كيف رأيت الخرطوم بعد (3) أشهر من الحرب؟
مراسلة لـ(عاين) تعود للعاصمة وتتجول لوقت قصير في شوارع المدينة
عاين-13 يوليو 2023
“ثلاثة أشهر من الحرب كانت كفيلة بتدمير العاصمة الخرطوم، أو هكذا رأيتها بعد أن غادرتها مع ملايين الفارين في أيام الحرب الأولى وعدت إليها لساعتين عبر طرقات وأزقة غير مألوفة يحفها الموت من كل جانب”.
“بين ركام المنازل المحطمة وشوارع المدينة المحترقة بفعل آلة الحرب وصعود الأرواح البريئة، هناك ما هو أقسى بتآلف ما تبقى من سكان المدينة مع أهوال الحرب مجبرون”. تروي مراسلة لشبكة (عاين) عادت إلى الخرطوم من ولاية الجزيرة وأمضت بها وقت قصير.
في المحطة الرئيسية التي تتمركز بها الحافلات الصغيرة لتقل المضطرين للعودة إلى الخرطوم من أمثالي، يسود التوتر والخوف بين جميع المسافرين، وبالكاد لا تتوقف إتصالات الاطمئنان من العائلات على الهواتف النقالة الصغيرة في وقت لم تضع الحافلة أولى خطوات المغامرين بالدخول إلى العاصمة على طريق الخرطوم- ود مدني.
المحادثات الهاتفية المتداخلة على ظهر الحافلة الصغيرة، تتركز حول الأسئلة عن أمان الطريق وماذا يجري في الارتكازات ونقاط التفتيش المنصوبة على طول المشوار وماهي القوات التي تنصب هذه الارتكازات، هل هي قوات الجيش أم قوات الدعم السريع، بجانب محادثات أخرى مع معارف وأهل لبعض المسافرين مع أشخاص سبقوهم في عودة قصيرة إلى الخرطوم أو آخرين ما زالوا هناك.
أولى مظاهر الحرب
يعم الصمت مع إنطلاق الحافلة نحو العاصمة عبر طريق ودمدني الغربي. وعلى مشارف الخرطوم وعند منطقة “أبو عشر” تحديدا نصب الجيش السوداني أول نقطة تفتيش الداخلين إلى الخرطوم من ولاية الجزيرة.
في هذه النقطة العسكرية، يطلب افراد الاستخبارات من الشباب النزول من الحافلة، فيما يقوم آخرون بتوجيه أسئلة بشكل عشوائي على الركاب، يسألون عن الوجهة ولماذا وعن مكان الاقامة والعمل واسئلة شخصية في بعض الاحيان.
“لماذا تسافري لوحدك؟”، هذا السؤال وجهه لي فرد الاستخبارات العسكرية وما هو غرضك من السفر، علمت لاحقا ان افراد استخبارات آخرين وجهوا لسيدات أخريات كن مسافرات في نفس الحافلة نفس السؤال. فيما يقوم أفراد عسكريون بتفتيش دقيق للشباب الذين أمروهم بالنزول من الحافلة على الأرض.
كلما اقتربت الحافلة من الخرطوم، يزيد أفراد الاستخبارات من عمليات التفتيش لاسيما في نقطتين رئيسيتين بمدينة الكاملين عند مدخلها من الناحية الجنوبية وآخر عند نهايتها من الناحية الشمالية، واستغرقت عمليات التفتيش في هاتين النقطتين وقت اطول ويقوم أفراد الاستخبارات بإنزال الركاب وتفتيش مقتنايتهم حتى شنط الملابس.
مع صعود المسافرين للحافة بعد آخر نقطة تفتيش للجيش السوداني اشتكى عدد منهم من فقدان جزء من أمتعتهم الشخصية. وذكروا ” الأفراد التابعين للجيش السوداني في الارتكاز الأخير أخذوا بعض أغراضنا امام اعيننا”.
قطعت الحافلة حوالي كيلومتر ونصف باتجاه الخرطوم من آخر نقطة ارتكاز للجيش السوداني، وطوال هذه المسافة لا وجود لمظاهر عسكرية من الجانبين المتقاتلين. بدت الحركة المرورية غير معتادة، لاشيء سوى بعض حافلات الركاب وقليل من السيارات الصغيرة “صالون” وعربات مكشوفة “بوكس” جميعها تحمل أفراد عائلات مع أمتعتهم في رحلة الهروب المستمرة من جحيم الحرب في العاصمة.
هنا في منطقة “النوبة” التي تبعد عن الخرطوم حوالي 50 كيلو متر، يبدأ فصل جديد في معاناة المسافرين وتتبدل المظاهر العسكرية عبر الانتشار الكثيف لقوات الدعم السريع في الطريق. ومع توغل الحافلة قليلا داخل المنطقة نصبت هذه القوات نقطة تفتيش يتعامل افرادها بعنف مع العابرين ويمنع البعض خاصة الشباب من دخول الخرطوم ويطلب منهم العودة من حيث أتوا تحت شبهات التخابر والعمل مع الجيش السوداني.
هذه المشاهد تتكرر في المنطقة حتى منطقة المسعودية. وعلى حدود منطقة جياد الصناعية الجنوبية تنتاب جنود الدعم السريع المسلحين حالة من الهياج عندما يستوقفون السيارات ويسألون بتعنيف شديد الراكبين وسائقي السيارات الداخلين للخرطوم عن وجهاتهم والغرض من زيارتهم للعاصمة.
يطلب افراد الدعم السريع المسلحين أموالا من السائقين نظير عبورهم للخرطوم وتتفاوت المبالغ من فرد مسلح لآخر وتتراوح ما بين 5 آلاف جنيه وتصل في بعض المرات 50 ألف جنيه ويتم فرض هذه الجباية في أكثر من نقطة.
“هذه الجبايات اذا استمرت ستمنع دخول اي سيارة أجرة إلى الخرطوم، لا يعقل أن تتحكم امزجة هؤلاء الأفراد في ترحيل المواطنين المضطرين لدخول العاصمة والخروج لأسباب متعددة.. لن أعود ثانية لهذا العمل”. يقول سائق الحافلة التي تقلنا. كيلومترات قليلة من منطقة جياد الصناعية بتجاه الخرطوم تنحسر نوعا ما حركة قوات الدعم السريع على الشارع الرئيسي فيما تتحرك مجموعات صغيرة منهم بحذر بائن.
مجموعة من الشباب الذين استغلوا الحافلة من مناطق متعددة طوال الطريق ووجهتهم العاصمة ومروا عبر ارتكازات الدعم السريع، كانت نهاية مشوارهم هنا في منطقة “الباقير” التي ارتكزت فيها قوات الدعم السريع بكثافة وأمر أفراد منها عدد من الشباب بعدم مواصلة مشوارهم نحو الخرطوم والعودة من حيث أتوا.
قرب الخرطوم والحرب
هنا، وعلى تخوم الخرطوم والحرب، تزيد حدة التوتر بين ما تبقى من ركاب الحافلة الصغيرة وهم يجولون بنظرهم في كل الاتجاهات بأحياء سوبا جنوب الخرطوم، لا شيء يمكن أن تقع عليه النظرات سوى الحركة الكثيفة لجنود قوات الدعم السريع وهم يستغلون العربات المقاتلة وسيارات مدنية صغيرة ودراجات نارية وينتشرون بكثافة في حركة دؤوبة بالمكان وبعضهم جلوس حول بائعات الشاي والأطعمة في أسواق صغيرة عشوائية شيدت من مواد محلية.
جنوب الخرطوم، قلب مناطق سيطرة قوات الدعم السريع تماماً، فـ منطقة “السلمة البقالة” كانت هي المحطة الأخيرة للحافلات القادمة من ولاية الجزيرة المتاخمة للعاصمة.
بدأت حركة المواطنين في هذه المحطة كثيفة نوعا ما، لكن بمقابل نشاط وكثافة أكبر لقوات الدعم السريع التي يتجول أفرادها المسلحون في المنطقة ويقودون سيارات من دون لوحات حاول مستغلوها تمويه الوانها الحقيقة وبينها سيارات صغيرة وأخرى ذات الدفع الرباعي.
من بين هذه الجموع المتحركة في المنطقة ينادي سائق احدى الحافلات الكبيرة “مركزي.. مركزي” ويقصد أنه يتجه إلى منطقة السوق المركزي جنوبي الخرطوم عند محطة الصينية التي تربط وسط الخرطوم بجنوبها عن طريق شارع المطار الرئيس في المدينة.
