“حقول يابسة”.. حقائق صادمة حول موقف الأمن الغذائي في السودان

14 يوليو 2022

لا يتطلع موسى علي، وهو خباز في بحري، شمال الخرطوم، إلى العمل في الأيام المقبلة. ويقول “سيرتفع سعر الخبز – لن يكون عملائي سعداء – وسوف يلوموني على شيء لا أستطيع السيطرة عليه”.

تتوقع اللجنة التسييرية لاتحاد المخابز في السودان ارتفاعا في أسعار الخبز. ليس من المستغرب لأن  سعر الغاز المستخدم كوقود للطهي ارتفع مؤخرا بنسبة 56٪، كما ارتفع سعر جركانة الزيت بنسبة 67٪. في أبريل، ارتفع سعر القمح بنسبة 180٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

في 1 يناير الماضي، تخلت الحكومة عن جميع أشكال الدعم المقدم للقمح، مما أجبرت شركات الطحن من الحصول على الحبوب في الأسواق المفتوحة بأعلى الأسعار. في الفترة ما بين يوليو 2021 وفبراير 2022، ارتفع السعر  في الخرطوم بنسبة 60 %.

هذا أمر مثير للقلق بشكل خاص بالنسبة لبلد مثل السودان حيث يبلغ استهلاك القمح ضعف المتوسط العالمي تقريبا. وقال علي لـ(عاين) : “تخيلوا، كنا نبيع الرغيفة ب 25 جنيها سودانيا العام الماضي في هذا الوقت، والآن نحن نبيع الرغيفة نفسها بضعف التكلفة، مقابل 50 جنيها سودانيا”.

المجاعة قادمة

تتوقع الأمم المتحدة أياما عصيبة في المستقبل وسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وضعف المحاصيل حيث تقدر منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي أن 18 مليون سوداني، أي أكثر من الثلث، سيواجهون الجوع الحاد بحلول سبتمبر. وقال إيدي رو، ممثل برنامج الأغذية العالمية في السودان “إن الآثار المجتمعية للنزاعات، والصدمات المناخية، والأزمات الاقتصادية والسياسية، وارتفاع التكاليف، وضعف إنتاج المحاصيل، تدفع الملايين من الناس إلى الجوع والفقر”.

سوق بدارفور

 يشير تقرير لبرنامج الأغذية العالمي صدر هذا الشهر إلى أن انعدام الأمن الغذائي حاضر في جميع الولايات ال 18 في جميع أنحاء البلاد – مع كون منطقة دارفور هي الأكثر تضررا. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن وكالة رعاية الأطفال التابعة للأمم المتحدة، اليونيسيف، كانت قد قدرت أن 3 ملايين من الأطفال يعانون حاليا من سوء التغذية، منهم 325,000 حالة قد تكون مميتة إذا لم يتم تلقي العلاج.

 وفقا لشبكة نظام الإنذار المبكر للمجاعة، وهي منظمة لمراقبة الأمن الغذائي، من المتوقع أن يتم حصاد ما يقدر بنحو 600,000  طن من القمح المنتج محليا هذا الموسم، أي أقل بنسبة 33٪ من إنتاج العام الماضي. وسيغطي الحصاد حوالي 23٪ فقط من الطلب السنوي على القمح في السودان، وفقا لتقارير شبكة الإنذار المبكر للمجاعة.

 الخسارة المؤكدة

المزارعون في السودان ببساطة لم يتمكنوا من إنتاج الكثير هذا العام كما كان في السابق – ويرجع ذلك جزئيا إلى ظروف الأسعار غير المواتية، وفي حالات أخرى، إلى ظروف العمل المحفوفة بالمخاطر.

 مقارنة بالخمس سنوات الماضية , انخفض إنتاج الثروة الحيوانية والمحاصيل الى نصف النسبة في 14 ولاية في أنحاء السودان , حسب تصريح فرحان حق , نائب المتحدث للأمين العام للأمم المتحدة انتونيو غوتيريش.

لتشجيع المزارعين على بيع محصولهم من القمح وبناء احتياطيات من الحبوب حددت الحكومة سعر شراء القمح من المزارعين ب 43 ألف جنيه سوداني في مارس (حوالي 94 دولارا أمريكيا) لكل جوال يزن  100  كيلوغرام، وهي زيادة كبيرة من 13,500 جنيه سوداني ( ما يقرب من 30 دولارا) لكل جوال في العام السابق.

 لكن المزارعين يقولون إن هذا السعر المحدد لا يزال غير مربح بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج والتضخم. وفي يناير الماضي، رفعت وزارة المالية أسعار الكهرباء بنسبة 600% (ستمائة في المائة)، مما قفز بتكاليف الري بالنسبة للمزارعين المستقلين بشكل لا يطاق. ويدعي المزارعون أيضا أن البنك الزراعي الحكومي، الذي يشتري ويخزن الحبوب من المزارعين، وضع شروطا مستحيلة عليهم مثل فرض رسوم على النقل والإمداد. 

تجهيزات تقليدية لفلاحة الارض بدارفور

وعلى الرغم مما يزعم المزارعون أنها ظروف سعرية غير مواتية لشراء القمح، يقول المسؤولون الزراعيون إن الحكومة التي تعاني من ضائقة مالية كانت مترددة في الوفاء بمدفوعات الأسعار. وذكر وزير الزراعة والموارد الطبيعية أبو بكر البشري في تصريحات صحفية حديثة أنهم أصدروا توجيهات عاجلة لمحافظ البنك المركزي لتوفير الأموال اللازمة لشراء القمح من المنتجين، مناشدا المزارعين التحلي بالصبر حتى تتوفر الأموال.

لكن العديد من المزارعين نفد صبرهم حتى من الرغبة في مواصلة الزراعة.

وفقا للمزارع الجيلي الشيخ في ولاية سنار، عانت المحاصيل من ضعف هطول الأمطار، وما يسميه أسعار الوقود التي لا يمكن التغلب عليها، مما أجبر معظم المزارعين على الإفلاس. وأضاف الشيخ أن العديد من المزارعين في سنار لن يزرعوا هذا الموسم إذا لم يتوفر الوقود ولن يقوم البنك الزراعي بتعديل مدفوعات القروض.

يقول مدير إدارة المالية في البنك الزراعي، صالح محمد صالح، إن التضخم المتفشي جعل من شبه المستحيل إصلاح خطط القروض للمزارعين. وقال صالح في مقابلة مع تلفزيون النيل الأزرق: “إذا أقرضنا مزارعا مبلغا لشراء جرار واتفقنا على أنه سيسدد القرض بعد خمس سنوات، فإن نفس المبلغ لن يشتري حتى عجلة جرار”.

يبدو إنتاج القمح قاتما بنفس القدر في منطقة الجزيرة في وسط السودان التي كانت خصبة ذات يوم. “إذا استمر الوضع على هذا النحو، فلن تكون هناك زراعة  في الجزيرة”، يقول أحمد بابكر، الأمين العام لجمعية مزارعي الجزيرة الحكومية. “سيهاجر جميع المزارعين إلى الخرطوم لكسب لقمة العيش من خلال القيام بأعمال هامشية”.

 في مواجهة خيارات التسعير السيئة من الحكومة، يتخلى المزارعون إما عن الزراعة أو يحتفظون بمحاصيلهم لأنفسهم.و في دنقلا عاصمة ولاية الشمالية المستودعات الحكومية الشاسعة شبه خالية من القمح. بين مارس وأبريل، امتد حصاد القمح في الولاية الشمالية إلى مساحة 130 ألف فدان، منتجا مئات الآلاف من الأطنان من القمح، وفقا لما قاله مزارعون محليون لـ(عاين)، و قال المزارع علي محمد علي جدو: “لن يزرع أحد القمح مرة أخرى في الموسم المقبل بسبب تصرفات الحكومة السودانية”، مدعيا أن أي زراعة مستقبلية هي “خسارة مضمونة”.

الفشل يتهدد موسم زراعة القمح بمشروع الجزيرة
جرار في ارض زراعية بمشروع الجزيرة اواسط السودان

وقال المفوض السابق لهيئة الاستثمار في الولاية الشمالية، بشرى الطيب، لـ(عاين)، إنه لا توجد مقارنة بين الإعداد الزراعي هذا العام والعام الماضي بسبب “لامبالاة الحكومة” تجاه الزراعة. يقول الطيب إن قرار الحكومة بزيادة تكاليف الكهرباء للمشاريع الزراعية ستة أضعاف هو السبب الرئيسي وراء انخفاض الزراعة في الولاية الشمالية بشكل كبير.

نظرا لعدم قدرتهم أو عدم رغبتهم في بيع محاصيلهم للحكومة، يلجأ بعض المزارعين إلى بيع محاصيلهم من القمح للتجار الذين يصدرونها إلى مصر، وفقا لطارق أحمد الحاج، رئيس جمعية مزارعي الجزيرة، حيث يشتري التجار المصريون القمح بنحو 60 ألف جنيه سوداني للجوال الواحد.

 في منطقة دارفور المضطربة، لا يتعلق الأمر بعدم رغبة المزارعين في الحصاد هذا العام، بل إن انعدام الأمن مما يجعل أمر الزراعة مستحيلا.

فلاحتها من الخطورة بمكان

كانت منطقة دارفور ذات يوم سلة الخبز في البلاد، حيث توفر حوالي 70٪ من مصادر الذرة والدخن في البلاد و 85٪ من محاصيل الفول السوداني والسمسم في السودان. والآن، وبسبب انعدام الأمن، يتم تهجير العديد من المزارعين من أراضيهم من قبل الميليشيات الرعوية المدججة بالسلاح واستهدافهم إذا حاولوا العودة إلى حرث أراضيهم.

 في أوائل يونيو، حاول سبعة مزارعين نزحوا بسبب النزاع ويقيمون في مخيمي كلمة والسلام في ولاية جنوب دارفور العودة إلى قراهم الأصلية للزراعة بالقرب من بلدة لعدوب. وهاجمهم رجال مسلحون، مما أسفر عن مقتل ستة وجرح الآخر، ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم وفقا لما قاله المسؤول المحلي هارون عمر علي لـ(عاين). ويتردد صدى محنة هؤلاء المزارعين السبعة في جميع أنحاء المنطقة.

كشفت دراسة استقصائية أجرتها سلطات الولاية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في ولاية شمال دارفور عن عجز يقترب من 200 مليون طن متري في إنتاج الغذاء هذا العام. وعزت المديرة العامة لوزارة الزراعة في شمال دارفور، الدكتورة إنعام عبد الرحمن، هذا النقص إلى النزاعات المسلحة المستمرة باعتبارها العامل السببي الرئيسي، مع ارتفاع الأسعار والتصحر كعوامل ثانوية.

بائعة خضروات في سوق صغير بدارفور

“لا يمكننا الوصول إلى مزارعنا لعدة أسباب، بما في ذلك العنف الممنهج ضد المزارعين من قبل الرعاة”، كما يقول المزارع عيسى علي آدم، الذي اعتاد الزراعة بالقرب من نيالا عاصمة جنوب دارفور. ووفقا لعيسى علي، أدى انعدام الأمن وأسعار الوقود الجامحة وعدم اليقين الاقتصادي العام إلى مضاعفة عدد الأشخاص المحتاجين إلى الغذاء داخل المدن ومخيمات النازحين في ولاية جنوب دارفور. وأضاف “تعرض ثلاثة مزارعين للضرب والقتل ونهبت آلاتهم الزراعية الأسبوع الماضي (أواخر مايو) على أيدي مسلحين جنوب نيالا عندما كانوا يخططون لزراعة الأرض. ” وعلى الرغم من تقديم شكاوى ضد المعتدين، فإن قوات الأمن المسؤولة عن الحماية لم تعتقل الجناة  لأنهم يتبعونهم.

