“تصفية وتمثيل بالجثث”.. شهادات ناجون من معتقلات الدعم السريع
عاين- 8 فبراير 2024
بمخيم أدري شرقي تشاد يروي عدد من اللاجئين السودانيين الفارين من مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، قصصاً مأساوية حدثت في الإقليم دارفور عقب المعارك العسكرية الأخيرة، لا سيما الانتهاكات المباشرة ضد المدنيين العزل من قبل قوات الدعم السريع المتمثلة في الاعتقال والتعذيب.
ونقل ضحايا وشهود استطاعوا الفرار لـ(عاين) بوقوع مجازر وانتهاكات بولاية غرب دارفور، فضلا عن العنف الجسدي والتمثيل بالجثث وفقء الأعين عن طريق قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها.
وفي الرابع من نوفمبر العام الماضي استطاعت قوات الدعم السريع شبه العسكرية والمليشيات التابعة لها السيطرة على قيادة الفرقة (15) التابعة للجيش السوداني في منطقة أردمتا شرقي مدينة الجنينة. وأسفرت تداعيات الهجوم الشرس في اليومين الأول والثاني عن دخول هذه القوات للأحياء السكنية التي معظمها في مخيمات النازحين.
وفي الخامس عشر من أبريل العام الماضي، اندلعت مواجهات عسكرية عنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في العاصمة الخرطوم، صحبتها انتهاكات واسعة شملت القصف الجوي وتدمير المنازل والمقار الحكومية واحتلالها عن طريق عناصر الدعم السريع، فضلاً عن عدد من حالات الاغتصاب المسجلة بما في ذلك إقليم دارفور غربي البلاد.
وفي 13 يوليو العام الماضي، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أمام مجلس الأمن الدولي فتح تحقيق جديد بشأن المزاعم بارتكاب جرائم حرب في سياق الحرب الدائرة في السودان، خاصة في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور.
ومنذ اندلاع الحرب في السودان ظلت تلاحق قوات الدعم السريع والميليشيات ذات الطابع القبلي التابعة لها اتهامات بارتكاب انتهاكات حملت طابعا إثنيا ضد بعض القبائل بغرب دارفور.
وسبق وشهد إقليم دارفور حرباً ضارية في الفترة بين عامي (2002 _2003) قادتها عناصر مليشيات الجنجويد التي أُنشئت قبل تكوين قوات الدعم السريع، المدعومة من حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، وامتدت الحرب لعقدين، وخلفت نحو (300) ألف قتيل و(2.5) مليون نازح، بحسب الأمم المتحدة.
روايات صادمة
مثله ومئات الأسرى، واجه “حمادة عبد الله أحمد هارون” مصيراً مأساوياً عقب سقوط الحامية العسكرية لمدينة الجنينة، ويقول إنه كان شاهداً على الفظائع التي ارتكبت هناك على يد قوات الدعم السريع.
يقول هارون، في مقابلة مع (عاين): “في الرابع من فبراير الماضي وقع هجوم عن طريق قوات الدعم السريع على أردمتا من الناحية الشمالية لحي الإذاعة”. ويضيف: “كان يوم قاسياً على الجميع، شهد وقوع حالات قتل وعنف”.
يوم سقوط الفرقة (15) اقتيد هارون وسبعة آخرين لمنطقة “عدار” شمالي مدينة الجنينة، وجرى اعتقالهم بإحدى المدارس.
قُتل عدد من الأشخاص الذين كانوا مع هارون، بينما بلغ عدد المعتقلين معه في أحد القطاعات التابعة لقوات الدعم السريع (36) شخصاً. وقال إن “عدد المعتقلين من الأطفال بلغ (64) طفلاً”.
وفقاً لهارون، فإن بعض هؤلاء المعتقلين أُطلق سراحهم عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وبينما استطاع البعض الهروب إلى الحدود التشادية لتكتب له حياة جديدة، فإن أعداداً كبيرة من المعتقلين ينتظرون مصيراً مجهولاً.
هرب هارون ونحو (41) معتقلا لدى قوات الدعم السريع بعد رحلة شاقة على الأقدام استمرت لأكثر من ست ساعات قبل ان يصل إلى مخيمات أدري للاجئين السودانيين في تشاد .
