“كوشيب أمام الجنائية”.. فظائع منسية تعود لواجهة العدالة الدولية
عاين- 11 أكتوبر 2024
في مشهد يُعيد الأمل لضحايا الصراع في دارفور، تُعد محاكمة علي كوشيب أمام المحكمة الجنائية الدولية إحدى أبرز القضايا المرتبطة بجرائم الحرب التي ارتكبت خلال النزاع الذي أسفر عن مآسٍ إنسانية هائلة. وتمثل هذه المحاكمة اختبارًا حاسمًا للعدالة الدولية، وسط استمرار العنف في السودان وصعوبة محاسبة المتورطين.
في 25 سبتمبر الماضي، قالت المحكمة الجنائية الدولية إن المرافعات الختامية لمحكمة قائد المليشيا السابق في دارفور، علي كوشيب، ستعقد في ديسمبر المقبل، يعقبها مداولات القضاة ومن ثم يصدرون الحكم في الوقت المناسب. وأوضحت المحكمة عبر بيان، إنه من المقرر أن تُعقد المرافعات الختامية في قضية المدعي العام ضد علي محمد علي عبد الرحمن “علي كوشيب” في الفترة من 11 إلى 13 ديسمبر المقبل في مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
خلال الفترة من 2003 إلى 2010، تعرضت منطقة دارفور لهجمات عنيفة من قبل القوات الحكومية وميليشيات “الجنجويد”، ما أسفر عن مقتل الآلاف ونزوح الملايين. دخل ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية في مطلع أبريل 2005، عندما تبنى مجلس الأمن الدولي قرارًا فرنسيًا يقضي بإحالة مرتكبي التجاوزات في إقليم دارفور إلى المحكمة.
في عام 2009، أصدرت المحكمة مذكّرة توقيف بحق الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، تبعتها مذكرات بحق وزير الدفاع السابق عبد الرحيم حسين ووزير الدولة بوزارة الداخلية الأسبق أحمد هارون.
كما شملت مذكرات التوقيف عبد الله بندة، أحد قادة الحركات المتمردة، وعلي عبد الرحمن “كوشيب”، الذي سلم نفسه للمحكمة في يونيو 2021، حيث بدأت محاكمته لاحقًا بتهم تشمل جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور.
في 31 مارس 2005، تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 1593 بإحالة الوضع في دارفور منذ عام 2002 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. وفي السابع والعشرين من العام 2007، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق كوشيب وأحمد هارون، القيادي بحزب المؤتمر الوطني المحلول، متهماً كوشيب بإصدار أوامر بالقتل والاغتصاب والنهب.
مثول كوشيب
مثل علي كوشيب، أحد قادة “الجنجويد” السابقين، أمام محكمة الجنايات الدولية في 9 يونيو 2022، ليصبح الشخص الوحيد من بين المتهمين في جرائم دارفور الذي يمثل أمام المحكمة. بينما لا يزال العديد من المتهمين الآخرين، مثل الرئيس السابق عمر البشير، وعبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، مطلوبين بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب في دارفور.
ومع اندلاع الحرب السودانية، منتصف أبريل 2023، وتجدد النزاع في إقليم دارفور، أدانت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وميليشيات القبائل العربية المتحالفة معها في ولاية غرب دارفور، وأكدت على وجود مقابر جماعية دفنت فيها جثامين العشرات من قبيلة المساليت.
في 13 يوليو 2023، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن فتح تحقيق جديد بشأن جرائم حرب وقعت في ولاية غرب دارفور يُزعم أن مرتكبيها عناصر يتبعون لقوات الدعم السريع.
وفي 29 يناير الماضي، خلال إحاطة إلى مجلس الأمن، قال مدعي المحكمة الجنائية الدولية إن هناك أسبابًا تدعو للاعتقاد بأن الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي—الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية—تُرتكب في دارفور من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والمجموعات التابعة لها.
ولفت إلى أن فشل المجتمع الدولي في تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية وما تلا ذلك من غياب المساءلة يؤديان إلى تأجيج أعمال العنف الناجمة عن الحرب.
وقال: “يخشى أهل دارفور من خطر حقيقي يتمثل في إمكانية أن يصبح الوضع في دارفور من الفظائع المنسية. وإذا حدث ذلك، فستكون هذه هي المرة الثانية التي يتم فيها خذلان أهل دارفور وخذلان الإنسانية بشكل عام.”
ويواجه كوشيب 31 تهمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يُزعم ارتكابها في دارفور غربي السودان، في الفترة بين أغسطس 2003 وأبريل 2004.
بداية المحاكمة
بدأت محاكمة كوشيب أمام الدائرة الابتدائية الأولى في 5 أبريل 2022. وخلال تقديم قضية الادعاء، قدم 56 شاهدًا شهاداتهم في قاعة المحكمة، حيث أكمل الادعاء تقديم أدلته.