هناك أفرادا داخل الحكومة يحاولون الحد من نقص الغذاء. ووفقا للمدير العام لوزارة الزراعة بولاية جنوب دارفور، حماد موسى مطر، فقد زرعت الولاية 15 مليون فدان من الذرة والدخن هذا العام، أي ثلاث أضعاف ما تم زراعته في الموسم الماضي. ومع ذلك، يخشى المسؤول الحكومي من أن الصراع بين الرعاة والمزارعين قد يؤثر على المشروع. وفي مارس، عقدت حكومة الولاية أيضا مؤتمرا مع القادة المدنيين للتخفيف من حدة العنف خلال الموسم الزراعي من خلال تطوير مسارات هجرة الماشية والموارد المائية، فضلا عن قانون لتنظيم الزراعة والرعي.

فيما يتعلق بجهود الحكومة لتوفير الأمن للمزارعين، كما يقول سكان من دارفور، تواصل السلطات دعم الجماعات الرعوية المدججة بالسلاح التي تنهب وتهجر المجتمع الزراعي بشكل روتيني.

على سبيل المثال القتال الأخير في منطقة كلبس بولاية غرب دارفور، في الفترة من 6 إلى 11 يونيو، و أسفرت الهجمات التي شنتها الميليشيات المسلحة في كلبس والقرى المجاورة عن مقتل ما لا يقل عن 125 شخصا وتشريد ما يقدر بنحو 50,000 آخرين، حسبما ذكرت الأمم المتحدة. وقال أبكر التوم، وهو قيادي محلي في المنطقة، لـ(عاين)، إن السلطات الحكومية تجاهلت محنة المدنيين من خمس قرى حول كلبس، حيث أحرقت الميلشيات المسلحة قراهم ونهبت مئات رؤوس الماشية.

ويقول السكان إنه مع نزوح معظم المزارعين الأصليين في دارفور الآن بسبب الصراع، لا يوجد ببساطة أحد قادر على العمل بأمان في الزراعة، على الرغم من الاحتياجات الشديدة للبلاد.

ولا تزال مستويات التشرد، ولا سيما بدارفور في تصاعد. وفي مايو، أعلنت الأمم المتحدة أن عدد النازحين في السودان ارتفعت إلى 3. 1 مليون شخص، بعد ان نزح 75,000 شخص بسبب النزاع في دارفور هذا العام وحده.

مجبورون على الاستيراد

مع تقليص الإنتاج المحلي بشدة لعدم رغبة او قدرة المزارعين على الزراعة، اعتمدت الحكومة على الواردات الباهظة التكلفة. لكن الوصول إلى الأسواق الأجنبية يمثل تحديا.

عطلت الحرب في أوكرانيا شحنات الحبوب من روسيا وأوكرانيا اللتين تمثلان أكثر من 80٪ من واردات السودان من القمح. انتقد  تجمع المهنيين السودانيين، وهو مجموعة قادت ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، بشدة قادة الانقلاب الحاليين لإنفاقهم الملايين على واردات القمح. ووفقا لبيان صادر عن التجمع، استوردت السلطات أكثر من 900 ألف طن من القمح في الفترة من يناير إلى مارس من هذا العام، مما كلف الحكومة 366 مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ ضخم مقارنة في نفس التوقيت من العام الماضي حيث أنفقت الحكومة التي يقودها المدنيون 86 مليون دولار أمريكي واستوردت 288 ألف طن من القمح.

ارتفاع الأسعار وثورة الخبز 

مع محدودية الوصول إلى القمح وحدوث أعلى معدل تضخم في أفريقيا، يخشى موسى علي من أن عددا أقل من العملاء سيتمكنون من شراء الرغيف. ويقول علي إن نقص الخبز سيؤدي إلى مزيد من الجوع، فضلا عن إثارة المزيد من الاضطرابات السياسية. “بدأت الثورة باحتجاجات على أسعار الخبز”، قال علي لـ(عاين). يجب أن لا ينسى الناس مدى أهمية الخبز”.