الغطاء الغابي.. إبادة أخرى في حرب السودان

عاين- 26 نوفمبر 2025

لم تعد الحرب في السودان معركة على الأرض فحسب، بل تحوّلت إلى معركة ضد الأرض نفسها. منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، تساقط الغطاء الغابي في البلاد كخسارة غير مرئية وسط دخان المعارك، بينما تمدّدت يد النزوح والجوع وغياب الطاقة لاقتلاع ما تبقّى من الأشجار التي كانت لعقود آخر خط دفاع طبيعي للسودان.

وتكشف الوقائع الميدانية والتقارير البيئية والشهادات المحلية أنّ الحرب الحالية والحروب التي سبقتها إعادت رسم خريطة الغطاء الغابي في السودان بصورة كارثية إذ يمتد الخراب من ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار إلى دارفور وكردفان، وصولاً إلى ولايات الاستقبال مثل القضارف وكسلا التي استنزفها النزوح.

ومع انهيار منظومة الطاقة وانعدام غاز الطهي، تحوّل الخشب والفحم إلى المصدر الأساسي للوقود، ما أدى إلى موجة قطع جائر طالت حتى الغابات المحجوزة، بعد غياب الرقابة الحكومية وعدم قدرة الهيئة القومية للغابات على الوصول إلى مناطق القتال.

إبادة أخرى

وتظهر أمثلة من شرق الجزيرة أنّ الغابات تُباد يومياً أمام مرأى الجميع، بينما تؤكد سلطات كسلا أن الضغط البشري على الموارد بسبب النزوح أدى إلى تدهور واسع في الغطاء الغابي.

وتشير تقارير إلى أن ولاية وسط دارفور تعاني من تدمير بالغ للغابات بسبب الحرب، حيث ينتشر قطع الأشجار العشوائي لإنتاج الفحم والحطب، خصوصًا في محيط مدينة زالنجي وضواحيها نتيجة النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع.

وفق ما ورد في تقرير  Humanitarian Practice Networkفإن التجمّعات السكانية الكبيرة الناجمة عن النزوح داخل دارفور (مخيمات النازحين) تؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية: يوجد قطع أشجار غير منضبط خصوصًا لأغراض الوقود في هذه المخيمات، في ظل انهيار الحوكمة.

وفي تقرير تقييم ما بعد الصراع من برنامج الأمم المتحدة للبيئة  (UNEP)، مرفوع في مركز ويلسون (Wilson Center)، يقول إن ما يقرب من 11.6% من الغطاء الغابي السوداني قد دُمر في دارفور في الفترة من  1990–2005.

بلا رقابة: قطع جائر

كما توضح إفادات خبراء البيئة أنّ العمليات العسكرية، إضافة إلى التلوث والحرائق والنزوح الجماعي، عطّلت الأجهزة الرسمية وأفرغت المحميات من حمايتها، وتسببت في هجرة الحياة البرية وتراجع التنوع الحيوي في واحدة من أكثر المراحل البيئية قتامة في تاريخ السودان الحديث.

وتواصلت (عاين) مع عدد من الخبراء وأساتذة كليات الغابات للحصول على تقييم دقيق لتأثير الحرب والنزوح على الغطاء الغابي، إلا أنهم جميعًا اعتذروا عن الإدلاء بمعلومات محدّثة، مشيرين إلى غياب بيانات موثوقة وحديثة حول حجم الأضرار البيئية في مناطق النزاع والنزوح.

إعدام الأشجار في حرب الخرطوم
شجرة “نيم” كبيرة ناجية من القطع من الجذور رغم ما لحڨ بفروعها الكبيرة

ويقول المدير التنفيذي للجمعية السودانية لحماية البيئة، عادل محمد علي سيد أحمد لـ(عاين): “أثّرت الحرب الأخيرة في السودان على الموارد الطبيعية بصورة عامة، وعلى الغطاء النباتي بصورة خاصة، وأن امتداد الحرب وتزايد رقعتها، وشح غاز الطهي، ونزوح ملايين السكان من مدنهم وقراهم، أدى إلى زيادة الطلب على الكتلة الحية من الحطب والفحم لتلبية الاحتياجات اليومية، ما تسبب في ازدياد عمليات قطع الأشجار والشجيرات.

ويشير سيد أحمد، إلى أن ضعف الرقابة والمتابعة من الجهات المسؤولة، مثل الهيئة القومية للغابات، لاستحالة الوصول إلى مناطق الحرب، ساهم في توسع القطع الجائر، حتى داخل الغابات المحجوزة، وأن مجموعات من ضعاف النفوس والأفراد شاركت في هذه العمليات، وتمددت لتطال الأشجار داخل المدن.

وينوه إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة توضح حجم الضرر الذي أصاب الغطاء الغابي والنباتي نتيجة الحرب، مكتفيًا بالإشارة إلى أن بعض التقارير اعتمدت على مقارنة صور الأقمار الصناعية للفترة ما قبل الحرب مع الصور الحديثة لتقدير الأضرار.

لا توجد إحصائيات دقيقة توضح حجم الضرر الذي أصاب الغطاء الغابي

الجمعية السودانية لحماية البيئة

وحول المناطق الأكثر هشاشة، ذكر سيدأحمد، أن الولايات التي شهدت الحرب مباشرة مثل الخرطوم، الجزيرة، سنار، وولايات دارفور الخمس، إضافة إلى الولايات التي استقبلت النازحين مثل القضارف وكسلا، تعرضت لأضرار واسعة في الغابات.

