“القاتل الصامت”.. الجوع يتمدد في السودان
عاين- 16 يناير 2025
تجلس كوثر آدم مع أطفالها داخل بناية مشيدة بالمواد المحلية في مخيم أبو شوك للنازحين شمالي مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، وهي مليئة بالرعب نتيجة أعمال القصف العشوائي التي تستهدف مخيمها على مدار اليوم دون توقف، ومن فرط الخوف لم تنتبه إلى خطر الجوع الذي يهدد حياتها هو الآخر.
ووسط صخب وضجيج القذائف المتفجرة، تسلل الجوع في صمت إلى النازحة كوثر في مخبئها لينفرد بها وصغارها، في حين لا تستطيع الخروج والبحث عن الطعام نسبة لاستمرار أعمال القصف العشوائي، كما أغلقت جميع الأسواق والمال التجارية في مخيم أبو شوك، للأسباب نفسها، مع غياب تمام لفرص مغادرة المنطقة.
ولم يكن أمامها بحسب ما ترويه لـ(عاين) غير ملح الطعام وبعض بذور الفول السوداني، تخلطها بماء الشرب، وتعطيها لأطفالها حتى يتصبروا، وقد ظلت على هذه الحالة لمدة أسبوع، وهي تخشى أن يصاب أبناؤها بسوء التغذية، ويفقد جميع أفراد أسرتها حياتهم؛ بسبب الجوع الذي تفشى في المخيم بصورة كبيرة.
حال كوثر آدم ينطبق على ملايين السودانيين يعانون الجوع الشديد في مخيمات أبو شوك، زمزم، السلام في إقليم دارفور غربي السودان، بجانب مناطق واسعة في ولاية جنوب كردفان ومنطقة جبال النوبة الغربية، وفق منظمات دولية، في تمدد سريع لنطاق المجاعة في هذا البلد الذي يعاني حرب مدمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي تستمر لأكثر من 20 شهراً.
وبدأ العالم يدق ناقوس خطر المجاعة الذي انتشر في السودان، مع وضع خطط استجابة سريعة، ودعوات من داخل مجلس الأمن الدولي لتدخلات عاجلة من أجل إنقاذ السودانيين.
مستويات مدمرة
وذكرت مدير قسم المناصرة والعمليات في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة “أوتشا”، إيديم ووسورنو خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول حماية المدنيين في السودان أن “المعاناة الإنسانية في السودان وصلت إلى مستويات مدمرة، مع نزوح أكثر من 11.5 مليون شخص داخلياً، وبحث 3.2 مليون آخرين عن ملاجئ في الدول المجاورة”.
وقالت المسؤولة الأممية “يواجه السودان أزمة إنسانية ذات أبعاد مذهلة، وهي كارثة من صنع الإنسان، ناجمة عن صراع بلا هوادة فيه، أدت إلى تفكيك أنظمة الغذاء والبنية الأساسية الحيوية، مما ترك الملايين أمام خطر وشيك، إذ إن 90 بالمئة من الأسر النازحة غير قادرة حالياً على تحمل تكاليف الغذاء”.
وتشير إلى تزايد الأدلة على المجاعة في السودان، فظروف المجاعة موجودة في خمس مناطق، بينها مخيمات زمزم والسلام وأبو شوك للنازحين، بالإضافة إلى جبال النوبة الغربية.
وأضافت أن “مناطق رئيسية في جنوب كردفان أصبحت معزولة فعليا عن المساعدات الخارجية”، في حين “لا تُمْنَح التأشيرات للعاملين في المجال الإنساني بالسرعة الكافية”.
معطيات دولية بشأن تفشي المجاعة في السودان، تقابلها الحكومة التي يقودها الجيش من بورتسودان بالنفي القاطع، وهي تشير إلى نجاح في الموسم الزراعي، في حين أن معظم المشاريع الإنتاجية في ولايات الجزيرة وسنار وجنوب كردفان وغرب البلاد لم تُزْرَع بسبب الصراع المسلح، وظل المنتجون يواجهون الجوع في مخيمات اللجوء التي ذهبوا لها قسرا، وهو ما تؤكده أسماء أحمد وهو اسم مستعار لناشطة طوعية من الدلنج.
