الجيش والمشتركة.. علاقة متأرجحة تديرها المصالح
عاين- 19 يونيو 2025
محطات من التأرجح تروي مسيرة العلاقة بين الجيش السوداني، والقوة المشتركة للحركات المسلحة منذ انخراطها في القتال إلى جانبه في حربه ضد قوات الدعم السريع، تلك الفترة تخللتها خلافات مكتومة وعلنية بين الطرفين، بلغت ذروتها هذه الأيام مع قرب إعلان تشكيل وزاري جديد في حكومة بورتسودان.
وفي كل الحالات كانت الامتيازات السلطوية قاسماً مشتركاً في الخلافات، إذ ترفض الحركات، لا سيما حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي، المساس بحصتها التي أقرتها اتفاقية جوبا للسلام، في الحكومة.
وبحسب مصدر مقرب من رئيس الوزراء كامل إدريس تحدث مع (عاين)، فإن تمسك حركتي جبريل ومناوي بوزارتي المالية والمعادن، كان أحد أبرز أسباب تأخير التشكيل الوزاري لأكثر من شهر من تعيين إدريس، الذي كان ينوي إسناد الوزارات الاقتصادية إلى كفاءات يختارها هو، لاعتقاده بأنها تشكل أساساً لنجاح حكومته.
ووفق المصدر، فإنه تم التوافق على عودة رئيس حركة العدل والمساواة د. جبريل إبراهيم وزيراً للمالية، بعد مشاورات واسعة بين الحركة ورئيس الوزراء كامل إدريس وقادة الجيش، بعدما أوشك المنصب التسبب في فض الشراكة بين الطرفين.
وقال المصدر: إن “المشاورات تجري مع حركة جيش تحرير السودان قيادة مني أركو مناوي، لمنحها وزارة أخرى غير المعادن التي يتمسك رئيس الوزراء وجهات عسكرية من خلفه بها، فرفضت الحركة كل الخيارات التي عرضت عليها ومن بينها عدة مفوضيات، وإعطاء مناوي دور أكبر وإضافي في الجهاز السيادي والتنفيذي، بالإضافة إلى مركزه كحاكم لإقليم دارفور”.
عقبة المعادن
وذكر مصدر من حركة تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي شارك في مفاوضات التشكيل الوزاري الحالي لـ(عاين) أنهم توافقوا بنسبة 80 بالمئة على احتفاظ حركته بوزارة المعادن إنفاذا لاتفاقية سلام جوبا.
ويقول: “جرت العديد من اللقاءات بيننا ورئيس الوزراء الجديد والعسكريين خلال الأيام الماضية، لقد طرحوا لنا عدة خيارات كبديل لوزارة المعادن، لكنهم وافقوا على احتفاظنا بها في التشكيل الوزاري القادم، وهو استحقاق نتمسك به بشدة”.
ويضيف المصدر من حركة مناوي: “لقد اكتشفنا نوايا ومحاولات لصعود قوى عسكرية جديدة على حساب القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، وفق خطة تعكس العقلية التاريخية لقوى المركز، لكن ربما تتأخر هذه المساعي عقب التطورات العسكرية والميدانية الأخيرة في كردفان والصحراء والفاشر، والتي تعزز من دورنا في المرحلة القادمة.
جذور الخلاف
وبدأ الخلاف والشد والجذب بين الجيش والحركات المسلحة بعد أشهر قليلة من مشاركتهم في السلطة الانتقالية بموجب اتفاق جوبا، وذلك بعد اعتراضات مستمرة لهم على تأخير إنفاذ بند الترتيبات الأمنية بإعادة دمج القوات، وهي كانت تتهم الاستخبارات العسكرية بعرقلته.
وبعد اندلاع الحرب في يوم 15 أبريل 2023م بين الجيش وقوات الدعم السريع، اتخذت جميع الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في السودان موقف الحياد، لكن حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي، وبعض فصائل حركة التحالف السوداني، قررت الانحياز والقتال بجانب الجيش في نوفمبر 2023م.
ولم يمض طويلاً ظهرت بوادر خلاف مكتومة بين الطرفين، تصاعدت وتيرتها في سبتمبر من العام 2024 بالتزامن مع بداية تقدم الجيش ميدانيا في العاصمة السودانية الخرطوم، بعدما أقال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، عضو حركة العدل والمساواة محمد علي مصطفى شرف الدين من منصب المدير العام لديوان الضرائب.
ووقتها أبدى جبريل إبراهيم غضبه على إعفاء مدير الضرائب المقرب منه والقيادي معه في التنظيم، باعتبار أن ديوان الضرائب أحد أهم المؤسسات الحكومية التي أسندت إدارتها إلى حركة العدل والمساواة وفق تفاهمات تبادل السلطة بين الأطراف الشريكة في الحكومة التي يقودها الجيش في السودان.
غضب جبريل إبراهيم، صاحبته حملة مضادة انخرط فيها عناصر حزب المؤتمر الوطني المحلول، ضد القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح والتقليل من دورها العسكري في الحرب الحالية، وأنها تسببت في خسارة العديد من المعارك العسكرية مع قوات الدعم السريع في محاور مصفاة الجيلي شمالي العاصمة، والفاو بشرق السودان، نتيجة انسحاب غير منظم، تلك الاتهامات نفتها القوة المشتركة في حينها، وأكدت فاعليتها في المعارك.
وتطورت الخلافات بين الجيش القوة المشتركة عقب انسلاخ قائد قوات درع السودان أبو عاقلة كيكل من قوات الدعم السريع والانضمام إلى الجيش في أكتوبر من العام 2024م، وتفجر ما يشبه التنافس العسكري بين كيكل وحركات المسلحة على إثبات الأدوار الميدانية لكل فصيل، وهاجم جنود من درع السودان، جيش حركة تحرير السودان خلال مقاطع مصورة، لكن مني أركو مناوي نفى خلال تصريح في مايو من العام الحالي، وجود خلاف بين المشتركة ودرع السودان.
ولم يمض طويلا من انضمام كيكل إلى الجيش، جرى نشر قوات الأورطة الشرقية التي يقودها الأمين داوود في عدة مواقع في شرق السودان في نوفمبر من العام 2024م، في خطوات فسرت وقتها بأنها تأتي ضمن مخطط لإحلالها مكان القوة المشتركة لحركات المسلحة، وسحب الأخيرة من وسط البلاد إلى غربها.
وبالتزامن مع ذلك أطلق كتاب صحفيون معروفون بولائهم إلى حزب المؤتمر الوطني السابق، حملة أخرى ضد القوة المشتركة، وزعموا أن قادتها جبريل ومناوي طالبوا بنصف مقاعد الحكومة، ومبلغ 75 مليون دولار أمريكي لشراء عتاد عسكري، مقابل الاستمرار في القتال مع الجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع، الأمر الذي نفته القوى المشتركة في حينه.
لكن تراجع زخم الأورطة الشرقية بعد نحو شهرين من الإعلان عن نشرها في شرق السودان، مقابل صعود كبير لقوات درع السودان، وكتائب البراء بن مالك، وتصدرت المشهد العسكري بعد استعادة الجيش السيطرة على ولايتي الجزيرة وسنار في وسط البلاد في يناير الماضي، والعاصمة الخرطوم في أبريل المنصرم.
توازن السلطة
ومنذ مارس الماضي، بدأت القوة المشتركة التوجه غرباً بعد انتهاء المعارك في وسط البلاد، وتصاعدت المعارك بينها وقوات الدعم السريع في ولايتي غرب وجنوب كردفان ومحور الصحراء في المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر.
ولأول مرة منذ مشاركتهم بموجب اتفاق جوبا للسلام، أعفى رئيس الوزراء كامل إدريس وزراء الحركات المسلحة من الوزارات الأربع التي خصصت لهم وهي المالية، المعادن، الرعاية الاجتماعية، الطرق والجسور، وكان في السابق يُسْتَثْنَوْن من الإعفاء في حل الحكومات السابقة بغرض إعادة تشكيلها.
تلك الخطوة، قابلها الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة معتصم أحمد صالح، بغضب شديد إذ قال في تصريح صحفي إن حل الحكومة بالكامل، بما يتضمن وزراء الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، مخالفاً لاتفاق جوبا لسلام السودان، ويتجاوز الضمانات المتفق عليها دوليًا.

وحذر من أن حل الحكومة لا يمس فقط بتوازن السلطة الذي أرساه الاتفاق، بل يهدد مصداقية الالتزامات تجاه أطراف السلام، ويضعف الثقة بمسار الانتقال السياسي، ورأى أن هذه الخطوة ستؤثر في تماسك الجبهة الداخلية في ظلّ ظرف بالغ التعقيد، مشيرا إلى أن الفقرة الثالثة من المادة رقم (8) من اتفاق جوبا لسلام السودان تشكل ضمانة قانونية وسياسية لاستقرار مواقع أطراف العملية السلمية داخل مؤسسات الحكم حتى نهاية الفترة الانتقالية.
بينما قال رئيس حركة العدل والمساواة في مقابلة مع قناة الجزيرة القطرية مطلع الأسبوع الحالي، إن “مقاعد وزراء الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، لا يمكن تغييرها وهي حق حصري للحركات المسلحة حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وذلك استنادا إلى المادة 8/3 من بروتوكول القضايا الأمنية من اتفاق جوبا”.
وربما انعكست الخلافات حول السلطة على الوضع العسكري الميداني، إذ خسر الجيش والقوة المشتركة السيطرة على الخوي في ولاية غرب كردفان، والدبيبات والحمادي في جنوب كردفان، كما خسرا السيطرة على المثلث الحدودي الاستراتيجي وجبل العوينات، وعدة مواقع في محور الصحراء وسط تراجع للأوضاع الأمنية في الفاشر.
وقف حوافز المستنفرين
وبحسب مصدر محلي بالفاشر تحدث مع (عاين) إن الجيش بدأ منذ شهر الخروج بنفسه للتصدي إلى هجمات قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، وهي حالة نادرة منذ اندلاع الحرب في عاصمة ولاية شمال دارفور، إذ كان المستنفرون والقوة المشتركة يقومون بهذه المهمة طوال الفترة الماضية، وفقد الجيش عدد من الجنود والضباط، بينهم الرائد أحمد علي الفاضلابي الذي قتل خلال معارك الأسبوع الماضي.
ويعود السبب وفق المصدر إلى مغادرة عدد من المستنفرين وقادة المقاومة الشعبية خاصة الذين كان يتولون مهمة الدفاع عن الفاشر من الاتجاه الجنوبي، إلى كرنوي وأمبرو بعد تسليم أسلحتهم، وبرروا ذلك بـأوضاع أسرية واقتصادية، وذكر المصدر أن الجيش أوقف حوافز مالية كان يرسلها إلى المستنفرين شهريا عبر التطبيقات المصرفية، مما أدى إلى صعوبة عيشهم في المدينة التي تشهد تدهوراً مريعاً في الوضع الإنساني.
لكن المتحدث الرسمي للقوة المشتركة العميد أحمد حسين مصطفى قال لـ(عاين): إن “الوضع الأمني في مدينة الفاشر تحت السيطرة الكاملة لقواتهم، ولا يوجد ما يدعو للقلق، فقواتهم في أتم الاستعداد لمواجهة أي خطر قادم”.
واعتبر الحديث عن انسحاب للمستنفرين “تأكيد إدمان إعلام مليشيا قوات الدعم السريع للشائعات وأكاذيب لأغراض الزعزعة والقلق والتوتر وسط المدنيين، وتضليل ومحاولة استدراج المواطنين والاعتداء عليهم في ما بعد”.
أولوية المعركة
وينفي ارتباط سقوط مواقع عسكرية بالتشكيل الوزاري، وقال:”في هذا الاتجاه تحديدا نحب أن نؤكد التزامنا في القوة المشتركة بتحرير البلاد، دعما وسندا لمعركة الكرامة، أما اتفاق جوبا وما شمله، هو خارج الصندوق في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلد، فإننا نسعى لضمان وجود بلدنا وعودة سيادتها وكرامة أهلها، وهذه تحتاج إلى الاستعداد للتضحية وليست السلطة”.

وشدد حسين: “لا تربطنا شراكة مع القوات المسلحة بقدر ما تربطنا معركة تهدد مصير التراب السوداني بالكامل وكرامة شعبه”. لا سيما أننا ملتزمون بوحدة وانضواء كافة الجيوش والفصائل العسكرية المختلفة تحت مظلة وإمرة القوات المسلحة مع ضرورة إصلاحات أمنية بالمؤسسة العسكرية”.
وتابع: “ليس هناك تجاذب بالمعنى والمستوى الذي يروج له الإعلام، وكل ما يتعلق بالتشكيل الوزاري، هناك مرجعيات ثابتة وهما الوثيقة الدستورية ووثيقة جوبا لسلام السودان، لذلك لا نرى ما يدعو للتجاذب أو الخلاف إذا ما التزمنا بالمرجعيات المتفق عليها وعملنا من خلال نصوصها وأحكامها”.
من جهته، قال نائب المتحدث الرسمي لحركة العدل والمساواة، حسن إبراهيم لـ(عاين): إن “اتفاق جوبا من أهم المنجزات التي تحققت في سبيل إسكات صوت البندقية، وبالتالي الحفاظ على السلام وتنفيذه ضرورة وحاجة ملحة، ليس للقوى الموقعة فحسب، بل لتأكيد المصداقية في تنفيذ أي اتفاقات مستقبلية، وكذلك سيسد باب الاحتراب للأبد، وأي مساس بالاتفاق وبنوده الواضحة نعتبره انتكاسة حقيقية”.
وأشار إلى أنهم عندما قرروا الخروج من الحياد ليس لأجل الجيش أو أي مؤسسة أخرى، بل لأجل الشعب الذي كان يباد ويغتصب، فموقفنا مبدئي ليس له علاقة بملفات أو تحالفات، وسنستمر في معركة الدفاع عنه إلى النهاية.
وأضاف:”لسنا طلاب سلطة ومسألة الامتيازات تخرج عمن بهم غرض، لقد دخلنا الحكومة بموجب اتفاق واجب التنفيذ كإحدى مكتسبات شعبنا، ونرفض أي مزايدة رخيصة من البعض. مشغولون حالياً بتحرير تراب الوطن، وسنلتفت لأصحاب الغرض في الغرف المغلقة، وينفثون منها السموم”.