وأوضح أن العمليات العسكرية أثرت على إدارة الغابات وفعالية حماية الموارد الطبيعية بشكل مباشر، نتيجة التلوث الناتج عن استخدام الأسلحة المختلفة، الذي أثر على التربة والنباتات ونشوب الحرائق في المراعي والغابات، كما أن صعوبة الوصول للمناطق المتضررة بسبب الألغام والحروب حالت دون متابعة الموارد وحمايتها.

وبخصوص الخطط قبل الحرب لإعادة تأهيل الغابات، أشار المصدر إلى أن الهيئة القومية للغابات لديها برامج ومشاريع لإعادة الإعمار، إلا أن غياب الإرادة السياسية كان عاملاً معوقًا، مقارنة بدول مثل كوستاريكا وإثيوبيا التي تولي اهتمامًا كبيرًا لثروتها الغابية.

تأهيل الغابات

أما التحديات في إعادة تأهيل الغابات بعد توقف النزاع، فهي بحسب المصدر، تتلخص في إيجاد إرادة سياسية جادة تعطي الغطاء النباتي الأولوية اللازمة، وتوفير الدعم البشري والمادي، وإنفاذ قوانين حماية الموارد الطبيعية على الجميع، وإشراك منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في حملات التوعية للحفاظ على الموارد وتنميتها بمشاركة شعبية واسعة.

ويشير سيد أحمد، إلى أن التعافي البيئي لن يتم إلا باتباع سياسة الحوكمة البيئية الرشيدة، وأن توقف بعض المشاريع الممولة من صناديق البيئة العالمية أدى إلى فقدان فرص الاستفادة من الأموال المخصصة للسودان.

أواسط السودان، تتعرض غابة شرق الجزيرة – وحدة أرياف رفاعة، قرية ود المقبول لتحفيظ القرآن الكريم – لعملية إبادة شبه كاملة. تُقطع الأشجار يوميًا بواسطة المناشير والفؤوس، وتتحرك عربات الكارو والدفارات محمّلة بالحطب أمام مرأى الجميع.

ويشكّل هذا الخراب البيئي خطرًا كبيرًا على المنطقة، ويهدد التوازن الطبيعي والحياة الزراعية. ويطالب السكان الجهات المختصة بالتدخل العاجل لإيقاف هذا التدمير وحماية الغابة قبل فوات الأوان.

تأثرت الغابات جراء النزوح الذي شكل ضغطًا كبيرًا على الموارد الغابية

مدير الهيئة القومية للغابات بولاية كسلا

“الغابات في ولاية كسلا تأثرت جراء النزوح، الذي شكل ضغطًا كبيرًا على الموارد الغابية بالولاية، وأدى إلى تدهور الغابات بسبب قطع الأشجار”. يقول مدير الهيئة القومية للغابات بولاية كسلا، عباس علي إبراهيم لـ(عاين).

محمية الدندر في السودان- الصورة عبد المنعم عيسى AFP

الغابات التي كانت تمثل مورداً إنتاجياً مهماً ومصدراً لتقليل انبعاثات الكربون، فضلاً عن كونها موطناً للحياة البرية ومصدر عيش للعديد من المجتمعات المحلية في ولايات الخرطوم وسنار والجزيرة والقضارف، إضافة إلى ولايات كردفان ودارفور، شهدت تدميراً واسعاً للغابات نتيجة المعارك المستمرة- وفقا لرئيس مجلس إدارة مركز طه الطاهر بدوي.

بدوي، يرى في مقابلة مع (عاين) أن الحرب لم تضر فقط بالأشجار، بل عطلت كذلك أجهزة الحماية الحكومية والرقابة البيئية، حيث أصبحت غير فعالة في معظم الولايات التي شهدت مواجهات. ويتابع: أن “التلوث الناتج عن الحرب فاقم الأضرار، ودفع الحيوانات البرية إلى الهجرة من مواطنها الطبيعية”.

السودان يدفع ضريبة باهظة بيئياً جراء الحرب

خبير بيئي

ويضيف: أن “السودان يضم عدداً من المحميات الطبيعية والغابات المحمية التي تواجه تهديدات متزايدة نتيجة الحرب. فالقوانين التي كانت تنظم حمايتها تراجعت بفعل الانفلات الأمني، وتضررت محميات رئيسية مثل الدندر، التي فقدت معظم مشروعات الدعم والرعاية البيئية، فضلاً عن المحميات الواقعة في دارفور وكردفان والقضارف. وأوضح أن السودان “يدفع ضريبة باهظة بيئياً”، وأن الأضرار تحتاج إلى جهد منظم لرصدها وإعادة تأهيل المناطق المتضررة.

وحول إمكانية استخدام التقنيات الحديثة في الرصد البيئي، يؤكد بدوي، أن متابعة التدهور في الغابات والغطاء النباتي ممكنة من خلال تفعيل التعاون بين بيوت الخبرة والمراكز البحثية والجامعات السودانية. ودعا إلى الاستفادة من الأقمار الصناعية ومن برامج علمية مشتركة بين المؤسسات الأكاديمية المتخصصة في علوم الغابات والموارد الطبيعية والبيئة، مشدداً على ضرورة تأسيس برنامج وطني للرصد البيئي الدوري، بمشاركة المجلس القومي للبيئة والمراكز البحثية المستقلة.

ويشدد على أن “السودان بحاجة إلى جهد علمي جبار من الخبراء والفنيين والمختصين لتقييم الوضع البيئي بصورة علمية شاملة، بعيداً عن الزيارات الشكلية”، ويتابع: ” هذا العمل بات ضرورة لإنقاذ ما تبقى من الموارد الطبيعية وحماية التوازن البيئي في البلاد”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *