السودان: معارك تتوسع وجوع يتمدد
عاين- 11 يوليو 2024
في الوقت الذي فتح فيه جنود من الدعم السريع النار على اثنين من المزارعين في مدينة الدندر وسط السودان كانا في طريقهما للحقل الأسبوع الماضي وأردوهما قتلى، تنذر أزمة الجوع المتصاعدة بوفاة 2.5 مليون شخص بحلول نهاية سبتمبر المقبل- وفقا لتقرير صادر في مايو الفائت عن منظمة الأبحاث الهولندية.
ويقول تقرير المنظمة الهولندية تحت عنوان “من الجوع إلى الموت” والذي ترفق (عاين) نصه أن دارفور وكردفان، هما المنطقتان الأكثر تضرراً على الأرجح. ويشير التقرير إلى أن الوفيات لا ترتبط بحدة الجوع فحسب، بل أيضاً بمدته، بحيث لا يمكن للمرء البقاء على قيد الحياة عند مستويات الطوارئ من استهلاك الغذاء لفترة طويلة.
ويتوقع الباحث وخبير المياه والأمن الغذائي بالسودان في المنظمة الهولندية، تيمو قصبيك، في مقابلة مع (عاين) أن تصل أرقام الوفيات إلى 5 ملايين خلال العام المقبل إذا استمرت الأوضاع في البلاد دون معالجة.
بالنسبة للعاملين في المجال الإنساني يعتبر تمدد قوات الدعم السريع إلى أكبر ولايتين وسط البلاد تشتهران بإنتاج الغذاء مؤشرات قوية لانهيار الموسم الزراعي في مساحة لا تقل عن أربعة ملايين فدان، وتتزامن العمليات العسكرية العنيفة مع الموسم الصيفي حيث تدفن البذور باطن الأرض لحصاد الذرة نهاية العام.
وتحذر الأمم المتحدة من أن خمسة ملايين شخص في السودان قد يواجهون الجوع الحاد فيما انتقل فعلياً 700 ألف شخص إلى مرحلة انعدام الغذاء وفق تقرير نشرته الأسبوع الماضي بالتزامن مع اشتعال المعارك العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي تمددت إلى ولايتي الجزيرة وسنار اللتين تضمان أكبر مشاريع زراعية تتحفظ بأعلى الإنتاجيات على مستوى البلاد.
تشريد آلاف المزارعين
تقول العاملة والباحثة في المجال الإنساني نهلة حسن لـ(عاين): إن “وصول الحرب إلى ولايتي الجزيرة وسنار انعكس على حياة عشرات الآلاف من المزارعين سلباً، وتخلوا عن النشاط، وغادروا المناطق والقرى الزراعية بحثا عن النجاة من بطش قوات الدعم السريع.
وترى نهلة حسن، أن استحواذ الدعم السريع على ولايتي الجزيرة وسنار اللتين تنتجان محاصيل زراعية مختلفة إلى جانب الخضروات والفواكه وقطعان الماشية أثرت في المجتمعات المحلية بتشريد وإفقار سبعة ملايين شخص في هاتين المنطقتين.
وأضافت حسن: “قد تتوغل الدعم السريع إلى إقليم النيل الأزرق عقب تطويق غرب كردفان وشمال كردفان، بينما ولايات شرق السودان تحت سيطرة الجيش، وتعاني أزمة اقتصادية طاحنة وقبضة أمنية وفساد حكومي يستشري في المؤسسات”.
وكانت منصات تابعة للدعم السريع هددت باجتياح ولايات جديدة من بينها البحر الأحمر والشمالية ونهر النيل فور التوغل إلى سنار وأجزاء من غرب كردفان والنيل الأبيض.
توقف المشاريع الزراعية
يقول عضو لجان الطوارئ بولاية سنار محمد الهادئ بشرى، أن “وصول الدعم السريع إلى أكثر مناطق توجد بها مشاريع زراعية يعني إيقاف نحو (400) مشروع زراعي كان على وشك بداية الموسم الصيفي والخضروات”.
