حصار الأبيض.. الحياة تستحيل على العالقين بالمدينة
عاين- 9 يناير 2025
لأكثر من عام ونصف تفرض قوات الدعم السريع حصاراً مشدداً على مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان أواسط السودان، على المداخل الرئيسية التي تربط مدينة الأبيض بمعظم مدن البلاد ما انعكس سلبًا على سكان المدينة العالقين، ووضعهم تحت أوضاع إنسانية قاهرة بعد انهيار القطاعات الاقتصادية والمعيشية بجانب الصحة والتعليم والخدمات الحيوية.
“يتساقط سكان مدينة الأبيض ضعفاً لانعدام الغذاء والدواء، وبعد أن أغلقت قوات الدعم السريع كل الطرق الحيوية، ولا تسمح بدخول المساعدات الإنسانية وتمنع شحنات الغذاء والدواء من المرور دون رسوم مالية باهظة قد تفوق سعر البضاعة نفسها”. تقول نعمة الشفيع، من سكان حي الجلابية في الأبيض، وتضيف في مقابلة مع (عاين):” لا تنحصر معاناتنا على الوضع الأمني والقصف من وقت لآخر، بل تفاقم الوضع ونحن محاصرون بالجوع والمرض لا يوجد عمل مستقر، ونحن من دفعنا ثمن هذه الحرب”.
توفي شقيقي بسبب انعدام العلاج ووالدتي تحتاج إلى عملية عيون
مواطنة من حي الجلابية بالأبيض
وتتابع: “معي والدتي تحتاج إلى عملية عيون، توفي شقيقي بسبب انعدام العلاج ووالدي لديه مركبة عامة، ولكن لا يوجد عمل، وحركة المواصلات قليلة حتى نتمكن من التنقل ومعظم الأطفال مصابين بالمرض، ولم نتمكن من إرسال أبنائنا للمدارس لسنتين لعدم الدخل الكافي والرجال في حالة بطالة عن العمل”.
الواقع الاقتصادي والمعيشي:
اقتصاديا، تشهد أسعار السلع الغذائية ارتفاعا كبيرا؛ بسبب الحصار المفروض على المدينة منذ وقت، وتقول التاجرة بسوق الأبيض، سمية عثمان لـ(عاين): “الوضع في السوق تبدل تماماً بعد حصار قوات الدعم السريع للأبيض، نعمل طوال اليوم، ولكن الركود يسيطر على السوق بسبب ارتفاع الأسعار وقلة الطلب”.
ورغم ضعف الدخل اليومي، تضطر سمية للعمل لتعول أسرتها، ولم يعد والدها الذي يعمل مزارعا قادراً على الذهاب إلى مزرعته التي تقع في منطقة يسيطر عليها الدعم السريع، وحاول في هذه الظروف الأمنية والاقتصادية بالغة الخطورة أن يزرع، ولكنه تعرض لمضايقات، ولم يعد الذهاب إلى هناك أمنا، ويجد صعوبة كبيرة في إدخال المحاصيل إلى المدينة.
وترى سمية، إن الوضع أفضل من مناطق أخرى، وتحاول التعايش مع الواقع الذي فرض عليهم، وتأمل أن تُفتح الشوارع، وتنساب البضائع وحركة والمواصلات.
واتجه معظم العاملين في القطاع الحكومي بمدينة الأبيض وهم الشريحة الأكبر بعد الحصار إلى مزاولة مهن اضطرارية أن توفرت، بعد أن فقدوا مصدر دخلهم الأساسي وانقطاع رواتبهم على قلتها منذ اندلاع الحرب.
70% من سكان مدينة الأبيض لجأوا إلى زراعة بعض الخضروات أمام منازلهم
نقابي
ويؤكد رئيس التجمع النقابي بولاية شمال كردفان، عبد الوهاب أحمد هاشم، أن الموظفين هم الشريحة الأكثر تضرراً؛ لأنهم يعتمدون على دخلهم الشهري، وانقطعت المرتبات في ظل الحرب ويعانون الفقر لأكثر من خمسة عشر شهراً، وأصبحوا في خانة المعدمين، وبحثاُ عن حلول اتجهوا إلى المهن الاضطرارية كبدائل، وهذا غير متاح بسبب حصار المدينة.