وتقول في مقابلة مع (عاين) “الدلنج من أكثر المناطق في ولاية جنوب كردفان، فهي تقع تحت حصار كامل من كل الاتجاهات بواسطة الجيش والحركة الشعبية وقوات الدعم السريع من الناحية الشمالية، ولا تصلها أي مساعدات أو سلع غذائية منذ أشهر، وإلى جانب ذلك فإنها تضم نحو 35 الف نازحاً جاءوا إليها من هبيلا وعدة مناطق شهدت اشتباكات عسكرية”.
وتضيف “تشهد الأوضاع في الدلنج هذه الأيام انفراجاً محدوداً؛ بسبب وصول المنتجات الزراعية المحدودة التي زُرِعَت في مناطق قريبة ومساحات صغيرة، ربما تنفد خلال أيام قليلة من الآن، وتعود الأوضاع الإنسانية إلى المربع الأول”.
وشددت أن النازحين هم الأكثر عناء، ويعيشون تحت ظروف إنسانية سيئة، فليس لهم أي خيارات للحصول على الطعام، باستثناء بعض الجهود التي يقوم بها متطوعو غرف الطوارئ، مما يتطلب تدخلات إنسانية عاجلة وفتح المسارات اللازمة، بغرض إنقاذ آلاف الأشخاص يقيمون في مدينة الدلنج والمناطق حولها.
قيود واسعة
وتشكو المنظمات الإنسانية من القيود المفروضة ومنع الوصول للأغراض الإنسانية، حيث أدت بروتوكولات التفتيش الجديدة عند معبر أدري، والتي تعد حيوية للعمليات في دارفور، إلى مزيد من التأخير في تسليم المساعدات، بينما وصلت قافلة من 28 شاحنة إلى الخرطوم من بورتسودان لأول مرة في 25 ديسمبر الماضي محملة بالطعام والإمدادات الغذائية وغيرها من المساعدات، وهو ما اعتبرته مسؤولة الاستجابة في “أوتشا” أيديم ووسورنو بمثابة خطوة إلى الأمام، مع وجود التحديات.
وتعيش عاصمة ولاية جنوب كردفان كادوقلي والمناطق المحيطة بها تحت وضع إنساني سيئ، وأن الجوع منتشر في كل أنحاء منذ اندلاع الحرب الحالية قبل 12 شهراً، وفق ما يقوله عصام محمد أحد الناشطين الاجتماعيين في المدينة لـ(عاين).
ويضيف “فشل الموسم الزراعي في كادوقلي وأنحائها بسبب الصراع المسلح، فلا تستطيع المنتجات والسلع الغذائية الوصول إليها سوى عبر منفذ واحد وهو سوق النعام على الحدود مع دولة جنوب السودان، لذلك فإن الأسعار مرتفعة للغاية، وليست في متناول المواطنين، إذ ما يزال سعر جوال الذرة طابت بمبلغ 180 الف جنيه، وجوال السكر زنة 50 كيلو غرام 280 الف جنيه، جركانة زيت الطعام 90 الف جنيه”.
وتابع “الجوع منتشراً في كادوقلي ومحيطها، فهذه حقيقة ماثلة يجب مواجهتها. لا يستطيع النازحون في مراكز الإيواء الحصول على الطعام، كانت بعض المنظمات مثل المجلس النرويجي لشؤون اللاجئين تعمل على مساعدتهم لكنها توقفت، ويعتمد النازحون الآن على جهود غرفة الطوارئ الطوعية التي تعمل بإمكانيات وتمويل محدود للغاية”.
وإلى جانب الجوع تعاني جنوب كردفان من وضع صحي سيئ، فقد أغلق مركز غسيل الكلى الوحيد في كادوقلي، مع انعدام لمعظم أصناف الأدوية بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة، وفق عصام.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” فإن الصراع والنزوح هما عاملان رئيسيان وراء انعدام الأمن الغذائي في السودان، والذي تفاقم بسبب تقييد الوصول الإنساني، كما أكدت نائب مدير المنظمة أمام مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي حدوث عشرات الآلاف الوفيات في السودان قبل تصنيف أي مجاعة.