وفي 5 يونيو 2023، قدم الممثلون القانونيون المشتركين للضحايا بيانهم الافتتاحي، وفي الفترة من 5 إلى 7 يونيو و16 إلى 17 أكتوبر 2023، سُمِح لهم باستدعاء شاهد واحد وبعض الضحايا المشاركين لتقديم آرائهم أمام المحكمة. كما استدعى الدفاع 17 شاهداً أمام المحكمة، وأكمل تقديم أدلته.
صراع دارفور: جذور الأزمة
“بدأ الصراع في دارفور عندما تمردت مجموعات من أبناء الإقليم على الحكومة الإقليمية والمركزية، مطالبة بنصيب الإقليم من السلطة والثروة ورفضاً للتهميش، كما هو الحال في كل الأقاليم الأخرى التي شهدت حركات تمرد مسلحة”، وفقاً للمحامي والقانوني المختص في المحكمة الجنائية الدولية، عبد الباسط الحاج.
“وردًا على تلك الخطوات، قامت الحكومة المركزية في البدء بتجاهل حركات التمرد، وفضلت التعامل معها بعدم جدية، مما أدى إلى مواجهتها عسكريًا بدلاً من التفاوض”، يضيف عبد الباسط الحاج.
ومع اشتداد الأمور، “استعانت الحكومة بالقبائل العربية التي لم تكن جزءًا من التمرد الذي حدث في دارفور”، كما يقول الحاج.
ويشير الحاج في حديثه لـ(عاين) إلى أن “الحكومة هنا لعبت لعبة قذرة حيث أثارت النعرات العنصرية وسط الدارفوريين واستخدمت الصراعات القبلية القديمة عبر تجهيز القبائل العربية لمكافحة التمرد من خلال تحالف الجنجويد والتجمع العربي”.
“وبالفعل، ساهم تجمع الجنجويد في مكافحة التمرد، لكن نتج عن تلك المواجهات فظائع كبيرة ارتكبت بحق المجموعات السكانية غير العربية، والتي تمثل غالبًا حواضن اجتماعية للحركات المسلحة”، يوضح عبد الباسط الحاج.
ويبرز الحاج دور علي كوشيب، “وهو ضابط صف سابق في قوات الدفاع الشعبي ثم الاحتياط المركزي، الذي أصبح منسقًا لتجميع المليشيات العربية وتسليحها وتنظيمها لتكون في مقدمة صفوف المواجهة ومهاجمة القرى، تحديدًا في مناطق وادي صالح ومناطق جنوب دارفور عمومًا”.
ويقول الحاج: “شهدت هذه المناطق أسوأ الانتهاكات العظيمة، مثل الجرائم التي ترتقي إلى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حيث كان كوشيب يقود تلك القوات بنفسه ويشرف على أعمال القتل، والحرق، والاغتصاب، والاعتقال على أساس إثني، وغيرها من الأفعال التي جرمها القانون الدولي”.
في مواجهة كوشيب:
يقول عبد الباسط الحاج إن كوشيب وُجهت إليه 53 تهمة، وبعد جلسات الدائرة التمهيدية التي تقوم بتأكيد التهم، تم تأكيد 31 تهمة، تمثل مجملها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وفي ضوء هذه التهم، جرت محاكمته على مدار عامين، ومن المتوقع أن تصدر المحكمة قرارها في العام القادم.
وتواجه المحكمة الجنائية الدولية انتقادات تتعلق بتأخير إجراءات العدالة، لكن هذا التأخير يرتبط بعمل المحكمة في ظروف معقدة، حيث لا تستطيع تنفيذ أوامر القبض إلا بتعاون الدول المعنية. وفي حالة كوشيب، لم يكن السودان متعاونًا مع المحكمة، مما أدى إلى تأخر إجراءات العدالة لفترة طويلة. يقول عبد الباسط الحاج.
يلفت الحاج إلى أن التأثير الذي تحدثه محاكمة كوشيب، يتمثل في إشعار الضحايا بأن هنالك عدالة تنتظر الجناة والقادة الكبار الذي خططوا للجرائم التي ارتكبت في حقهم.
وأكد أن محاكمة كوشيب تفتح نافذة الامل بان دائم ما هنالك طرييق لتحقيق العدالة كما يجب ان لا تسقط كل هذه الجرائم.
“يؤثر عدم فعالية المحكمة الجنائية الدولية بشكل كبير على تحقيق العدالة، حيث يتسبب في استمرار إفلات الجناة من العقاب ويضعف ثقة الضحايا والمجتمعات في نظام العدالة الدولي.”
وفي هذا يقول المحامي الجنائي الدولي، مايكل ديلاجرانج، في مقابلة مع (عاين): ” لن أقول إن المحكمة الجنائية الدولية غير فعالة، بل أقول إن تدخلها محدود النطاق، وبالتالي لا يمكن أن تكون الحل الوحيد لتحقيق العدالة.
