“سموم بأيدي نافذين”.. السيانيد يهدد سكان قدير بجنوب كردفان
عاين- 28 يوليو 2025
كثف سكان محلية قدير في ولاية جنوب كردفان السودانية، وتيرة الاحتجاجات والرفض لأنشطة معالجة مخالفات التعدين التقليدي “الكرتة” التي تقوم بها عدة شركات في البلدة، نظراً للمخاطر الصحية الناجمة عن استخدام مادة السيانيد السامة لاستخلاص الذهب، وسط اتهامات لسلطات الجيش بالتورط في دعم وحماية هذه الأنشطة الضارة.
ورصد الأهالي تأثيرات واسعة على البيئة يُرجح أنها نتاج لاستخدام مادة السيانيد، بينها نفوق حيوانات وطيور، وموت للأشجار وتلوث في المياه، وظهور أمراض جلدية وغيرها وسط المواطنين، نسبة لقرب عمليات التنقيب في الكرتة إلى المجمعات السكنية في محلية قدير، مما وضع المنطقة وسكانها وسط مخاطر كبيرة.
توسعت عمليات التعدين بمادة السيانيد في منطقة قدير بعد اندلاع الحرب الحالية، وأصبح الوضع فوضوياً، مما يهدد الإنسان والحيوان والبيئة
ناشط مدني في المنطقة
وتشهد المنطقة نشاط معالجة مخالفات التعدين التقليدي منذ سنوات عبر شركات لديها تراخيص رسمية من السلطات الولائية والمركزية، لكن هذه الأنشطة توسعت خلال الحرب الجارية، وأصبح الوضع أشبه بالفوضى، وذلك وفق ما أفاد به عبد النبي محمد وهو أحد قادة الحراك الاحتجاجي ضد معالجات الكرتة بالسيانيد (عاين).
ويقول عبد النبي: “الوضع في قدير مأساوي بسبب نشاط التعدين العشوائي، ومعالجة مخالفات التنقيب الأهلي باستخدام السيانيد، والأحماض المحفورة في الأرض، هذه المواد الكيميائية شديدة الخطورة أثرت في كل شيء من جوانب الحياة في محلية قديرة، وطالت المراعي الطبيعية والأراضي الزراعية ومياه الشرب”.
معالجات بالسيانيد
وتُعَالَج مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” من خلال عدة أحواض على الأرض، وتُغمر بالمياه، ومن ثم تضاف لها مادة السيانيد، لاستخلاص الذهب، وأثناء هذه العملية تتسرب المياه على مساحات واسعة في التربة.
وتعتبر معالجة الكرتة، النشاط الأكثر شيوعا في قطاع التعدين في السودان، وتعمل عدة شركات متخصصة في هذا المجال من خلال عقود امتياز وتصديق من السلطات الحكومية المعنية، فهي ذات مكاسب سريعة وكبيرة، حيث يستخلص المعدنيين التقليديون 40 بالمئة فقط من الذهب الموجود في الأحجار التي يستخرجونها من باطن الأرض؛ لأنهم يستخدمون معينات بدائية، بينما تأتي الشركات، وتستخرج الـ60 بالمئة المتبقية في “الكرتة” بعد معالجتها بمادة السيانيد.
وتشير تقارير طبية إلى خطورة مادة السيانيد الكيميائية على صحة الإنسان والحيوانات، والبيئة بصورة عامة، مما دعا إلى وضع اشتراطات ومعايير صارمة لاستخدامها، ودائما تنشأ خلافات ومواجهات بين شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي والسكان المحليين في مناطق التنقيب، حيث يتهم الأهالي، الشركات باستخدام غير آمن للسيانيد.