شهادة أخرى يدلي بها “حمادي أحمد آدم (36) عاماً” لـ(عاين)، ويقول إنه كان يقيم بمعسكر “أردمتا” للنازحين، وهو أحد الناجين من القتل برصاص قوات الدعم السريع، ويشير إلى تعرضه للهجوم ضمن (21) شخصاً آخرين في الخامس من نوفمبر الماضي، عن طريق مليشيات تابعة لقوات الدعم السريع.
“رأيت جثة مثّل بها الجناة، ومزقوا الصدر وأخرجوا الرئيتين عن موضعهما”.
شاهد عيان
ويقول: “بادر هؤلاء الذين هجموا علينا بسؤالنا عن قبيلتنا. أجبنا بأننا من أهلية المساليت”. ويتابع آدم: “كان بيننا أحد الأطباء قتل في الحال بتهمة أنه يقدم خدمات طبية وعلاجية للجيش”.
وقع آدم، في الاعتقال لدى الدعم السريع، ضمن (20) آخرين “بأردمتا” حيث تم اقتيادهم إلى عدة اتجاهات. ” كانت هناك جثث على امتداد الطريق”. يقول آدم لـ(عاين). ويضيف: “في هذه الرحلة المأساوية تناقص عددنا، فبعد أن كنا (21) شخصاً صرنا أربعة أشخاص فقط، لقد تعرضنا للاعتداء الجسدي المتواصل عن طريق قوات تابعة للدعم السريع، وأشار إلى بعض الأشخاص فقدوا القدرة على النطق بسبب شدة الألم”.
لم تكتف قوات الدعم السريع والمليشيات التابعة لها، بحسب رواية هؤلاء الناجين بالقتل والضرب والترهيب والاغتصاب، لكنها مثلت بالجثث. يقول آدم، أنه رأى جثة مُثّل بها هؤلاء الجناة عندما مزقوا الصدر، وأخرجوا الرئيتين عن موضعهما.
وبعد وصول هؤلاء الضحايا المقبوض عليهم بواسطة الدعم السريع بالقرب من أحد المستوصفات الطبية بمدينة الجنينة أطلق عليهم أحد جنود الدعم السريع النار. ومن بين الـ(21) شخصاً قُتل (9) أشخاص في الحال. ونجا حمادي أحمد آدم من هذا الموت المؤكد ذلك اليوم عن طريق الصدفة المحضة عندما ظنّ جنود الدعم السريع أنه لقي حتفه، ليكون أحد الشهود على عدد من الانتهاكات الجسيمة التي وقعت على عشرات المواطنين العزل.
يحكي آدم، أنه شهد قيام هذه القوات بفقء عيني أحد الأشخاص المعتقلين عن طريق آلة حادة. يقول أنه “كان مشهداً قاسياً لن يُنسى بسهولة”.
وتحت وطأة التعب والإرهاق الشديد، نُقل آدم ضمن آخرين لمستشفى الجنينة التعليمي في ظل عدم وجود أطباء ورعاية طبية. وخلال سبعة أيام قضاها هناك شهد موت (11) شخصاً؛ بسبب عدم توفر العناية الطبية.
ومع عدد من الأشخاص، استطاع حمادي أحمد آدم الهروب والوصول إلى مخيم أدري على الحدود التشادية بعد رحلة مضنية وشاقة. يقول آدم إنه إذ يروي هذه الشهادة، فإنه لا يخشى شيئاً، ويرى أن ما حدث في “أردمتا” يعتبر إبادة جماعية، ويدعو لملاحقة ومحاكمة الجناة الذين ارتكبوا هذه الانتهاكات وتقديمهم للعدالة.
وفي 29 يناير الماضي، في أثناء تقديمه لتقرير بشأن السودان أمام مجلس الأمن، قال مدعي المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إن هناك أسباباً تدعو للاعتقاد بأن الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تُرتكب في دارفور من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والمجموعات التابعة لها.
(40) يومًا رهن الاعتقال
أما مسعود أحمد محمد عبد الله وهو من مدينة الجنينة محلية “أردمتا” بحي الرصافة الذي اعتقل عن طريق الدعم السريع في الحدود التشادية في الرابع من نوفمبر الماضي، يقول إنه” أمضى في المعتقل (40) يوماً قبل أن يستطيع الهروب في العشرين من ديسمبر الماضي، وبعد رحلة شاقة استطاع الوصول إلى دولة تشاد”.