وأوضح: مثلا هي لا تتمتع بالولاية القضائية إلا على دارفور، بينما تم ارتكاب جرائم في جميع أنحاء السودان. أما بالنسبة لبقية السودان (وحتى مناطق دارفور التي لن تغطيها المحكمة الجنائية الدولية) فيتعين على السودانيين أن يستكشفوا سبلاً أخرى للمساءلة.
وحول العوامل التي تجعل من محاكمة كوشيب خطوة إيجابية على طريق العدالة الدولية، فإن ديلاجرانج يقول: ” إذا تمت إدانة كوشيب، فستكون هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها محاسبة شخص ما على الجرائم الدولية المرتكبة في السودان.
ولفت إلى أن ذلك سيكون إنجازا هائلا وسابقة مهمة للغاية. ولكن لا بد من متابعتها بقضايا إضافية ـ وليس فقط في المحكمة الجنائية الدولية ـ ولابد من اغتنام الزخم.
وحول كيف يمكن لمحاكمة أن تساهم في استقرار السودان ودعم العدالة الانتقالية، يقول المحامي الجنائي الدولي، مايكل ديلاجرانج: “لا أريد المبالغة في تقدير تأثيرها على الصراع الحالي ولكن إدانة شخص ما بالجرائم التي ارتكبها في دارفور قد يجعل الجناة المحتملين يفكرون مرتين قبل ارتكاب الفظائع. وأضاف: ” كما أن وجود حالة واحدة ناجحة يعني أنه يمكن أن يكون لديك 20 حالة.
وتابع: “آمل أن يدرك الناس أن هؤلاء الجناة يمكن أن يواجهوا العدالة بالفعل، وآمل أن يساعد ذلك في تحفيز المدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء السودان لمواصلة القيام بعملهم المهم في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء البلاد.
وحول كيف ينظر المجتمع الدولي إلى محاكمة كوشيب كخطوة نحو العدالة، يقول ديلاجرانج: “إن المحاكمة لا تزال جارية لذا يتعين علينا أن نكون حذرين في استخلاص النتائج، ومع ذلك أعتقد أنه إذا صدرت إدانة أخيرا بعد 20 عام في سياق دارفور، فقد يساعد ذلك في إعادة الوضع الحالي إلى رادار المجتمع الدولي. وربما تعزيز عزمهم على السعي لتحقيق العدالة والمساءلة بشأن الصراع الحالي.
أما بخصوص الإجراءات المتوقعة بعد صدور الحكم وما إذا كان هناك فرصة للاستئناف إلى جانب مسألة تعويض الضحايا عن الجرائم كوشي،، يقول المحامي الجنائي الدولي، مايكل ديلاجرانج: في كلتا الحالتين (الإدانة أو البراءة) من المرجح أن يكون هناك استئناف من شأنه أن يطيل العملية. ولكن بمجرد البت في الاستئناف، وإذا تم تأييد الإدانة، فسيحق للضحايا الحصول على تعويضات.
وأضاف: مع ذلك ينبغي إدارة التوقعات المتعلقة بتعويضات المحكمة الجنائية الدولية بحذر.
وأوضح: “لن يستفيد من التعويضات إلا الضحايا الذين تعرضوا للأذى في عدد قليل من قرى وسط دارفور خلال الفترة المعنية (2003-2004). وستكون الأموال المتاحة للتعويضات محدودة للغاية بالنظر إلى عدد الأشخاص المتأثرين. ومن المرجح أن يصدر القضاة شكلا من أشكال التعويضات الجماعية لمحاولة تعظيم المنفعة من الموارد المحدودة – وحتى هذا سوف يتأخر بشدة بسبب الصراع المستمر والإجراءات القانونية المحيطة بالتعويضات.
الخبير القانوني، المعز حضرة، حول مسألتي الاستئناف وتعويض الضحايا، يقول في حديثه لـ(عاين): وفقًا لميثاق روما الأساسي الذي يحكم عمل المحكمة الجنائية الدولية، يمكن استئناف الأحكام الصادرة عن المحكمة بموجب المادة 81، الفقرة (1). هذا يعني أن أي حكم صادر عن المحكمة الجنائية، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بعلي كوشيب، يمكن الطعن فيها واستئنافها، وذلك وفقًا لمبدأ المحاكمة العادلة.
أما فيما يتعلق بجبر الضرر للضحايا، يشير حضرة، إلى أن التعويض يعتمد على الحكم النهائي.
وأضاف: “إذا تم تأييد الحكم ولم يتم استئنافه، فإن المحكمة تلجأ إلى تنفيذ القرار، بما في ذلك حجز أموال المتهم إن وُجدت. يُمكن توزيع تلك الأموال على الضحايا كجزء من عملية جبر الضرر التي يشملها النظام الأساسي.