ويرى بشرى في مقابلة مع (عاين) أن الوضع الغذائي في ولاية سنار بعد سقوط سنجة وجبل موية والدالي والمزموم والدندر يعني فعليا الانتقال إلى “مرحلة الموت السريري” فيما يتعلق بالزراعة وتوفير الغذاء لملايين السكان.
ويشير إلى أن سنجة اشتهرت بإنتاج الثمار والفواكه وزراعة الخضروات منذ استيلاء قوات دقلو عليها لا يمكن التنبؤ أن شيئاً ما سيحدث عدا تدمير المشروع وتشريد المدنيين. ولفت إلى أن سنجة في طريقها إلى أن تتحول لمدينة شبه خالية من المواطنين.
نهب الحبوب الغذائية
الباحث في مجال الزراعة، محمد شريف، يقول إن “وجود الدعم السريع في ولاية سنار أدى إلى خروج 300 ألف فدان من جبال سقدي وموية و1.5 مليون فدان في منطقة الدالي والمزموم و2 مليون فدان شمال وشرق الدندر ونصف مليون فدان في مشروع أبو حجار الزراعي”.
ويرى شريف في مقابلة مع (عاين)، أن مليون شخص كانوا على صلة مباشرة بالزراعة المطرية والمروية بولاية سنار أغلبهم شُردوا بسبب الحرب، وأطلقت قوات الدعم السريع النار على عشرات المزارعين في الدندر والمزموم وسنجة في هجمات عسكرية استهدف المدنيين في الأحياء السكنية، أو في أثناء الذهاب إلى الحقول.
وأضاف: “هناك عمليات نهب واسعة للآليات الزراعية والاثنين الماضي نهب مسلحون آليات زراعية من مشروع القضارف المتاخم لمدينة الدندر وهم جماعات على صلة بالدعم السريع”.
وأردف محمد شريف: “تقدر المحاصيل الزراعية في مستودعات خاصة بالمواطنين في منطقة جبل موية وسقدي بـ 25 ألف طن من الحبوب جميعها تتعرض إلى نهب واسع من قوات الدعم السريع التي دخلت البلدة نهاية يونيو الماضي بانهيار مفاجئ لقوات الجيش”.
ويقول شريف: “تحولت حياة نحو مليون مواطن في ولاية سنار إلى جحيم بفقدان عشرات الآلاف من العمال الزراعيين وقطاع والخضروات والفواكه لعملهم ومصادر الدخل المالي ومتطلبات المعيشة في مناطقهم، كما أن الحرب ألحقت الضرر بـ 150 ألف نازح لجأوا إلى الولاية من الخرطوم والجزيرة، ونزحوا مجددا إلى القضارف وكسلا والدمازين”.
تضييق على العمل الإنساني
وتقول الأمم المتحدة إن حوالي (136) ألف شخص نزحوا من ولاية سنار إلى القضارف وكسلا وإقليم النيل الأزرق، ولا تزال حركة النزوح مستمرة- وفق الصافي عبد المنعم العامل في مجال الإغاثة الذي يعبر عن قلقه من زيادة أعداد الفارين مقارنة مع الوضع الميداني بالتالي الحاجة إلى مأوى وغذاء فور الوصول إلى القضارف وكسلا.
وأضاف عبد المنعم: “قدمت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والوطنية مساعدات في توفير مواد الإيواء لمئات العائلات، لكن الحاجة ماسة أكثر للمواد الإيوائية؛ لأن العدد كبير، ونتوقع وصول نصف مليون شخص إلى شرق البلاد هربا من قوات حميدتي الباطشة بالمدنيين”.
كما يعبر صافي عبد المنعم، عن قلقه من تعامل السلطات الأمنية بالولايات التي فر إليها المدنيون خاصة ولاية القضارف التي تحكم بواسطة الاستخبارات العسكرية، والتي تشن حملات في الأسواق، وتضيق الخناق على العمل الإنساني، وتسيطر على مركز القرارات في مكتب والي الولاية.
وتابع عبد المنعم: “سباق المجتمعات في القضارف على تقديم المساعدات للنازحين شكل ضغطا على السلطات الأمنية لتكف عن ملاحقة المتطوعين كما درجت على ذلك الفترة الماضية، لكن هذا الأمر لن يستمر طويلا؛ لأن الوضع الأمني في غاية الخطورة على الناشطين والعاملين في المجال الإنساني”.