وقال هاشم في مقابلة مع (عاين): “هذا أطول حصار اقتصادي أدى إلى انعدام السلع، وأصبح العرض والطلب غير متكافئين والأسعار عالية بشكل يفوق قدرة السكان على التعاطي مع السوق بهذا الوضع، إذ وصل كيلو اللحم إلى (16) الف جنيه وملوة الذرة (14) الف جنيه البقوليات أصبحت غالية، ولا يمكن شراؤها، ويعتمد عليها السكان كغذاء رئيسي في ظل هذا الحصار”.
ويصف هاشم وضع العاملين بالدولة بالعطالة المقنعة التي أفرزتها الحرب رغم هجرة عدد كبير من المعلمين والمعلمات، ولكن لا يوازي عدد الذين بقوا في الأبيض، وهناك عدد كبير من العاملين في القطاع الحكومي والمعلمين وفدوا إلى الأبيض هاربين من الحرب في الخرطوم ومدني ودارفور، وزاد تكدس العطالة بشكل أكبر، وفيما يخص مؤسسات الدولة انخفض العمل بنسبة 50% وانخفضت العمالة معه.
وبحسب هاشم أن 70% من سكان مدينة الأبيض لجأوا إلى زراعة بعض الخضروات أمام منازلهم بجانب تصنيع الصابون داخل المنازل؛ بسبب غلاء الأسعار والحصار الطويل، وطال وزارة الزراعة بتطوير هذه المبادرات الصغيرة ودعمها، حتى تساهم في تخفيف المعاناة، ويعتقد أن صمود مواطنين الأبيض وعدم نزوحهم سببا في عدم احتلال المدينة وغالبية السكان من العمال ذوي الدخل المحدود ومجبرين علي البقاء.
تعطل المشاريع الزراعية
توقف أكبر مشاريع التنمية والإرشاد الزراعي في مدينة الأبيض؛ بسبب الحصار الذي شل حركة المزارعين، وتسبب في شح إنتاج الحبوب التي يعتمد عليها سكان المدينة كمصدر رئيسي للغذاء، وتوضح الموظفة في وزارة الزراعة، عفراء محجوب صالح، بسبب الحصار تمكن عد قليل المزارعين من الحصول على التقاوي، وواجهوا مشكلات أخرى في توفير مدخلات الزراعة من معدات وأسمدة، وخرج أصحاب المشاريع الكبيرة من دائرة الإنتاج لصعوبة الوصول إلى مشاريعهم خارج المدينة.
دخول المحاصيل إلى مدينة الأبيض أصبح مشكلة، وقد تُصَادَر أو تطالب قوات الدعم السريع بمبالغ مالية أعلى من قيمتها لتمريرها
موظفة حكومية
وقالت صالح في مقابلة مع (عاين): “بعد الحصار لم نستطع مساعدة المزارعين والمهندسين الذين حاولوا الخروج إلى العمل في هذه الظروف تعرضوا إلى النهب والضرب وتأثر الإنتاج بشكل كبير، على الرغم من نجاح الخريف، وأنتجت القليل من المحاصيل، ولم يتمكنوا من ترحيلها إلى مناطق الاستهلاك، وتعرضوا للتهديد ومنعوا من التخزين في المخازن، واضطروا إلى التخزين في منازلهم ما قد يعرض المحاصيل إلى التلف والآفات”.
وتصنف مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان من أكبر المدن إنتاجا للماشية والحبوب والصمغ العربي، وتمتلك أسواقا تجارية ضخمة للمحاصيل المنتجة محلياً، ومن مختلف أنحاء السودان.
وفقاً لصالح، فإن دخول المحاصيل إلى مدينة الأبيض أصبح مشكلة قد تُصَادَر أو تطالب قوات الدعم السريع بمبالغ مالية كبيرة لتمريرها قد تكون أعلى من قيمتها، وبات الناس يعتمدون على القمح؛ لأنه أقل سعرا من الذرة في الوقت الحالي، وزادت: “راتبي (53) الف جنيها فقط، وصرفته ثلاث مرات فقط من بداية الحرب، توقف زوجي الذي يعمل تاجراً في السوق عن العمل، وأضررت إلى مزولة أي مهنة أجدها أمامي لأتمكن من تعليم أبنائي في ظل الغلاء الطاحن؛ بسبب الحصار الذي طال أمده، وساءت الأوضاع إلى حد بعيد، وانعدمت الخدمات كلها”.
