(مسافرون إلى الموت).. كيف تنتهي أحلام المهاجرين السودانيين بصحراء ليبيا

10 سبتمبر 2022

“استعددنا تماماً للموت، كانت لحظات مرعبة وانت تراقب من يموتون حولك ولا تستطيع أن تقدم لهم شيئا، والاقسى انك تنتظر نفس المصير”. يقول إدريس النور 20 عاماً لـ(عاين) وهو أحد الناجين مع خمسة آخرين من بين 32 مهاجراً غير شرعياً سودانياً انهى الجوع والعطش حياتهم في الصحراء وهم في طريقهم إلى دولة ليبيا ومنها إلى أوروبا. 

وفي الوقت الذي تتزايد فيه مؤخراً حوادث موت المهاجرين عطشاً في الصحراء بين ليبيا والسودان لا تمتلك السلطات السودانية احصائيات رسمية بحوادث موت المهاجرين السودانيين عطشا وجوعا في الصحراء وفقا لما أفاد به (عاين) عسكريين يعملون على الحدود السودانية الليبية بالولاية الشمالية وشمال دارفور.

وفي المقابل تحصى السلطات الليبية 71 حالة وفاة لسودانيين في الصحراء خلال الثمانية أشهر الماضية بحسب مدير الاسعاف والطوارئ الليبية بمدينة الكفرة، ابراهيم بالحسن، الذي تحدث لـ(عاين).

ويعد السودان معبراً لكثير من البلدان في القرن الأفريقي وغرب أفريقيا ووفقًا لمشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة الدولية للهجرة، وتم توثيق أكثر من 2000 حالة وفاة مهاجر منذ عام 2014 في الصحراء الكبرى وحدها، إلا أن الخبراء يعتقدون أن الأرقام أعلى من ذلك بكثير.

"استعددنا تماماً للموت، كانت لحظات مرعبة وانت تراقب من يموتون حولك ولا تستطيع أن تقدم لهم شيئا، والاقسى انك تنتظر نفس المصير". يقول إدريس النور 20 عاماً لـ(عاين) وهو أحد الناجين مع خمسة آخرين من بين 32 مهاجراً غير شرعياً سودانياً انهى الجوع والعطش حياتهم في الصحراء وهم في طريقهم إلى دولة ليبيا ومنها إلى أوروبا.

رواية أحد الناجين

بدأت قصة إدريس مع عدد من رفاقه الذين اعتزموا الهجرة إلى أوروبا من ضواحي العاصمة السودانية الخرطوم بعد أن اغرتهم أحاديث الهجرة مع اقرانهم في الحي. وصل النور، في السابع والعشرين من يوليو الماضي إلى مدينة المالحة الواقعة في الصحراء ما بين ولاية شمال دارفور والولاية الشمالية المتاخمة للصحراء بإتجاه دولة ليبيا.  

“بعد وصولى إلى مدينة المالحة بساعات  دخل علينا وسيط وقال لنا  ان قيمة تذكرة ركوب السيارة عبر الصحراء إلى ليبيا 150 الف جنيه سوداني- حوالي 260 دولار- قلت له أنا أمتك 120 الف جنيه سوداني فقط، بعد مفاوضات شاقة وافق الوسيط على المبلغ وبعد يومين اصطحبنا بعربة صغيرة إلى خارج المدينة إلى المكان الذي تقف به المركبة  التي تقلنا إلى ليبيا، وتم تجميع المسافرين الذين كانوا مخبئين في أنحاء مختلفة حول المدينة بذات الطريقة حتى اكتمل العدد إلى 21 مسافراً” .

“في الثلاثين من يوليو وحوالي الساعة الخامسة صباحاً امتطينا المركبة ذات الدفع الرباعي والتي تعرف محلياً  بـ اسكوية، وكان يقودها سائق ليبي الجنسية لا اعرف اسمه لكنه ملقب بـ ود توبا”.

الموت ينتزع رفاقي

“تحركنا عبر الكثبان الرملية نحو ليبيا، وعندما وصلنا إلى عمق الصحراء أمرنا السائق بالنزول بالقرب من شجرة وأخبرنا بنفاد وقود السيارة وأنزل لنا القليل من الماء والمكرونة وقال لنا -اعلموا لكم غداء انا عندي وقود رايح اجيبو واجي راجع”. يروي النور شهادته لـ(عاين) ويواصل..

“ذهب ود تويتا ولم يعد. وفي اليوم الثاني انتهت مياه الشرب التي بحوزتنا وبدأت معاناتنا مع العطش  الشيء الذي دعا 5 من من الشبان للذهاب بحثاً عن الماء أو أي طريق للمركبات  في صحراء قاحلة لا تستطيع أن تميز الاتجاهات”.