ولم تحصل (عاين) على تعليق من حكومة ولاية القضارف حول الوضع الإنساني عقب وصول نحو (136) ألف شخص فيما ذكر رئيس لجنة الإيواء “هيئة حكومية” أن الحكومة تعمل على التنسيق مع المنظمات الدولية والوطنية لتوفير مواد الإيواء للفارين من ولاية سنار مشيرا إلى أن الوضع يمضي بشكل جيد.
وكان رجل الأعمال السوداني وجدي ميرغني أعلن تخصيص 80 فدانا من المساحات الزراعية المملوكة لشركاته في القضارف لإيواء النازحين من ولاية سنار فيما شيدت منظمات دولية وجهات طوعية عشرات المخيمات للعائلات حسب ما أفاد المتطوع مصعب الخير متحدثاً عن وجود مبادرات إنسانية متعددة في القضارف تمكنت من امتصاص أزمة اللاجئين إلى حد كبير.
نازحون في العراء
وأضاف الخير في مقابلة مع (عاين): “رغم ذلك ما زال مئات النازحين في العراء بضواحي مدينة القضارف ومنطقة السوق الشعبي والميناء البري فيما تحاول المجتمعات المحلية تقديم مساعدات يومية لدرجة إنشاء نقاط متحركة لسيارات تحمل الطعام والمياه وأغطية البرد والملابس”.
وأردف الخير: “الدعم السريع تحاصر مدينة سنار من كل الاتجاهات لأن الجيش يفتقد خطوط الإمداد عدا الإسقاط الجوي بالتالي نتوقع وصول أعداد إضافية من النازحين إلى شرق البلاد والنيل الأزرق .. الناس يفضلون الشرق؛ لأن الدمازين والروصيرص على مرمى نيران قوات حميدتي، ولا توجد ضمانات ببقائها تحت سيطرة الجيش”.
ويضيف: “جنود الدعم السريع يفتحون النار على المواطنين في بعض نقاط العبور داخل سنجة دون أي تردد يشعرون بالإفلات من العدالة في كل الأوقات هذا الشعور عزز لديهم سلوك قتل المدنيين بلا هوادة”.
وتابع مصعب الخير: “الأسبوع الماضي وأثناء ذهاب اثنين من المزارعين ضواحي الدندر إلى الحقل أوقفتهما دورية الدعم السريع، وسرعان ما أطلقت على رجلين في العقد السادس من العمر النار، وأردتهما قتلى على مقربة من الحقول الزراعية … لا أعتقد أن شخصا سيخرج من منزله ليزرع سيموت الناس جوعا هناك، وتتعرض الآليات الزراعية للنهب في سنجة والمزموم وجبل موية كما ينهب جنود الدعم السريع مخازن الحبوب والمحاصيل”.
كسلا.. الحوجة إلى المخيمات
أما في مدينة كسلا تعمل غرف الطوارئ على تقديم المساعدات الإنسانية للفارين من ولاية سنار عقب وصول الدعم السريع إلى سنجة والدندر والمزموم، وتستحوذ المبادرات الإنسانية على الوضع في مراكز الإيواء بتوفير الوجبات اليومية.
ينشغل الشبان والفتيات من غرف الطوارئ في هذه المدينة الواقعة شرقي البلاد على الحدود مع إرتريا بطهي الطعام على مدار الساعة فيما ينتظر بعض المتطوعين قرب محطات الحافلات الفارين من الحرب لتقديم الدعم النفسي وإيصالهم إلى مراكز الإيواء.
تقول سوسن عبد الكريم وهي عاملة إنسانية إن الفارين من سنار وصلوا في ظروف بالغة التعقيد توفي اثنان منهم بسبب مضاعفات السفر من سنار إلى كسلا في بعض الأحيان تحركوا سيرا على الأقدام لتعذر الحصول على وسائل النقل.
