عدالة مُعطّلة.. الحكومة السودانية تتجاهل تشكبل أعلى سلطة قضائية
2 سبتمبر 2021
يصطدم تكوين المحكمة الدستورية- أعلى سلطة قضائية- بتأخير إكمال هياكل السلطة الانتقالية في السودان، في وقت يشكل غياب المحكمة الدستورية تهدداً حقيقياً للانتقال في السوداني.
والمحكمة الدستورية هي الجهة المعنية بحراسة الدستور وحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كما أنها الجهة التي تفصل في دستورية القوانين والتشريعات لتتوافق مع الدستور، كما أنها تقوم بالفصل في النزاعات الدستورية التي تنشب في مستويات الحكم المختلفة، كما تعمل على حماية الحقوق الأساسية للمواطنين.
وأنشئت المحكمة الدستورية في السودان في العام 1989، وجدد إنشاءها بموجب الدستور الانتقالي للعام 2005. وشهد يناير من العام 2013 آخر تعيين لقضاة المحكمة الدستورية، انتهت ولايتهم بحلول يناير من العام الماضي.
وبحسب الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية في البلاد فإن تكوين المحكمة الدستورية يجب أن يُسبق بإجازة قانون مجلس القضاء العالي وتشكيله، فالوثيقة الدستورية تركت للمجلس مهمة اختيار أعضاء المحكمة الدستورية ليتم اعتمادهم عقب ذلك من قبل مجلس السيادة الانتقالي، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن.
اختصاصات المحكمة:
وتعتبر المحكمة الدستورية أعلى سلطة قضائية في الدولة، وهي الحارسة للدستور، ودساتير الولايات”. يقول المحامي وأستاذ القانون بجامعة الخرطوم، الرضي عبد الله، في مقابلة مع (عاين) ويضيف:” على المحكمة الدستورية ضمان تطبيق التشريعات والأوامر والأعمال التي تتم في الدولة وفقاً للدستور، مشيراً إلى أن إحدى المهام الرئيسية للمحكمة الدستورية هي تفسير الدستور حالة وجود خلاف حول معنى دستوري محدد، كما تقع عليها مهمة الفصل في النزاعات الدستورية التي يمكن أن تنشأ بين أجهزة الحكم المختلفة، بما في ذلك الفصل في أي نزاع يمكن أن ينشأ بين مجلسي السيادة والوزراء حول الاختصاصات والمهام، مشيراً إلى أن المحكمة مسئولة أيضاً عن حراسة الحقوق والحريات التي وردت في وثيقة الحقوق بالوثيقة الدستورية والفصل في دستورية القوانين، ورفع الحصانات عن الدستوريين ومحاكمتهم.
تأثير الغياب:
وكانت الوثيقة الدستورية منحت مجلسا السيادة والوزراء، عبر اجتماعهما المشترك سلطة التشريع لمدة ثلاثة أشهر إلى حين تكوين المجلس التشريعي الانتقالي. ويوضح عبد الله إلى أن المحكمة الدستورية هي الجهة المختصة بتفسير الدستور التي يُناط بها حسم الجدل المُثار حول سلطة التشريع الاستثنائية الممنوحة للمجلسين، هل هي سلطة ستمتد إلى حين تشكيل المجلس التشريعي أم هي سلطة مؤقتة.
واعتبر عبد الله أن المحكمة الدستورية حالة تكوينها يمكنها الفصل في اختصاصات أجهزة الدولة المختلفة وتحديد صلاحيات المجلس السيادي واختصاصاته مقارنة مع اختصاصات وصلاحيات رئيس مجلس الوزراء و مجلسه.
ويرى عبد الله أن قانون المحكمة الدستورية يخول لها النظر في الدعاوى المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان الواردة في فالوثيقة الدستورية، إلا أن غيابها يحول دون اللجوء إليها حالة حدوث انتهاك دستوري لأي حق وارد في وثيقة الحقوق مشيراً إلى أن غيابها يؤدي لحرمان المواطنين من الحق في التقاضي أمام المحكمة الدستورية.
وفي الفترات الماضية صدرت أحكام قضائية على مُدانين بارتكاب جرائم قتل ضد شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، إلا أنها لم تُنفذ، وفي ذلك يشير عبد الله إلى صعوبة تنفيذ هذه الأحكام لعدم إنشاء المحكمة الدستورية، موضحاً أنه عندما تقوم المحكمة العليا بإصدار أحكام نهائية بالإعدام، يتم اللجوء للمحكمة الدستورية عن طريق الطعن لدى المحكمة الدستورية لتقوم بالنظر فيه، كما تقوم بإيقاف تنفيذ أحكام الاعدام إلى حين الفصل في الطعون.
