ووثّقت تقارير إعلامية تجنيد أكثر من 900 مرتزق تشادي سابق في ليبيا قبل إرسالهم إلى السودان، وقاد عملية المرتزقة عقيد كولومبي متقاعد يعمل ضمن شبكات دولية.

 

مقاتلون اجانب بدارفور- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

ذكرت تقارير أن 300عسكري كولومبي سابق جُندوا للعمل مع قوات الدعم السريع، وبعضهم عملوا في تدريب مدنيين، بمن فيهم أطفال في معسكرات تدريب جنوب دارفور.

في مقابلة بتاريخ 24 ديسمبر 2024، صرح النائب العام السوداني بأن هناك تقديرات تتحدث عن أكثر من 200 ألف مرتزق أجنبي يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع، وتشمل الكولومبيين ودول جوار أفريقية.

في 9 ديسمبر الماضي فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شبكة تُجنّد أفرادًا سابقين في الجيش الكولومبي للقتال مع قوات الدعم السريع في السودان، معتبرة أن الشبكة تُعمّق النزاع وتستهدف المدنيين.

فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شبكة تُجنّد أفرادًا سابقين في الجيش الكولومبي للقتال مع الدعم السريع

هذا الإجراء يشمل أسماءٍ وأفرادًا وكيانات يُعتقد أنها شاركت في تجنيد وتدريب هؤلاء المرتزقة، بما في ذلك تدريب بعضهم على استخدام الأسلحة والدروع، وحتى تدريب أطفال للقتال.

دعت الولايات المتحدة والجهات الدولية الجهات الخارجية إلى وقف الدعم العسكري والمالي للأطراف المتحاربة في السودان بسبب المخاطر على المدنيين، ومن ضمن ما ذُكر تورط شبكة التجنيد في تأجيج الحرب.

تعريف المرتزق وفق القانون الدولي

يؤكد المستشار القانوني بمركز راؤول والنبرغ لحقوق الإنسان، معتصم أبو البشر، في حديثه لـ(عاين) أن توصيف “المرتزق” في القانون الدولي ليس توصيفًا سياسيًا أو إعلاميًا، بل مصطلح قانوني دقيق ورد في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، وتحديدًا المادة (47). وفقًا لهذا التعريف، يجب توافر ستة معايير مجتمعة ليُعد الشخص مرتزقًا: أولها تجنيده خصيصًا للمشاركة في القتال، وثانيها المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، وثالثها أن يكون الدافع ماديًا أو ربحيًا شخصيًا يفوق ما يُدفع عادةً للجنود النظاميين، ورابعها ألا يكون مواطنًا أو مقيمًا دائمًا في الدولة التي تجري فيها العمليات، وخامسها ألا يكون عضوًا في القوات المسلحة لأي طرف، وسادسها ألا يكون قد أُرسل من قبل دولته للقتال نيابة عنها.

وبالمثل، يوضح عبد الباسط الحاج، المحامي المختص في القانون الدولي، في مقابلة مع (عاين) أن الشخص المرتزق لا يتمتع بالحماية القانونية التي تشمل المقاتلين النظاميين، ويضاف إلى ذلك أن مشاركته يجب أن تكون فعلية في النزاع، وأن الدافع الأساسي مالي أو شخصي.

ويشير إلى أن القانون الدولي يعاقب على استخدام المرتزقة، سواء من خلال تحميل الطرف المستخدم المسؤولية القانونية عن أفعالهم الإجرامية، أو تحميل المرتزق نفسه المسؤولية الجنائية الفردية.

قوة من الدعم السريع بدارفور

من جهته، يقول أمجد فريد، المدير التنفيذي لمنظمة “فكرة” في حديثه لـ(عاين) : “إن القانون الدولي يميز بين المقاتلين الأجانب والمرتزقة، فوجود مقاتلين أجانب لا يغير تلقائيًا طبيعة النزاع، ما لم يكن هؤلاء خاضعين لسيطرة دولة أجنبية”. ويستند تعريف المرتزق على معايير محددة، أبرزها الدافع المادي، عدم الجنسية أو الإقامة في الدولة محل النزاع، وعدم الانتماء إلى القوات المسلحة الرسمية.

ويؤكد فريد، أن مشاركة المرتزقة الكولومبيين المعروفين باسم “ذئاب الصحراء”، الذين تم تجنيدهم عبر شركات أمنية إماراتية، تستوفي هذه المعايير القانونية.

دوافع تجنيد المرتزقة وآليات عملهم

يشير الباحث في الشؤون الأفريقية، محمد تورشين، لـ(عاين) إلى أن الدوافع وراء استقدام أطراف النزاع لمقاتلين أجانب متعددة، أبرزها سد الثغرات التقنية والعسكرية، والاستفادة من خبراتهم العالية في القتال وتشغيل الأسلحة والمسيّرات والطائرات بدون طيار.

ويقول: “إن قوات الدعم السريع هي الطرف الفعلي الذي يستخدم المرتزقة، حيث أن المقاتلين الأجانب غالبًا لا يعرفون تعقيدات الأوضاع المحلية، ما يجعلهم أكثر استعدادًا للانخراط في العمليات العسكرية دون حسابات، وارتكاب الانتهاكات دون رادع.”

أما من الناحية القانونية، فيشير كل من أبو البشر والحاج إلى أن غياب التصديق الواسع على الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة لا يعني غياب المسؤولية تمامًا، إذ يظل “القانون الناعم” حاضراً، وهو الإطار المعياري والأخلاقي الذي يدين هذه الممارسة. ويؤكدان أن أي تورط للمرتزقة في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية يُترتب عليه تحميل المسؤولية الجنائية والسياسية للطرف الذي جنّدهم أو استخدمهم.