وما أن أتخذت موقعي في الحافلة مع آخرين صعد اثنين من أفراد قوات الدعم السريع إلى الحافلة أحدهم مسلح بـ”كلاشنكوف” جلس على المقعد الأمامي بقرب السائق والآخر على المقاعد الخلفية وبدأ في ادارة حوار مع الراكبين قبل أن يستهدفني بأسئلة مباشرة “انتي منو وماشة وجاية من وين وماشة وين؟”.. عندما احس بانني اجيب بإقتضاب واشعر بخوف شديد، أخذ يوجه حديثه لعامة الراكبين وهو يؤشر إلى سيدات يتحركن في شوارع جانبية شرقي المدينة الرياضية يحملن على رؤوسهن بعض الأمتعة ويقول: ” عاينو.. شوفو الناس تسرق وتنهب وفي النهاية يرموها في الدعم السريع”. لم يتوقف الجندي عن ترديد عبارات الثناء لقواته كالتي تظهر في مقاطع الفيديو وتنشر على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض تحسين صورة هذه القوات.
من محيط جامعة افريقيا العالمية وحتى صينية السوق المركزي وجهتنا النهائية تنتشر قوات الدعم السريع ويُلاحظ أنها المنطقة الأكثر كثافة من سابقتها، ودون مبررات منطقية يقوم أفراد الدعم السريع من وقت لآخر باطلاق الاعيرة النارية في الهواء.
التقدم إلى عمق الخرطوم ليس آمناً، وتهابه النفس ليس لدواع أمنية فقط، لكن من هول الصدمة والتوغل في المدينة الموحشة التي أراها أمامي الآن.
مراسلة لـ(عاين)
التقدم إلى عمق الخرطوم ليس آمناً، وتهابه النفس ليس لدواع أمنية فقط، لكن من هول الصدمة والتوغل في المدينة الموحشة التي أراها أمامي الآن، هذه ليست الخرطوم التي ألفها سكانها، انها خرطوم ما بعد الحرب.
مدينة الأشباح التي اتقدم إلى عمقها الآن لم تعد العاصمة بزحامها وضجيجها في الاسواق والاحياء والطرقات، الضجيج الوحيد الذي يقطع صمت المدينة المهيب هو اصوات اطلاق النار المتقطعة و ابواق الدراجات النارية التي يستقلها أفراد الدعم السريع في عمليات “التمشيط العسكرية”.
حريق المدينة يتمظهر هنا في السوق الشعبي الخرطوم- احد اكبر اسواق العاصمة الشعبية- يغطي اللون الأسود واجهات المحال التجارية اثراً لحرائق ضخمة التهمت محلات السوق، وما جاورها من مؤسسات حكومية ومصرفية جميعها مفتوحة على مصراعيها ومنهوبة بالكامل.
سوق أبو حمامة الذي يشهد حركة قليلة لباعة الخضروات والشاي والأطعمة، وتُشكك قوات الدعم السريع المنتشرة في كل المتحركين في المنطقة وتقوم بالتفتيش وتوجيه الاسئلة ويتم توقيف حافلات المواصلات على قلتها وتحذر السيدات وتهددهن بالجلد بالسياط اذا تواجدن في المنطقة بعد الثانية ظهرا.
تحتل قوات الدعم السريع الكثير من المباني في المنطقة وتستغلها لسكن أفرادها الذين ينتشر بعضهم داخل الأحياء بالزي المدني لكنهم يحملون السلاح و يتعاملون بعنف مع من تبقى من السكان والأشخاص العابرين.
أحياء الديوم الشعبية، قلب مدينة الخرطوم النابض توقف عن الخفقان تماماً وغابت ملامح الحياة الضاجة والمعروفة عن هذا الحي الشعبي العريق. يحيط الدمار والحريق بـ”محطة باشدار” التي كانت قبلة المقاومة الشعبية المناهضة للحكم العسكري ونقطة التجمع الأشهر لأنصار الثورة السودانية قبل انطلاق التظاهرات المطالبة بالتحول الديمقراطي والحكم المدني. كم من الوقت يحتاج السودانيون لبناء الخرطوم وتكملة مشوار التغيير السلمي؟ لا أعلم مدته بالضبط لكنه ليس قصيرا بالتأكيد.
الصور ملتقطة حديثاً من مدينة امدرمان