المناصير.. الغضب الكامن في قلب الصحراء
13 أغسطس 2012
ما أن ينتهي الطريق المسفلت وتتوقف اعمدة الكهرباء بعد كيلومترات قليلة من مدينة ابوحمد شمالي السودان، يضطر المسافرون إلى مناطق المناصير المتاثرين من قيام سد مروي– الخيار المحلي- ركوب صحراء قاحلة تسد طرقاتها المتفرعة في أحيان عديدة الكثبان الرملية وسط عزلة تامة لا مصادر مياه ولا شبكة اتصالات للهواتف الجوالة.
ساعتين بالسيارة هي المسافة التي يجب أن يقطعها المسافرين إلى بلدة الكاب اقرب منطقة بقرى المناصير الموزعة على ضفتي نهر النيل شمالي ابوحمد، لكن هذا السفر يطول لا محالة ويمتد لساعات طوال بسبب وعورة الطريق وما يترتب عليه من مخاطر الرمال المتحركة وإغلاقها الطرق الترابية السالكة، واضطرار السائقين لعبور الأودية المنخفضة التي تملؤها الرمال ما يعرض السيارات للوحل وعدم قدرتها على السير بعد انغماس إطاراتها في كثبان الرمال.
في قلب الطريق الصحراوي المؤدي إلى بلدات المناصير، وحوالي سبع مرات تعطل سير فريق (عاين) بسبب وحل العربة التي تقله في الرمال والذي تبدأ معه في كل مرة معاناة العودة بها إلى البر الآمن لمواصلة السير ومعاولهم في ذلك أيادٍ تحفر في الرمل الكثيف لتسهيل حركة اطارات السيارة ويستغرق ذلك وقتا كثيرا من عمر الرحلة.
لاحت من بعيد مبانٍ سكنية وقبلا بدا الطريق سالكا بعض الشيء، إذن نحن نقترب من منطقة الكاب احد اكبر البلدات وأول مناطق المناصير من اتجاه مدينة أبوحمد. ومن منطقة الكاب تتوزع شمالا وجنوبا وعلى الضفة الأخرى من النهر مناطق المناصير المتأثرة بقيام سد مروي.
بطول نحو 150 كيلومترا على ضفتي النهر هي المساحة التي غمرتها مياه بحيرة سد مروي العام 2008. ويرفض المناصير الذين يمثلون أكثر من 60% من المتأثرين بقيام سد مروي منذ ذلك الوقت الهجرة إلى القرى والمشاريع الزراعية المُعدة من قبل حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، ويطالب المناصير بخيارات محلية في تعويضات المساكن والمشاريع الزراعية.
وبين مطالبتهم ورفض الحكومة السابقة الوفاء بالتزاماتها تجاههم واجه المناصير قدرهم المحتوم وابتلعت البحيرة حياة كاملة كانت هنا على ضفاف النيل وجزره المتعددة، وجلبت بوابات السد التي تم فتحها بليل الكارثة باغراق المنطقة، أرض وزرع ونخيل ومساكن.
قاوم المتأثرون بسد مروي الحكومة السابقة المتمثلة في وحدة تنفيذ السدود متمسكين بالبقاء على انقاض حياتهم المغمورة تماما ببحيرة خزان مروي. واعاد المناصير بناء مناطقهم حول البحيرة متمسكين بـ”الخيار المحلي” وتسكينهم بالمخططات التي اقترحوها على الحكومة وفي المشروعات الزراعية التي اختبروا تربتها ومدى صلاحيتها للزراعة، لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن.
ظل هذا الحال كما هو عليه 13 عاما، قرى معزولة ومتناثرة على ضفتي النيل وارتمت مجبرة في احضان الجبال بعد فقدانها السهول الزراعية اخصب الاراضي الزراعية المسماة بالجروف التي يرويها فيضان النيل وتتم زراعتها بعد انحساره. تتبدى في قرية الكراع على الضفة الشرقية من نهر النيل آثار الكارثة، هامات نخيل بلا حياة واطلال منازل متهدمة وأخرى لا أثر منها سوى كتل من الاسمنت وسوتها مياه بحيرة السد بالأرض تماما.
“هذا منزل أبي، وذاك منزل عمي وهناك ارضنا بنخيلها وزرعها الاخضر” يقول محمد خير سعد لـ(عاين)، وهو يشير إلى انقاض منازل. ويضيف “كنا هناك ومازلنا.. ونحن هنا مجرد أجساد.. لاشيء يعوضنا عن حياتنا الماضية وتاريخنا الزاخر والحافل بالكثير الذي نفتقده الآن” ويقصد انه ومن معه من اهل البلدة الصغيرة مازالوا بعد 13 عاما من الإغراق متعلقين بقراهم القديمة وأسلوب حياتهم ومعاشهم الذي غمرته المياه.
لا يملك عيسى حمدانة، وصفا يزهو به لمنطقة المناصير ويقول ساخرا “عندما يسألني أحد أين تقع منطقة المناصير –الخيار المحلي- اقول له محل توقف الزلط وانقطعت الكهرباء والاتصالات”.
محيط المائة وستين كيلومتراً التي توزعت فيها قرى المناصير من الذين رفضوا عملية التهجير يعيشون في عزلة تامة منذ 13 عاما. توقفت الحكومة السابقة والحكومات المحلية المتعاقبة عن مدتهم بأبسط الخدمات الطرق المعبدة والمياه والخدمات الصحية وحتى خدمة الكهرباء التي يقولون ان قبولهم بقيام سد مروي تضحية منهم لأن ينعم السودان بالكهرباء ويقينهم انهم الاقرب لخزان سد مروي وأول من تنار هي قراهم وتزدهر مشاريعهم الزراعية بفضل التيار الكهربائي.