تأثير المرتزقة على المدنيين والعمليات العسكرية

وبالعودة لفريد فيقول:”وجود المرتزقة غالبًا ما يرتبط بأنماط عنف خطيرة، أبرزها تفكك الضبط القيادي وضعف الانضباط العسكري، وهشاشة سلاسل القيادة والمساءلة، إضافة إلى غياب الروابط الاجتماعية أو الوطنية مع المجتمع المحلي، ما يقلل من كلفة العنف ويزيد من احتمالات ارتكاب الانتهاكات”. ويستشهد بأحداث الجنينة والفاشر، حيث ارتكب المرتزقة والمقاتلون الأجانب مجازر وإبادات جماعية وانتهاكات ذات طابع إثني، مترافقًا مع تغاضي بعض الجهات السياسية والدولية، ما عزز الإفلات من العقاب.

وجود المرتزقة غالبًا ما يرتبط بأنماط عنف خطيرة

يقول أمجد فريد، المدير التنفيذي لمنظمة “فكرة”

ويضيف تورشين: “أن المرتزقة يسهّلون ارتكاب الانتهاكات، إذ لا يخضعون لرادع مجتمعي أو قبلي أو قانوني، ويشارك معظمهم في حماية خطوط إمداد الأسلحة وليس القوافل الإنسانية، ويساهمون في تجنيد الأطفال والمقاتلين الجدد، ما يفاقم الأزمة الإنسانية ويطيل أمد النزاع”.

ويشير إلى أن المجتمع الإقليمي والدولي لا يمتلك أدوات فعالة للحد من هذه الظاهرة، واستخدام العقوبات أو التجريم يبقى محدودًا، في حين تُستخدم واجهات قانونية مثل شركات الخدمات الأمنية كغطاء لمجموعات المرتزقة.

أما أبو البشر، فيوضح أن وجود المرتزقة مؤشر على عدم التزام الطرف المستخدم لقواعد القانون الدولي الإنساني، ويؤدي إلى زيادة الهجمات على المدنيين، واستخدام أسلحة وطرق محظورة دوليًا، لأن المرتزقة لا يهتمون بحياة المدنيين أو بقواعد الحرب، ويقاتلون من أجل المال والمنافع الشخصية.

انعكاسات المرتزقة على التفاوض ووقف إطلاق النار

يتفق تورشين على أن وجود المرتزقة لا يشكّل عاملًا حاسمًا في مسار التفاوض أو وقف إطلاق النار. فالأمر يتوقف على قدرة القيادة العليا في الحكومة السودانية أو الدعم السريع على الانخراط في التفاوض، حيث أن الطرف الذي يحقق انتصارات أكبر يفرض عادة شروطه.

ويشير إلى أن استمرار تقدم قوات الدعم السريع قد يعيق قبول الحكومة السودانية بوقف إطلاق النار، لأن ذلك يتيح لقوات الدعم السريع فرض شروطها والبقاء في المشهد السياسي بقوة أكبر، وهو ما يعد سيناريو مقلقًا للجميع. ويخلص تورشين إلى أن الحروب عادة لا تخرج عن احتمالين: انتصار طرف وفرض إرادته، أو توازن القوى الذي يدفع الطرفين تحت ضغط خارجي إلى تسوية مؤقتة.

خلاصة

أوضح خبراء قانونيون وحقوقيون أن مشاركة المرتزقة في الحرب السودانية تمثل تحديًا مركبًا على المستويين القانوني والإنساني، يتطلب فهماً دقيقاً للمعايير القانونية، ودوافع استخدام المرتزقة، وتأثيرهم المباشر على المدنيين ومسار النزاع.

ووأكدت الإفادات أن تصنيف المرتزق في القانون الدولي دقيق ومحدد بستة معايير واضحة، ويجب التمييز بين المقاتلين الأجانب العاديين والمرتزقة، الذين يشاركون في القتال بدافع المنفعة المالية أو مصالح شخصية، وليس بدوافع وطنية أو سياسية.

جنود من الدعم السريع في الفاشر- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

وأظهرت التحليلات أن تجنيد المرتزقة يتم غالبًا عبر شبكات شركات أمنية دولية معقدة، بدوافع مالية وتكتيكية، وبشكل خاص من قبل قوات الدعم السريع، ما يعكس التنظيم الكبير لهذا النشاط خارج نطاق الدولة.

وحسب الإفادات، تقع المسؤولية القانونية على الأطراف التي تستخدم المرتزقة، وكذلك على المرتزق نفسه عند ارتكاب انتهاكات، فيما يعزز غياب الآليات الفاعلة للمساءلة حالة الإفلات من العقاب، ويزيد من تعقيد الوضع القانوني للنزاع.

كما أشار الخبراء إلى أن تأثير المرتزقة يشمل تصاعد الانتهاكات ضد المدنيين، وضعف الانضباط العسكري، واستهداف القوافل الإنسانية، وتسهيل تجنيد الأطفال والمقاتلين الجدد، وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانية ويطيل أمد الحرب.

وفيما يخص التفاوض ووقف إطلاق النار، أوضحت الإفادات أن وجود المرتزقة لا يشكل عائقًا جوهريًا، إلا أن استمرار تقدم الدعم السريع في الميدان قد يسمح له بفرض شروطه السياسية، مما يعقد أي حل سلمي محتمل.

وأكدت الإفادات على أن التعامل مع ملف المرتزقة لا يمكن أن يقتصر على البعد القانوني فقط، بل يتطلب استراتيجية شاملة تشمل مساءلة دولية، ورقابة على الشبكات الإقليمية والدولية، وحماية فعالة للمدنيين، بهدف الحد من الأثر الكارثي الذي خلفه استخدام المرتزقة في الحرب على السودان والمنطقة.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *