عطــــــــبرة.. قصـــــــــــة مـــــــدينتين

28 مايو 2022

لا يجد عثمان علي- أحد سكان حي الداخلة في مدينة عطبرة- وصفا أكثر دقة للنشاط الاجتماعي والاقتصادي الذي نتج عن عمليات تنقيب الذهب في المنطقة سوى “التنقيب الجائر” في دلالة للعشوائية والتاثير السلبي على النشاط المديني والاقتصادي والاجتماعي في مدينة عطبرة التاريخة شمالي السودان والذي شكلته مؤسسات كالسكة حديد والمصانع ومن بعد نقابة عمال السكة حديد والجمعيات التعاونية إلى مؤسسة النادي التي تنتشر في جميع أحياء المدينة.

مع تصاعد إنتاج الذهب بالوسائل التقليدية والحديثة المختلفة من قبل سكان الأرياف حول المدينة، بدأت مدينة أخرى تتخلق ووجد سكان المدينة القديمة أنفسهم غرباء عن أنشطتها الاجتماعية والاقتصادية الجديدة.

تقع مدينة عطبرة في ولاية نهر النيل، وتبعد عن العاصمة الخرطوم بحوالي 310 كيلو متر  وضمت رئاسة السكة حديد بالسودان والتي تمثل نقطة تلاقي خطوط السكك الحديدية التي تربط عاصمة السودان الخرطوم بموانئه الرئيسية.

وولاية نهر النيل التي تقع فيها مدينة عطبرة واحدة من أكبر الولايات التي تحتوي ارضها على ثروات معدنية هائلة، وانتشر التعدين التقليدي عن الذهب في عدد من الاودية القريبة من المدينة ونشأت أسواق للتعدين في قريبة من مركز المدينة كسوق دار مالي وسوق العبيدية وابوحمد.

ملامح المدينة يلاحظ أنها آخذة في التغيُر، المعمار السكني والتجاري يتطاول وسوق المدينة يتمدد والاسعار به في غلاء متزايد بسبب الاثرياء الجدد الذين لجأوا إلى المدينة حديثا.

“ارتفعت الاسعار في الأسواق والأراضي وكذلك ارتفعت ايجارات المنازل والمواد الغذائية وهناك ضغط على الخدمات التعليمية والصحية الشحيحة”. يقول عثمان علي في مقابلة مع (عاين) ويضيف:”اضطر الكثيرون لبيع منازلهم عشان يمشوا يشوفوا ليهم نشاط تاني غير الذي اعتادوا عليه بسبب مصدر دخلهم المحدود وعائدئهم من راتب الشهري للوظيفة في اي مؤسسة حكومية أو مدنية أخرى”.

يقول خالد الأمين (50) عاماً انه اضطر الى ترك وظيفته الحكومية والتوجه للعمل في سوق العقارات بالمدينة التي ظلت تشهد تحولات ونشاط اقتصادي على اثر عمليات إنتاج الذهب في مناطق قريبة من المدينة.

تخلي الأمين، عن وظيفته الحكومية يقول انه ضروري لتغطية نفقات عائلته الصغيرة التي ارتفعت بعد تغير الخريطة الإقتصادية لمدينة عطبرة  وظهور التعدين الذي حول المدينة العمالية الى مدينة تجارية يرهق سكانها  غلاء الأسعار ولجوء الكثيرين للعمل في مهن إضافية لمجابهة الواقع الاقتصادي الجديد.

ويقول الأمين في مقابلة مع (عاين)، ” اقتحمت سوق العقارات في مدينة عطبرة سيما بعد دخول التعدين كمصدر دخل عالي للكثيرين”. ويضيف” نستهدف شريحة المعدنين نبيعهم السيارات والاراضي باعتبار انها الفئة التي في يدها الاموال، ولكن يوجد تضخم والاسعار عالية ولا يعد الأمر حكراً على مدينة عطبرة وحدها بل يشمل كل مدن السودان  التى يعد التعدين واحداً من الانشطة التجارية فيها”.

وبما ان مدينة عطبرة مركز للتجارة والتعليم والصحة يفضل معظم  الأشخاص الذين يعملون في التعدين الاستقرار  في المدينة وفقا لخالد الأمين.

على الرغم من التوسع العمراني الذي يبدو واضحاً على معالم المدينة الا انه لم يطمس الهوية المدينة القديمة والملاحظ أن العمال في المدينة لا يزالون يحافظون على شكل حياتهم اليومي الذي اعتادوا عليه قبل أن تضج المدينة بالسكان والمركبات والحركة، اذ ان القهاوي القديمة لايزال جزءً منها في السوق يمتلئ بفئات عمرية مختلفة وبعض الاندية الثقافية .

“قبل دخول التعدين كان سكان المدينة العمالية يعيشون حياة بسيطة ويعتمدون على الدراجات الهوائية كوسيلة تنقل داخل المدينة اذ انها كانت محصورة ويعرف الناس بعضهم ويعملون في مصالح حكومية مختلفة السكة حديد والشرطة والجيش” يصف عمر احمد علي البشير، من سكان حي الداخلة العريق الحياة قبل تاثير التعدين على النشاط الاقتصادي الجديد في المدينة.

لكنه -وبحسب البشير-  تغيرت الظروف الاقتصادية وأصبحت صعبة، بعد العام 2011 مع ظهور التعدين بدأ المواطنين في زيادة مصادر دخلهم والعمل في السوق، وبات من الصعب على رب الاسرة تغطية صرف البيت وحده ما اضطر الشباب للعمل في التعدين لتحسين أوضاع أسرهم المعيشية.

تدارك

حيال هذه الاوضاع الاقتصادية الجديدة على سكان مدينة عطبرة، يقول عثمان علي لـ(عاين)، ان شباب لجان المقاومة لجأوا الى جمعيات شبه تعاونية وعمدوا على إنشاء أسواق خيرية تخفض أسعار المواد الاستهلاكية.

فيما  يعتبر عمر علي البشير، أن ترقية الخدمات في مدينة عطبرة مسؤولية المحليات، عبر إنشاء شركات مساهمة عامة لدعم السلع الضرورية، ولدينا في عطبرة (6) مصانع اسمنت تنتج (18000) طن في اليوم تستفيد منها قلة من مواطنين عطبرة، لذلك تطبيق المسؤولية الاجتماعية يساعد في إكتفاء المدينة من كل النواحي الخدمية، لكن الامر يحتاج الى تخطيط وتوجيه سليم للموارد.

عطبرة أخرى

ظهرت أحياء جديدة وامتدادات للأحياء القديمة في مدينة عطبرة  بعد التعدين الذي نقلها من مدينة عمالية محدودة الى مدينة منفتحة تجارياً واحدث تأثير في الأسعار، وبحسب عبدالله محمد، الذي يعمل تاجرا بسوق عطبرة، ان راس المال موجود بحوزة اكبر فئتين التجار و المعدنين مقارنة بالقطاع العمالي ومحدودية دخله، لكن أصحاب المهن والحرف بالمنطقة الصناعية والمتعاملين في السوق كل يزيد سعره حسب مجاله  وزادت القوة الشرائية من الفئات المختلفة في السوق وهذه الزيادة ليست حكرا على المعدنين .

ويقول عبد الله، لـ(عاين)، ان التوسع الخدمي لا يناسب التوسع العقاري سيما الخدمات الاساسية المياه والكهرباء التى تشهد تردي كبير، ولكن من ناحية عمرانية عطبرة استفادت من دخول التعدين في الخدمات الخاصة مستشفيات وفنادق واشياء اخرى .

لن نتركهم

يرى الناشط المدني والأستاذ الجامعي المساعد ، أنور ابراهيم احمد، ان مدينته التاريخية والتي عرف عن سكانها وعيا نقابيا وسياسيا وثقافيا في وقت مبكر تواجه مد مجتمعي جديد بنشاط اقتصادي انتج مدينة جديدة ولم تعد الراسمالية القديمة هي التي تسيطر.

ولا يبدو ابراهيم قلقا كغيره من سكان المدينة الذين تحدثت إليهم (عاين) من التحولات التي تشهدها مدينته، ويقول ان من “وفدوا إلى عطبرة من أريافها جاءوا بغرض العيش في مجتمع مديني تتوفر  فيه الخدمات الأساسية من صحة وتعليم”.

ويشير إبراهيم في مقابلة مع (عاين) إلى أن المدينة لم تعرف من قبل المدارس الخاصة، لكن الآن المدارس موجودة بكثافة خاصة في الأحياء الجديدة كحي المطار، وهذا يدل على أن الوافدين يرغبون في تعليم جيد لابنائهم.

ويعيب الناشط المدني، على اثرياء هذه الأحياء عدم انخراطهم في النشاط المدني وعدم رعايتهم للاندية الثقافية والرياضية والاجتماعية التي عرفت بها المدينة، لكن مع ذلك يبدي ابراهيم تفاؤلا في المدينة ستزحف اليهم ويقول “لن نتركهم في عزلة”.