“نهب وتدمير”.. الحرب تعصف بآثار السودان

عاين- 22 سبتمبر 2024

متاحف سودانية وقطع أثرية نادرة تعرضت للتخريب والدمار والنهب، والعديد منها بيع في الأسواق. هذا ما تعيشه الآثار السودانية ومتاحفها في ظل الحرب المستمرة التي تعصف بالبلاد لجهة أن النزاع لا يهدد فقط أرواح المواطنين، بل يعصف أيضًا بتراث ثقافي لا يُقدّر بثمن.

ومع تزايد حالات النهب والبيع غير القانوني، يقف السودان على حافة ضياع تاريخه. هذه المآسي تثير تساؤلات حول كيفية حماية تراث يعود لآلاف السنين، في وقت تشهد فيه البلاد واحدة من أصعب مراحلها التاريخية.

إن تدمير مواقع تاريخية هامة، يعكس حجم الكارثة التي تتعرض لها هوية الأمة. في ظل غياب الأمن، يقف التراث السوداني على شفا الاندثار، وسط مطالبات بإنقاذ ما تبقى منه.

تعرض ما لا يقل عن 28 موقعًا أثريًا للتدمير أو النهب خلال النزاع

وتعرض ما لا يقل عن 28 موقعًا أثريًا للتدمير أو النهب خلال النزاع، بما في ذلك مواقع أثرية بارزة مثل جزيرة مروي وجبل البركل، المدرجين على قائمة التراث العالمي لليونسكو، بينما تم تحويل بعض هذه المتاحف إلى مواقع عسكرية من قبل الأطراف المتحاربة، مما زاد خطر تعرضها للدمار.

يعاني السودان من أزمة تراثية حادة نتيجة النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وأدت الحرب المستمرة أدت إلى تدمير واسع للمواقع التراثية ونهب المتاحف، مما أثار قلق المجتمع الدولي، وخاصة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)

وتضررت عدة مواقع أثرية في جميع أنحاء البلاد، وتعرض المتحف الوطني السوداني في الخرطوم للنهب، مما يهدد التراث الثقافي السوداني بخطر غير مسبوق.

ومنذ اندلاع الصراع المسلح في السودان، كانت المتاحف والمواقع التراثية من بين الأهداف الرئيسية للجماعات المسلحة.

المتحف الوطني السوداني، الذي يُعد من أهم المتاحف في أفريقيا، كان واحدًا من هذه الأهداف، حيث تم نهب عشرات الآلاف من القطع الأثرية منه.

يُذكر أن المتحف يقع في منطقة تسيطر عليها قوات الدعم السريع، مما جعل الوصول إليه وحمايته مهمة شبه مستحيلة.

ويُعد التراث الثقافي مصدرًا للفخر الوطني، ويمثل تاريخًا يمتد لآلاف السنين. بالإضافة إلى ذلك، يتسبب تدمير المواقع الأثرية في خسائر هائلة للسودان الذي كان يعتمد على السياحة الثقافية كأحد المصادر الاقتصادية.

متحف
جانب من متحف السودان القومي بالخرطوم، ارشيف

وأعربت اليونسكو عن قلقها العميق إزاء التهديد الذي يواجه التراث السوداني، ودعت المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة لحماية المواقع التراثية السودانية ومنع الاتجار غير المشروع بالآثار المنهوبة.

والاثنين الماضي، كشفت صحيفة التايمز البريطانية، أن قطعا أثرية سودانية لا تقدر بثمن تعرض للبيع على موقع “إيباي” بعد تهريبها من البلد الذي مزقته حرب مستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

ويُعتقد أن القطع، التي تشمل تماثيل وأواني ذهبية وفخارا، قد نُهبت من المتحف الوطني في الخرطوم، الواقع في منطقة تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

وبحسب الصحيفة، نُهبت آلاف من الآثار بما في ذلك شظايا تماثيل وقصور قديمة خلال أكثر من عام من القتال الذي قُتل فيه ما يصل إلى 150 ألف شخص، ووضعت الآثار الثمينة تحت رحمة اللصوص.