حقوق :
ويقول عبد الله أن الطعن لدى المحكمة الدستورية يستند على أن المحاكمة التي تمت للمدان غير مطابقة لمعايير المحاكمة العادلة الأمر الذي سيُعد انتهاكاً لحقوق الإنسان. ويوضح عبد الله بأن المحكمة الدستورية في هذه الحالة مهمتها التأكد من أن الأحكام الصادرة ضد المدان أو المدانين تتوافق مع معايير المحاكمة العادلة، مشيراً إلى عدم قابلية تنفيذ أحكام الاعدام الصادرة مؤخراً بسبب غياب المحكمة الدستورية.
وتابع عبد الله :أيضاً فإن المحكمة الدستورية تختص بالطعن في دستورية القوانين، مشيراً إلى أن النظام البائد سن العديد من القوانين التي تنتهك الحقوق وتعارض القواعد الكلية للدستور، والتي لا تزال سارية حتى الآن ولم يتم تعديلها بواسطة الاجتماع المشترك لمجلسا السيادة والوزراء، مع عدم وجود فرصة للطعن فيها لدى المحكمة الدستورية للعمل على إبطالها، موضحاً إلى أن هذه القوانين ستكون سارية لحين قيام المحكمة الدستورية أو تعديلها بموجب تشريع صادر من المجلسين.
قوانين بمشكلات دستورية:
خلال عامين من عمر الفترة الانتقالية قام مجلسا السيادة والوزراء الانتقاليين بإصدار عدد من القوانين والتشريعات التي بها إشكالات دستورية، يقول عبد الله الذي يمثل لهذه الانتهاكات الدستورية بقانون لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال معتبراً أن القانون أتاح للجنة مصادرة الملكيات الخاصة، في الوقت الذي نص فيه الدستور على عدم جواز المصادرة إلا عن طريق حكم قضائي، ويشير إلى عدم إمكانية الطعن في القانون لعدم وجود المحكمة الدستورية.
الرضي عبد الله: “هناك مشكلتين أساسيتين ينتجان عن عدم وجود المحكمة الدستورية، وهما وجود قوانين قديمة سارية غير مطابقة للدستور ويتم محاكمة المواطنين بموجبها وإصدار الحكومة الانتقالية لقوانين بها إشكالات قانونية ودستورية مع عدم إمكانية الطعن فيها، لعدم وجود المحكمة الدستورية.
رفع الحصانة:
يؤثر غياب المحكمة الدستورية على إمكانية رفع الحصانة الدستورية من أعضاء مجلس السيادة والوزراء وولاة الولايات، يقول عبد الله ويوضح بأن الوثيقة الدستورية الحاكمة أشارت إلى أن رفع الحصانة يتم عن أمام هيئتين هما المجلس التشريعي المحكمة الدستورية ومع تغييب الهيئتين فإن ذلك يجعل من الصعوبة محاكمة الدستوريين حالة ارتكاب أحدهم لجرم جنائي بسبب الحصانة التي تمنع المحاكمة.
من جانبه يؤكد رئيس اللجنة القانونية لقوى الحرية والتغيير، نبيل أديب على أن المحكمة الدستورية هي أهم محكمة في البلاد لأنها التي تقوم بحماية الدستور، كما تعمل على حماية الحقوق والحريات العامة، موضحاً أن كل من انتهكت حقوقه فمن حقه اللجوء إليها، لمنع هذا الانتهاك. ويوضح أديب أن للمحكمة الدستورية سلطة إلغاء القوانين المخالفة للدستور وتفسير النصوص الدستورية بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء، وحق الفصل في المنازعات بين الدساتير والقوانين المختلفة داخل السودان.
وأكد أديب على أن هذه الاختصاصات تنبع أهميتها في حماية الدستور والمواطنين ضد أي تغول للسلطة التشريعية أو التنفيذية. موضحاً أن غياب المحكمة الدستورية يؤثر على الأفراد العاديين حالة حدوث خرق لحقوقهم الدستورية، فمع عدم وجود المحكمة الدستورية لا يستطيع الأفراد اللجوء للمحكمة الدستورية لحماية حرياتهم كما لا يستطيعون الطعن في مدى دستورية أي قانون
وقال أديب في مقابلة مع (عاين) أن دور المحكمة الدستورية في الفترة الانتقالية يتمثل في ترسيخ الحريات والحقوق العامة، معتبراً أن الانتقال يقوم على اتاحت الحريات العامة مثل حرية التنظيم والتعبير و حرية الصحافة بالإضافة إلى جميع الحريات التي تتحقق في المجتمع الحر، خاصة في أعقاب تحول السودان من نظام مُستبد إلى نظام ديمقراطي، مُشيراً إلى أن المحكمة الدستورية هي التي تعمل على حماية هذا التحول بالوقوف ضد تغول السلطة. موضحاً أن البلاد تحكم الآن من خلال سلطة انتقالية غير منتخبة مما يزيد من أهمية المحكمة الدستورية التي تعمل على منع “جنوح السلطة القائمة.