تمدد المجاعة
ويؤكد أحدث تحليل للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) التأثير غير المتناسب على الفئات الضعيفة، وخاصة النساء والأطفال وكبار السن في السودان، كما أدى انقطاع إنتاج الغذاء وانهيار ظروف السوق إلى تفاقم الأزمة، ويشير هذه التقييم إلى أن أكثر من 16 في المئة من الأسر في المناطق المتضررة تعاني حالياً من انعدام الأمن الغذائي الكارثي.
وتوقعت لجنة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن تنتشر المجاعة إلى خمس مناطق إضافية، بما في ذلك أم كدادة والفاشر، بحلول منتصف عام 2025، مع وجود 17 منطقة أخرى معرضة لخطر كبير في حالة عدم التدخل العاجل.
تواجه كوثر آدم شبح المجاعة مع النازحين في مخيم أبو شوك شمالي مدينة الفاشر التي تشهد قتالاً ضارياً بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أشهر، وهي لا تجد طريقاً إلى النجاة، فالخروج من المنزل ربما يعرضها إلى الموت، بينما تحتاج خطة النزوح والمغادرة بعيداً إلى مبالغ مالية كبيرة لا تتوفر لها، هذا فضلاً عن المخاطر الأمنية التي تصاحب الفرار.
وتقول لـ(عاين) “يموت الناس بشكل يومي في معسكر أبو شوك؛ بسبب الدانات المدفعية التي تطلقها قوات الدعم السريع، بينما يصاب الأطفال بسوء التغذية، لا يوجد طعام، ونحن نخشى على حياتنا”.
وعلقت الحكومة التي يقودها الجيش في السودان مشاركتها في النظام العالمي لمراقبة الجوع، قبل من صدور التقرير الذي أكد انتشار المجاعة في أنحاء البلاد، حيث تنفي الحكومة السودانية وجود مجاعة، وهي خطوة من المرجح أن تقوض الجهود الرامية إلى معالجة واحدة من أكبر أزمات الجوع في العالم، بحسب ما نقلته وكالة رويترز.
وفي رسالة مؤرخة 23 ديسمبر، قال وزير الزراعة السوداني إن الحكومة أوقفت مشاركتها في نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. واتهمت الرسالة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بـ “إصدار تقارير غير موثوقة تقوض سيادة السودان وكرامته”.
وخلص تحقيق أجرته رويترز مؤخرا إلى أن الحكومة السودانية عرقلت عمل لجنة تقييم الوضع الإنساني في وقت سابق من هذا العام، مما أدى إلى تأخير تحديد المجاعة في مخيم زمزم للنازحين داخليا لعدة أشهر، حيث لجأ البعض إلى أكل أوراق الأشجار للبقاء على قيد الحياة.
وجبة واحدة
يحدث ذلك رغم أن الجوع منتشر حتى في المناطق التي يسيطر عليها الجيش في مدينة أمدرمان التي تكتفي فيها معظم الأسر بوجبة واحدة في اليوم من خلال المطابخ المجانية، وذلك بحسب ما نقله أحد المتطوعين في أمدرمان لـ(عاين) بعدما طلب عدم ذكر اسمه لخطورة الوضع الأمني.
وقال “يعيش السكان في أمدرمان أوضاع إنسانية سيئة، فلا توجد فرص عمل، تتوقف حياة أغلب السكان على المطابخ المجانية، والتي ليس لديهم القدرة والإمكانيات على تغطية احتياجات كل الأسر، في ظل غلاء شديد في أسعار السلع الغذائية، وسط تهديد أمني نتيجة عمليات القصف المدفعي العشوائي على المنطقة”.
وأطلق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة “أوتشا” ومنظمة الأغذية والزراعة “الفاو” نداء للحصول على الدعم الدولي خلال إحاطة مجلس الأمن الأسبوع الماضي، مع حث الحكومات على إعطاء أولوية للتمويل، وضمان طرق الإغاثة الآمنة، والضغط على الأطراف المعنية لوقف الأعمال العدائية، وتدعو خطة الاستجابة الإنسانية في السودان للعام 2025م إلى توفير 4.2 مليار دولار لدعم 21 مليون شخص، بالإضافة إلى 1.8 مليار دولار إضافية مطلوبة للاجئين في الدول المجاورة.