“لم يعد الشبان كذلك لأيام، بقيت تحت الشجرة برفقة 16 من المسافرين، وعندما اشتد بنا الظمأ في اليوم الرابع والخامس بدأ الموت يحل علينا.. بعد كل فترة قصيرة ترى شخص حولك قد فارق الحياة.. وبحلول اليوم السادس وصل عدد الموتى إلى ثمانية أشخاص وبقينا ثمانية آخرين على قيد الحياة لكن في أنفاسنا الاخيرة واستعدينا لفراق الحياة “.

يواصل النور روايته ويقول:  “قبل غروب الشمس جاءت سيارة فجأة نزل عدد من الأشخاص تفقدوا الجثث بحسرة وألم  سارع البعض منهم في تقديم الماء والغذاء جرى إسعافنا إلى أقرب وحدة عسكرية تتبع لقوات الدعم السريع بواسطة جهاز الــ الجي بي اس، وعندما كنا في الطريق نحو المعسكر وجدنا اصدقائنا الخمس الذين ذهبوا بعد اليوم الثالث ليجلبوا لنا الماء جثث على قارعة الطريق والموت لم يقف عند ذلك الحد حتى عندما وصلنا الى المركز الصحي انتزع منا رفيقي صالح”.

(مسافرون إلى الموت).. كيف تنتهي أحلام المهاجرين السودانيين بصحراء ليبيا

جئت لانقاذهم لكني دفنتهم

“جئت لإنقاذهم لكن قمت بدفنهم ومن بينهم ابن اختي”. يقدم شاهد العيان محمد مدني، رواية أكثر مأساوية، وهو احد المنقذين الذين تتبعوا أثر السيارة الأخرى التي كان على متنها 25 مهاجرا ويقودها ابن اخته “دبوس”.

تعود اسباب الفاجعة وفقاً لـ محمد مدني، لتعرض واحدة من سيارة المهاجرين لعملية نهب من قبل مجموعة مسلحة في منطقة وادي هور واخذت منهم الهاتف الخلوي والوقود الاحتياطي.

كان سائقا السيارتين ترافقا من مدينة المالحة بولاية شمال دارفور ، وبعد سرقة الوقود والهاتف الخلوي لاحد العربات، يقول الشاهد محمد مدني لـ(عاين)، ان السائق الليبي بعد نفاد وقوده اضطر لانزال المسافرين في ظل شجرة بالصحراء وطلب الذهاب لإحضار وقود كان قد خزنه في الصحراء وحدد مكانه عبر جهاز جي بي اس، لكن عند وصولهم للموقع لم يجدوا الوقود، واضطروا للتحرك إلى منطقة المثلث الحدودية مع ليبيا تاركين السيارة الأخرى التي على متنها 21 شخصا في الصحراء.

” وعند اقترابهم من منطقة المثلث بحوالي 120 كيلو مترا  نفد وقود السيارة، فتحرك السائقان مشاة نحو المثلث تاركين خلفهم “46” مسافر موزعين على سيارتين تبعد بينهما مسافات طويلة دون اي اتصال وبقي المسافرين في حيرة من امرهم دون ماء او غذاء”. يقول محمد مدني. 

 ويضيف: “مرت ثلاثة أيام ولم يعد السائقين، بعدها تحرك 15 من الركاب متتبعين اثرهما لكن ايضاً لم يعودوا، وفي اليوم الرابع عثرت عربة عن طريق الصدفة  على السيارة المتعطلة والتي لم يغادرها 9 من المسافرين، واعنهم سائق السيارة بقليل من الماء وطلب من مساعده أخذ احداثية لموقعهم وارسلها الى شخص اسمه الغالي في منطقة المثلث بغرض النجدة  بعد ان يصل الى ليبيا”.

تلقى محمد مدني في اليوم السادس مكالمة هاتفية من أحد الليبيين يفيد فيها بأن ابن أخته دبوس سيارته نفد وقودها وارسل لي الاحداثية وعندما  ادخلتها في الجهاز وجدت أن الموقع يبعد 120 كيلو متر من المثلث فتحركت على الفور مع اصدقائي وعندما اقتربنا من الموقع وجدنا اثنان  من المسافرين على الطريق  حاولوا المشي على اقدامهم لكن لم يبعدوا من موقع المركبة سوى كيلو متر واحد بسبب التعب انقذناهم وذهبنا نحو السيارة ووجدنا ست أشخاص أوشكوا على الهلاك قدمنا لهم شاي دافئ وقليل من الماء وعندما سألتهم اين “دبوس” قالوا ذهب بهذا الاتجاه بحثاً عن الوقود يرافقه السائق الليبي ليصل العدد.