وأشار أديب إلى أن الوثيقة الدستورية لم تتعرض لتكوين المحكمة الدستورية إلا أنها تركت لمجلس القضاء العالي الذي لم تنص على تشكيله أيضاً، لأنها تركت الأمر لقانونه الذي لم يتم إصداره بعد، وبالتالي لا توجد طريقة أخرى لتكوين المحكمة الدستورية.
ويتفق أديب مع ضرورة تكوين المحكمة الدستورية قبل تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة ضد المدانين بأحكام إعدام ، معتبراً أن الحكم بالإعدام إذا كان خاطئاً فسيعتبر خرقاً لمبدأ الحق في الحياة الذي يُعد من أهم الحقوق الدستورية، مشيراً إلى أن دولة القانون لا تفعل ذلك.
نبيل أديب :”بما أن المحكمة الدستورية غير قائمة فلا يجوز للسلطة أن تنفذ حكماً بالإعدام إلا إذا لم يتقدم ” المضرور” بطعن دستوري، ويؤكد على ضرورة أن يُحظى أي حكم بالإعدام بفرصة المراجعة الدستورية.
ويوضح أديب بأن مصلحة الحكومة تتمثل في تكوين المحكمة الدستورية، مشدداً على ضرورة العمل على الالتزام بأحكام الدستور، مشيراً إلى أن عدم الالتزام بالدستور سيقود إلى أن يلجأ الشعب للعصيان وهو الأمر الذي لن ترغبه الحكومة. وأضاف أديب :” أي حكومة تبحث عن الاستقرار وهو لن يتم ما لم تعمل على أن تكون قرارتها مقبولة لدى الشعب، مُعتبراً أن الدستور هو الذي يحدد كل ذلك.
ويرى أديب أن الحكومات التي لا تحترم الدستور تعمل على حفر “قبرها بيديها” وفقاً لهذا المبدأ فإن أي حكومة لديها مصلحة أكيدة في احترام الدستور، فالحكومات التي لا تحترم الدستور تعمل على حفر قبرها بيديها. من جهته يرى المحامي والناشط الحقوقي، صالح محمود، أن للمحكمة الدستورية دوراً كبيراً في تنفيذ مبدأ الفصل بين السلطات.
ويرى صالح في مقابلة مع (عاين) أن أحد واجبات المحكمة الدستورية يتمثل في حماية الحقوق الدستورية التي وردت في المواثيق والعهود الدولية المختلفة التي وقعت عليها حكومة السودان، وتم تضمينها في وثيقة الحقوق، ويشير صالح إلى أن هذه الحقوق مستنبطة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان بالإضافة للعهود الدولية المختلفة بخصوص الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، مؤكداً على إن المحكمة الدستورية تُعد الحارس والضامن للتمتع بهذه الحقوق.
صالح محمود: تغييب هياكل السلطة الانتقالية يجعل من الحكومة الانتقالية أشبه بالنظام الشمولي أو العسكري.
وبالنسبة للوضع الماثل الآن في السودان فيعتقد صالح أنه يُعد “وضعاً مخلاً” لانتفاء مبدأ الفصل بين السلطات، مشيراً إلى أن المؤسسة التنفيذية ممثلة في مجلسي السيادة والوزراء ظلا يقومان بأدوار تشريعية منذ نجاح ثورة ديسمبر المجيدة، وهو أمر غير مقبول.
وأكد صالح على وجود قضايا بحاجة لتدخل المحكمة الدستورية مثل العديد من القوانين التي أجازها الاجتماع المشترك للمجلسين، في الوقت الذي كان يجب أن تُجاز بواسطة المجلس التشريعي ،موضحاً أنه بعد انتهاء الفترة المقررة لتكوين التشريعي فإن القوانين المجازة ليس لها سنداً دستورياً لها، مشيراً إلى أن الطعن في هذه القوانين يتطلب إنشاء المحكمة الدستورية المُغيبة.
ويرى صالح أن التأخير في تشكيل المحكمة الدستورية مقصود ومخطط له مُسبقاً لأسباب سياسية، ويشير إلى أن اغلب القوانين التي تمت إجازتها من قبل المجلسين عُرضة للطعن، لعدم اجازتها من الجهات التشريعية المعنية.