النهر عند منطقة بلدة الكراع على الضفة الشرقية شديد الهيجان، وعبوره إلى الضفة الغربية عند منطقة كبنة بدا مستحيلا لاسيما وان القوارب محلية الصنع والمستخدمة كوسيلة مواصلات رئيسية لا تقوى على ركوب مثل هذه الأمواج.
خياران لا ثالث لهما للعابرين بين ضفتي النهرـ أما ركوب امواج النهر عبر هذه القوارب، او الإنتظار إلى ان تهدأ امواج النيل. ولأن توقف الرياح غير معلوم للسكان هنا بجانب انها تستمر لأزمان طويلة في موسمي الشتاء والخريف، لذا تجوب هذه القوارب غير الآمنة محملة بالمواطنين النيل جيئة وذهابا ويتخذون منها وسيلة مواصلات بين شريط القرى التي يربطها نهر النيل عند منطقة المناصير.
بعد النكبة
بين جذوع شجرتين على مقربة من الضفة الغربية للنهر وتحديدا بين منطقتي الكُنيسة وكبنة حلت الكارثة مجدداً بأهل المناصير عندما غرق قارب كان يقل في رحلته العادية واليومية 24 من الأطفال والتلميذات التلاميذ وطبيبة في شهر أغسطس من العام 2018.
من تاريخ الحادثة قبل ثلاثة سنوات وحتى الآن لم يدفع سكان منطقة الكنيسة والمناطق المجاورة أطفالهم للمدارس مجددا، ويجمع آباء عدد من التلاميذ الغرقى في مقابلات مع (عاين) في قرية الكنيسة ان لن يتخذوا قرار الدفع بأطفالهم للمدارس مطلقا ما لم تتوفر وسيلة نقل آمنة تقلهم للمدرسة في منطقة كبنة المجاورة.
“لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين” يقول عثمان الحاج والد طفلتين من ضحايا الحادثة، ويضيف “لن ادفع بباقى ابنائي الصغار للمدرسة مجددا.. لماذا أفعل ذلك هل ادفعهم للغرق مثلما غرق أشقائهم؟”.
فيما يقول محمد دفع الله أحمد والد ثلاثة من الطفلات الغريقات ونجت الرابعة، يقول ان طفلتي الناجية تركت المدرسة وعندما نتحدث معها للعودة الاحظ ان نفسيتها تتغير، لا استطيع ان اجبرها وهي صاحبة التحصيل الأكاديمي الجيد. ويضيف دفع الله لـ(عاين)، لا يعقل ان يفصل وادي صغير مستقبل اجيال ويحرمهم من التعليم.
بعد النكبة المشهور والزيارة المعروفة للرئيس المخلوع عمر البشير للمنطقة في ذلك الوقت، كذب كل الزائرين الحكوميين للمنطقة وفشلوا في تشييد جسر يعبر الوادي. يقول محمد الحسن إبراهيم والد اثنين من الاطفال الغرقى ويزيد “وعدونا وفشلوا وحتى وعودهم تسببت في إيقاف المبادرات المحلية لبناء الجسر”.
إيذاء متعمد
لا يجد رئيس لجنة الخدمات والتغيير، في منطقة الكاب بابكر عوض بابكر، وهو يتجول في شوارع بلدته الصغيرة ويتنقل بين مرافقها الخدمية البائسة من المدارس وغيرها من المرافق الصحية وصفا يليق بحال المتأثرين من منطقة المناصير أبلغ من انهم “لا يتشاركون شيئا مع السودانيين سوى الأوكسجين فقط” في إشارة لحالة الإهمال التي يقول لـ(عاين) انها متعمدة تماما بإعتبارهم منطقة مهجرة.
الحال يطابق بعضه في مجموع القرى التي زارها فريق (عاين)، لكنه يبدو أكثر قتامة في عدد من قرى التهجير منطقة الفداء. ولسان حال المهجرين هناك يتوق إلى العودة بعد أن تبخرت أحلامهم في شعارات براقة كانت تطبطب مسامعهم في مساكن واسعة وخدمات جيدة ومشاريع زراعية ذات عائد كبير.
لا يخفى الحاج القاسم ندمه على قبول فكرة التهجير من اساسه، ويقول لـ(عاين) منذ ان وطأت قدمي هذه المنطقة في العام 2008 نواجه أزمات متكررة في الضروريات خدمات المياه الصحة. مستشفى المنطقة المؤسس بإمكانيات كبيرة لم يعمل ليوم واحد، المشروع الزراعي المياه فيه غير مستقرة، فقدت خلال السنوات الماضية 80 شجرة برتقال مثمرة بسبب العطش وسوء ادارة المشروع الزراعي.
ماذا بعد؟
انطوت بالنسبة للمناصير في منطقة الخيار المحلي سنوات المعاناة في نيل حقوقهم المتمثلة في تعويضاتهم المجدية على المغروسات وتأسيس المشاريع الزراعية وبناء قرى التهجير في المناطق التي اقترحوها، لكن شيء من ذلك لم يحدث حتى اللحظة. “نحن الآن قررنا أن نقلب الصفحة”. يقول عضو لجنة المتأثرين عبد الخير آدم يونس، ويضيف “الحال ياهو نفس الحال من حكومة المخلوع إلى عهد حكومة الثورة التي لم يطأ مسؤول فيها أرض المناصير حتى الآن”.
ويزيد عبد الخير متأسفا “لماذا لا تنصت حكوماتنا إلا لمن يرفعون العصا في وجهها.. نحن لا نريد ان نفعل ذلك لكن قد نضطر لمنع السلطات من تخزين مياه خلف بحيرة السد لنعود إلى أرضنا التي خرجنا منها لمصلحة عامة على أمل بوفاء الحكومة بقدر تضحياتنا.. ولكن “.