تخريب يطال مرافق الخدمات
بحسب عفراء محجوب صالح، فإن التخريب طال مولدات المياه والكهرباء، ومرضى السكر لا يستطيعون تخزين الإنسولين يشتري المواطنون الواح الثلج يوميا لحفظ الدواء، ولا توجد سيولة مالية، بجانب انعدام شبكة الاتصالات وعزلهم عن العالم لا يعرفون ما يحدث خارج أحيائهم، ولا تدخل الخضروات والألبان واللحوم إلى المدينة، وصل الحصار إلى مرحلة قاسية على سكان الأبيض الذين يجبرهم كبار السن وعدم القدرة لتحمل نفقات السفر والنزوح على البقاء وسط الحصار.
الأسرة تحتاج إلى (2000) جنيه يوميا كحد أدنى لتوفير مياه الشرب
مواطنة من مدينة الأبيض
فيما تؤكد المهندسة المعمارية سلمى ميرغني بشير، أن الأسرة تحتاج إلى (2000) جنيه يوميا كحد أدنى لتوفير مياه الشرب جراء الحصار، وتضاعفت أسعار السلع وصل رطل السكر (4000)، سعر البيضة الواحدة (500) والفحم شبه معدوم يقطع السكان الأشجار التي أمام منازلهم لطهي الطعام للأطفال، توقف المرتبات أثر في تعليم الأطفال ومصاريف المواصلات والشبكة غير موجودة لفتح حسابتنا البنكية تكاثرت الأمراض بعد الحصار، وبلغ سعر حقنة الملاريا في السوق الأسود (15000).
المدارس للسكن والتعليم
بعد اندلاع الحرب توقفت الدراسة في مدينة الأبيض سنة وأربعة أشهر على حد قول، أستاذة المرحلة الثانوية، سبنة يوسف البشرى، وتحولت المدارس إلى مراكز إيواء، وتزاحم الطلاب وقاطنو المدارس من النازحين، عندما يأتي الطلاب صباحا للدراسة تخرج الأسر النازحة من الفصول ليدرس الطلاب، ويعودون إليها بعد نهاية اليوم الدراسي
وتشير البشرى إلى أنهم يدرسون التلاميذ نصف يوم حتى لا يصبح الطلاب فاقداً تربوياً، وتقول في مقابلة مع (عاين): “طلبت وزارة التربية والتعليم استئناف الدراسة، رغم معرفتها أن البيئة غير صالحة وتجاوبنا مع ذلك من ناحية إنسانية بدون مقابل”.
أكاديميا، تقول سبنة أن مستوى الطلاب متدن ووضعهم النفسي سيئ، وتسرب عدد كبير من الطلاب، وتركوا الدراسة بسبب عدم قدرة الأسر على تحمل نفقات التعليم، يوجد دعم نفسي في بعض المدارس بشكل جزئي، رغم أنه مطلوب بشكل كامل، ولم يعد للطلاب اهتمام بالجانب الأكاديمي، وأثرت الحرب في تركيز الطلاب بشكل كبير سيما الطالبات.
ويتفق عبد الرحمن إبراهيم عبد الرحيم، معلم في القطاع الخاص، مع سبنة في مساهمة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية في تراجع التعليم بمدينة الأبيض، وأثر الحصار بصورة كبيرة جدا في شح المعينات، ويواجه قطاع التعليم تحديات معقدة لارتباطه بالخدمات كلها، ولكنهم في الوقت الحالي يوظفون المتاح لمواصلة التعليم، وقد أجبرت الأوضاع القاسية التي تسبب فيها الحصار الطلاب بالانخراط في العمالة بدلا عن الدراسة.
مصادرة الدواء
توقفت معظم المستشفيات والمراكز الصحية في المدينة عن العمل لعدم توفر المعينات والأدوية وقطوعات المياه والكهرباء، وترتفع تكاليف العلاج في العدد القليل الذي لا يزال في الخدمة من المستشفيات.
الصيدلانية في المدينة، سلوى، تؤكد أن حصار الأبيض تسبب في شح الأدوية ومضاعفة أسعارها، حيث تقوم قوات الدعم السريع بدفع رسوم مالية أو مصادرة الأدوية، وبعد أن تضاف هذه التكلفة على سعر الدواء يصبح غاليا خاصة علاج الأمراض المزمنة. وتشير سلوى في مقابلة مع (عاين) إلى عدم توفر دواء الأنسولين وأدوية السكري الأخرى، وعندما تأتي دفعة دواء يتم البيع بالقطاعي مراعاة لظروف السكان الاقتصادية، ويستغرق وصول الدواء أكثر من شهر في أغلب الحالات، وتتضاعف قيمته إلى ثلاث مرات، غير أنهم لا يعلمون ظروف التخزين التي وضع فيها الدواء.