تعتقد عبد الكريم في مقابلة مع (عاين) أن الوضع الإنساني، رغم المبادرات الاجتماعية في كسلا والقضارف وبعض المدن المجاورة يحتاج إلى تدخلات قوية من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية فيما تؤثر القيود الحكومية على الخطط الإنسانية إما بالإجراءات البيروقراطية لدى السلطات أو التوجس من الرقابة الأمنية خاصة مع موجات التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي من غرف إعلامية على النشطاء والمتطوعين.
وأضافت عبد الكريم: “إذا لم تتوقف الحرب قريباً ستتحول المدن إلى مخيمات للنازحين لم يعد متاحاً أمام الفارين من منازلهم دفع المال نظير الحصول على سكن بالإيجار الشهري أغلبهم يقيمون في مراكز الإيواء قدرة المجتمعات المحلية على الاستضافة لم تعد متاحة نتيجة الوضع الاقتصادي المزري”.
وتابعت: “تحت هذه الظروف ربما تلجأ الحكومة المحلية إلى شن حملات لإخراج النازحين من المدارس التي تستخدم كمراكز إيواء لبداية العام الدراسي كل شيء متوقع والقادم ليس جيداً”.
مخاوف إعلان المجاعة
ويقول الباحث وخبير المياه والأمن الغذائي بالسودان في المنظمة الهولندية، تيمو قصبيك: “أشعر بقلق شديد من أن حجم الكارثة لن يكون مثل أي شيء شهدناه في العقود الماضية. سيكون أسوأ بكثير من مجاعة عام ١٩٨٤.
ويتابع “في ذاك العام كانت المجاعة بسبب الجفاف، وكان الأمر مروعاً، لكن الناس كانوا قادرين على التنقل إلى الأماكن التي يوجد بها طعام، وكانت هناك بعض آليات التأقلم التي تعمل، لكن الآن لدينا عدد أكبر بكثير من السكان، والتنقل أصعب بكثير إلى الأماكن التي يوجد بها طعام ونقص الغذاء في الواقع مماثل لما كان عليه في ١٩٨٤”.
“لم تتخذ اﻷمم المتحدة اﻹجراء اللازم لإعلان خطر المجاعة في السودان. في وقت أن حكومة السودان صريحة جداً بشأن عدم رغبتها في إعلان المجاعة. لقد قالوا ذلك مرات عديدة، ولدى السودان تاريخ مشابه. وأعتقد أن آخر تحديث كان واضحًا للغاية من حيث مدى خطورة الوضع”. تقول باحثة (سياسة المساعدات) بمنظمة الأبحاث الهولندية أنيت هوفمان لـ(عاين).
وتشير هوفمان، إلى أن إعلان المجاعة يشبه إعلان الإبادة الجماعية، فنحن نبتعد عن مثل هذا الإعلان أيضاً؛ لأنه يترتب عليه مسؤولية التصرف، وأخشى أن الأمم المتحدة ليست واثقة من كيفية ترجمة هذه المسؤولية إلى عمل؛ نظراً لأنها حتى الآن تكافح حقاً لتعبئة التمويل وتفعيل المساعدات؛ وبالتالي الوصول إلى المحتاجين، وأعتقد أن هذا الابتعاد يشكل مثالاً أوضح على عدم قدرتها على التصرف، ومن المحتمل أيضاً أن يكون هذا ما يعيقهم عن عدم إعلان المجاعة.
“كمية المساعدات الغذائية التي ستأتي يجب أن ترتفع كثيراً لتحدث تأثيراً حقيقياً، ويجب أن يكون لها تأثير فعال، وهذا كان تحدياً حتى الآن لذا فإن ما يقلقني هو أن هذا العام سيئ والعام القادم سيكون أسوأ أيضاً. يمكن أن تكون جائعاً لفترة من الوقت، وتبقى على قيد الحياة، ولكن إذا كنت جائعاً لأكثر من عام، فسيصبح من الصعب جداً الاستمرار”. يقول تيمو قصبيك الباحث والخبير في مجال المياه والأمن الغذائي في السودان.
ويتابع:”إنها أكبر أزمة إنسانية في العالم، فهناك الكثير من الناس الذين يعانون والأزمة لا تحظى بالاهتمام الذي تحتاجه، ولا يبدو أن هناك حلًا لها، الأمر محبط حقًا”.