تحركنا صباح اليوم التالي وعلى بعد 48 كيلومتر وجدنا جثث لثلاثة من الركاب كانوا قد تحركوا بصحبة ثلاثة عشر آخرين بحثاً السائق في اليوم الثالث، وعندما تقدمنا اوقفتنا قوات ليبية و أخبرناهم باننا نبحث عن مفقودين قالوا لنا لدينا بنفس الحادثة واتفقنا على كيفية البحث وفي اليوم الثاني انضمت الينا قوات سودانية وبعد مسافة قصيرة  وجدنا ثلاثة جثث اخرى تتبعها ثلاثة جثث تفصل بينهما مسافة قصيرة  واخيراً وجدت ابن اختي دبوس ميتا بجانب الليبي ليصل عدد الموتى لـ32 مسافراً.

(مسافرون إلى الموت).. كيف تنتهي أحلام المهاجرين السودانيين بصحراء ليبيا

هجرات ووفيات في الصحراء

شهدت السنوات الاخيرة روايات وحوادث عديدة عن عمليات تهريب البشر عبر شبكات منظمة إلى داخل الأراضي الليبية عبر الصحراء، وارتفعت هذه العمليات نتيجة لأسباب مختلفة منها أقتصادية وأخرى مرتبطة بالحروب الدائرة في السودان والذى أدى لهروب الالف من الشباب عبر ليبيا او مصر ومنها إلى  أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. 

كما حدد برنامج مصفوفة تتبع النزوح (DTM) التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في ليبيا أن هناك مجموعة 649،788 مهاجرًا من أكثر من 41 جنسية متواجدين في ليبيا خلال الجولة 41 من جمع البيانات المتعلقة بحصر المهاجرين في الفترة من فبراير – أبريل 2022.

وجرى تسجيل أكثر من 45000 مهاجر في نقاط مراقبة تدفق في شمال تشاد بين يناير ومارس 2022. ومن بين المهاجرين الذين شملتهم الدراسة الاستقصائية من قبل المنظمة الدولية للهجرة خلال تلك الفترة، كان 32 في المئة متجهين نحو ليبيا.

زيادة أعداد المهاجرين السودانيين

“هناك الكثير من الضحايا لم يتم الوصول إليهم بسبب عدم دقة المعلومات حول اماكنهم بيد ان عدد منهم يموتون دون أن يعلم عنهم أحد شيئاً”. يقول مدير الاسعاف والطوارئ بمدينة الكفرة، ابراهيم بالحسن في مقابلة عبر الهاتف مع (عاين). ويشير إلى أنهم في السلطات الليبية يقومون بترقيم جميع الجثث من ثم يأخذون عينة منها حتى  يسهل التعرف عليها في حال تم طلب ذلك من قبل ذويهم.

 وكشف الحسن، عن ارتفاع نسبة المهاجرين السودانيين بصورة كبيرة خلال الفترة الاخيرة.  وقال: ” في السابق كان غالبية المهاجرين من جنسيات اريترية وصومالية اضافة الى النيجر وافريقيا الوسطى لكن في الفترة الاخيرة نسبة السودانيين اصبحت الاغلبية”.

وبحسب منظمة الهجرة الدولية (IOM)منذ عام 2017، دعمت المبادرة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للهجرة أكثر من 3000 مهاجر للعودة إلى السودان، 80 في المائة منهم قادمون من ليبيا.

(مسافرون إلى الموت).. كيف تنتهي أحلام المهاجرين السودانيين بصحراء ليبيا

 بماذا تتعذر الحكومة؟

ومع تنامي هجرات السودانيين غير النظامية تقول الخبيرة في قضايا الهجرة والمسؤولة السابقة في مكتب منظمة الهجرة بمصر أميرة أحمد، أن الحكومة السودانية دائماً ما تتعذر بعدم قدرتها على تأمين الحدود وظلت باستمرار تطلب من الاتحاد الأوروبي الأموال مقابل ذلك. واعتبرت أحمد  “هذا الابتزاز في حد ذاته يعتبر اتجار بالمواطن لأن  مسألة تأمين الحدود تعتبر آخر مرحلة من مراحل مجابهة الهجرة غير النظامية”.

وأضحت أحمد، أن الحل الجذري للحد من هذه الظاهرة هو أن تقوم السلطات السودانية بجعل الأوضاع في الداخل اكثر موائمة للشباب بتوفير فرص العمل وتأمين حقهم في المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما فيها وقف الحروب ومحو الدوافع التي تقود إلى الهجرة.