ولا يقتصر نشاط التعدين عن الذهب باستخدام مادة السيانيد على ولاية جنوب كردفان وحدها، بل يشمل معظم المناطق التي يتنشر فيها تعدين الذهب لاسيما الولايتين الشمالية ونهر النيل وتشهد هذه المناطق المناكق ايضا عمليات مقاومة شعبية مماثلة
“تستخدم الشركات في منطقة قدير كميات هائلة من السيانيد بغرض استخلاص الذهب من الكرتة، مما أدى إلى تراكم بحيرات من المياه والمخلفات السامة، والتي يرجح تسربها إلى التربة والمياه الجوفية، الأمر الذي قد يؤثر في مياه الشرب وتلوث المراعي الطبيعية، والزراعة وهي قطاعات يعتمد عليها السكان بشكل أساسي في معاشهم”. يقول محمد إبراهيم وهو صحفي وناشط في مناهضة التعدين العشوائي بجنوب كردفان لـ(عاين).
توسع نشاط معالجة الكرتة بالسيانيد تسبب في تقلص المساحات الزراعية والمراعي في قدير، وسيترتب على ذلك آثار اقتصادية واجتماعية على السكان
صحفي وناشط مناهض للتعدين
ويشير إبراهيم إلى أن نشاط الشركات العاملة في مجال معالجة مخلفات التعدين التقليدي، تسبب في تقليص المساحات الزراعية، والمراعي الطبيعية في محلية قدير، وكما تأثر المعدنيين التقليديون، وترتب على ذلك تحديات اقتصادية واجتماعية على سكان المنطقة.
وتمثل محلية قدير أحد أضلاع مثلث ما يُعرف بمثلث الموارد في ولاية جنوب كردفان، الذي يضم إلى جانبها منطقتي الليري وتالودي، وهي بلدات غنية بالموارد الطبيعية خاصة معدن الذهب، حيث تشهد منذ سنوات عمليات واسعة للتنقيب اليدوي عن الذهب، كما تحتوي على أراضي زراعية خصبة وغابات، وتتميز بنسيج اجتماعي مترابط بين سكانها على مر تاريخها.
تلك الموارد جعلت محلية قدير وجهة محببة للمعدنيين التقليديين، والشركات بغرض الحصول على الذهب، بينما يتهم سكانها، شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي، باستخدام النفوذ السياسي والعسكري لكسب الذهب على حساب سلامتهم، والبيئة في المنطقة.
تورط نافذين
إبراهيم، يشير إلى دعم شخصيات بارزة في حزب المؤتمر الوطني المحلول، من بينهم والي جنوب كردفان وجنوب دارفور الأسبق آدم الفكي، فكرة جلب الشركات التي تعمل في مجال معالجة مخلفات التعدين التقليدي، ومنحها تصاديق للعمل، بعدما خدعوا السكان المحليين بأن هذا النشاط غير مضر بصحتهم، مع وعود كاذبة بتنفيذ مشاريع تنموية ضمن بند المسؤولية الاجتماعية.

“قبل اندلاع الحرب الحالية، كانت العقود المبرمة مع هذه الشركات تتجاهل حقوق أصحاب الأرض، والاشتراطات البيئية ولا تشدد على الوفاء بنصيب الدولة من الذهب المُنتج، وكانت مدعومة من نافذين في الجيش السوداني، وسعت الحكومة الانتقالية إلى تثبيت نصيب الدولة المنصوص قانونا وهو 70 بالمئة من الإنتاج على أن تأخذ الشركات 30 بالمئة، لكنها واجهت تحديات بسبب معارضة العسكريين لهذا التوجه، مما يؤكد حقيقة النفوذ الذي تتمتع به هذه الشركات، فمن الطبيعي إلا تلتزم بمعايير استخدام السيانيد”. يتابع إبراهيم.
تتبع معظم الشركات العاملة في الكرتة بقدير إلى الجيش وجهاز الأمن والقوة المشتركة وشخصيات نافذة في حزب المؤتمر الوطني، وتحظى بحماية تامة من القوات العسكرية
ناشط بالمنطقة
وتابع: “امتدت آثار التعدين العشوائي إلى تهديد النسيج الاجتماعي في المنطقة، حيث كانت الصراعات القبلية التي استمرت نحو 5 سنوات بسبب توترات التعدين، وبعد اندلاع الحرب الحالية، حاولت قوات الدعم السريع التغلغل إلى محلية قدير، وعملت على تسليح مكونات أهلية معينة، مما يهدد بمزيد من النزاعات بها”.