ويجرم القانون الدولي الإنساني الاعتداء على المدنيين وفرض حماية واسعة لهم في أثناء النزاعات وفقاً لاتفاقية جنيف.
وتقع اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية في صلب القانون الدولي الإنساني، الذي ينظم السلوك في أثناء النزاعات المسلحة، ويسعى إلى الحد من تأثيراتها، وتحمي الاتفاقيات على وجه الدقة الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية والأشخاص الذين كفوا عن المشاركة.
وتنفي قوات الدعم السريع هذه الاتهامات على الدوام وتصر على نفي أي تجاوزات ارتكبها أفرادها، وقالت في بيانات صحفية سابقة: “إن أيا من جنودها الذين يتبين تورطهم سيواجه العدالة”.
وفي 13 نوفمبر 2023، أعلنت قوات الدعم السريع، تشكيل لجنة تقصي حقائق حول الانتهاكات الواسعة التي طالت آلاف المدنيين بولاية غرب دارفور عقب استيلائها على قيادة الفرقة 15 مشاة، وقال بيان أصدره المتحدث باسم قوات الدعم وقتها إنه “بناء على الحيثيات التي صاحبت تحرير مدينة الجنينة، وجه قائد القوات محمد حمدان دقلو بتشكيل لجنة تحقيق للتقصي حول الأحداث كافة وتقديم نتائجها للرأي العام”.
“القانون الدولي الإنساني وضع للجرائم الخطيرة أهمية بالغة”.
قانوني
يقول الحقوقي، عبد الباسط الحاج، في مقابلة مع (عاين): أن “البرتوكول المحلق بالاتفاقية خصص الاتفاقية الرابعة للحديث عن حماية المدنيين في أثناء النزاع. وبموجب ذلك فإن الاعتداء عليهم يعتبر انتهاكاً لهذه الاتفاقية ويعد جريمة، ويشمل ذلك النزاعين الداخلي والخارجي”.
ويلفت الحاج، الانتباه إلى أن القانون الدولي الإنساني وضع للجرائم الخطيرة أهمية بالغة عندما تناولها في اتفاق روما الذي أنشأت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية للنظر في الجرائم الدولية، التي من ضمنها جرائم الحرب، والتعذيب وقتل الأسرى أو الأشخاص الذين تخلو عن القتال، وألقوا عنهم أسلحتهم.
ويرى الحاج، أن كل الجرائم الخطيرة التي وقعت في إقليم دارفور بين عامي (2002- 2003) حتى الآن تدخل في نطاق الإحالة التي قام بها مجلس الأمن الدولي بموجب القرار (1593) لملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية للنظر في الجرائم التي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مثل جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ولفت إلى أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، صرح بمواصلة التحقيقات الجنائية حول الجرائم التي وقعت في دارفور بعد 15 أبريل الماضي وبشكل خاص الاشتباه في وقوع جريمة إبادة جماعية في ولاية غرب دارفور.
وأكد الحاج، أن عملية إنهاء الإفلات من العقاب في السودان تعتبر عملية تكاملية بين القضاء الدولي والقضاء المحلي.
ورأى أنه يجب تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية كما يجب السماح لفريق المحققين التابع للمحكمة الجنائية الدولية الوصول إلى مناطق الحرب لمواصلة التحقيقات.
ودعا لضرورة أن يخطو السودان خطوات جادة نحو إنهاء الإفلات من العقاب بفتح تحقيقات داخلية حقيقية لمحاسبة كل المجرمين بعد إجراء الإصلاحات اللازمة في المنظومة العدلية والقضائية لتكون قادرة على التعاطي مع حجم وطبيعة الجرائم التي وقعت سابقاً، وفي الوقت الراهن لمنع تكرارها مستقبلاً.
كما يرى الحاج، ضرورة وجود جهاز عدلي مستقل ونزيه وذي كفاءة عالية وتشريعات حديثة متطورة، مع وجود جهاز تنفيذ قانون قوي ذي مهنية عالية ومستقل يلتزم بحماية الدستور والقانون.