“الفساد في قطاع التعدين في منطقتي يتجاوز التواطؤ، فالشركات العاملة في هذا القطاع مرتبطة بشكل مباشر بجهات رسمية ومجموعات مسلحة نافذة، فبعضها يتبع إلى جهاز الأمن والمخابرات، وكانت شركة الجنيد تتبع إلى قوات الدعم السريع قبل أن يُسحب ترخيصها مع اندلاع الحرب، أيضا توجد شركة المسار وهي مملوكة للجيش”. يقول صدام آدم الشامي وهو متحدث باسم الحراك المناهض للتعدين العشوائي في قدير لـ(عاين).
ويضيف: “تعمل في قدير أيضاً شركة ميثبت وهي مملوكة للقوة المشتركة للحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش، وتعمل حالياً في مجال معالجة مخلفات التعدين التقليدي، ويرأسها ضابط برتبة عقيد، وقد امتد نشاط هذا الضابط إلى القيام بعمليات تجنيد وسط شباب المنطقة للقتال في صفوف المشتركة، مستغلا حالة الفقر التي يعيشها السكان”.
مناهضة مستمرة
ومع تدهور الأوضاع البيئية في قدير، يواصل الأهالي حراكاً مناهضاً لعمل شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي، ففي 10 يوليو الجاري نفذ عدد من المواطنين وقفة احتجاجية سلموا خلال حكومة ولاية جنوب كردفان مذكرة مطلبية، تدعو إلى الوقف الفوري لهذا النوع من التنقيب عن الذهب، نظراً إلى مخاطره على السكان والحيوانات والمراعي والأراضي الزراعية ومياه الشرب.

وبحسب متابعات مراسل (عاين)، فإن الاستخبارات العسكرية في محلية قدير ردا على المذكرة المطلبية، اعتقلت 6 ناشطين في مدينة كادوقلي، بعدما اتهمتهم بالوقوف وراء الحراك المناهض لعمل شركات معالجة الكرتة بمادة السيانيد، وهم: بابكر محمد مضوي، الولي موسى صالح، علي توم، موسى عمر “الكوينج”، سعيد عبدالله مرسال، ويوسف عبد الله، كما اُعُتقل د. عبد الله موسى في منطقة الليري للسبب نفسه، وأفرج عن جميع المعتقلين بعد ضغط من الأهالي.
وفي هذا الصدد، يقول أحد قادة الحراك المناهض للتعدين بمادة السيانيد في قدير، عبد النبي محمد لـ(عاين): “هذه الاعتقالات تؤكد أن القوات العسكرية تعمل لحماية نفسها ومصالحها، بدلاً عن حماية المواطنين، في الغالب يعتمد العسكريون على أساليب الترغيب والترهيب، وعادة ما يلصقون تهم التعاون مع قوات الدعم السريع أو الحركة الشعبية، حتى يظل المعتقلون أطول فترة دون أي محاكمات، ويكون البقاء للأقوى”.
ومنذ العام 2016 وحتى اليوم يستمر سكان محلية قدير في مقاومة أنشطة التعدين الضارة، ونظموا العديد من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات، وقتل أحد المحتجين قبل سنوات، وجرى في وقت سابق وقف نشاط بعض الشركات العاملة في مجال الكرتة، لكن بعد الحرب عاد هذا النشاط بصورة أوسع مما كان عليه، وسط تزايد في المخاطر على المواطنين.
ويواصل الأهالي عقد الاجتماعات لتنسيق خطواتهم لمواجهة التوسع في أنشطة معالجة مخلفات التعدين التقليدي باستخدام مادة السيانيد، معلنين عزمهم إصدار بيان مفصل وتحذيري للإدارة الأهلية والمجتمع بأسره، ويعتبر كثيرون في المنطقة، أن ما يجري في قدير ليس مجرد احتجاج على تلوث بيئي، بل هو معركة وجودية ضد فساد متجذر وتواطؤ سلطوي، يسعى إلى نهب خيراتهم على حساب حياة الإنسان وسلامة بيئته.