وتشير صحيفة التايمز إلى أن اللوحات والأشياء الذهبية والفخار تدرج في بعض الأحيان على موقع إيباي باعتبارها آثارا مصرية، لكنها في الحقيقة جاءت من المتحف الوطني السوداني في الخرطوم، بحسب ما نقلت عن خبراء.

وتتضمن المجموعة الضخمة للمتحف قطعا أثرية من العصر الحجري القديم وعناصر من موقع كرمة الشهير بجوار النيل في شمال السودان، بالإضافة إلى قطع فرعونية ونوبية. فيما نفت قوات الدعم السريع تورطها في النهب.

وطالب المؤتمر الدولي للدراسات المروية، المجتمع الدولي ومؤسساته المختصة بحماية وصون الآثار والمتاحف السودانية، ودعم الجهود الرامية لاستعادة الآثار التي تم نهبها مؤخراً.

وشدد المؤتمر في البيان الختامي الذي انعقد بمدينة مونستر الألمانية في دورته الثالثة عشر، والتي عُقدت خلال الفترة من 9- 13 سبتمبر 2024، على ضرورة تعزيز التعاون الدولي في عمليات المراقبة والتتبع للقطع الأثرية المسروقة.

المسؤولة في الهيئة العامة للآثار والمتاحف، حباب إدريس أحمد، تشير إلى تعرّض أبرز المواقع التراثية في السودان للنهب والتدمير نتيجة الصراع الدائر.

وتقول في حديث لـ(عاين): “للأسف، فقدنا العديد من المتاحف الوطنية والإقليمية، ونُهِبَت محتوياتها الأثرية وتدميرها بالكامل، من بين هذه المواقع: متحف الإثنوغرافيا، متحف التاريخ الطبيعي، متحف القصر الجمهوري، المتحف القومي، بالإضافة إلى المتاحف الولائية مثل متحف الجنينة ومتحف نيالا. حتى المكتبات لم تسلم من الأضرار.

“منذ اندلاع الحرب، سيطرت قوات الدعم السريع على منطقة المقرن، حيث يقع المتحف القومي”. تقول حباب، وتوضح: “وردت أنباء خلال الأشهر الماضية تفيد بتحرك شاحنات من المتحف، ولكن تأكد لاحقًا أن عمليات النهب قد تمت بالفعل”.

العديد من القطع المسروقة عرضت للبيع في دولة مجاورة

مسؤولة بهيئة الآثار

ووفقا لحباب، فإن العديد من القطع المسروقة عرضت للبيع في دولة مجاورة. ما يجعل الأمر أكثر مأساوية هو أن هذه القطع كانت محضّرة في صناديق نتيجة أعمال صيانة وتمويل إيطالي للمتحف، مما جعلها جاهزة للتهريب.

جهود كبيرة تُبذل من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف بالتعاون مع المنظمات الدولية مثل اليونسكو والإنتربول لمتابعة تلك القطع ومحاولة استردادها. بحسب حباب، التي تقول إن التراث الثقافي يُعد إرثًا إنسانيًا عالميًا، وتلعب اليونسكو دورًا رئيسيًا في حماية هذا التراث من المخاطر. السودان، بصفته عضوًا في اليونسكو، وقع على اتفاقية 1970 التي تحظر الاتجار غير المشروع بالآثار.

وعلى الرغم الجهود المبذولة، تتطلب عملية متابعة ورصد القطع المسروقة تعاونًا دوليًا وجهودًا من مختلف المؤسسات المعنية بالتراث الثقافي، بحسب حباب التي تقول “نأمل أن يعم السلام، ونتمكن من استرداد تلك القطع التي لا تمثل فقط آثارًا مادية، بل تاريخ وهوية وحياة للشعب السوداني.

من جهتها تؤكد الأمين العام لهيئة الآثار والمتاحف غالية جار النبي، تعرض جميع المواقع الأثرية والمتاحف في ولايات الخرطوم، دارفور، سنار، والجزيرة للاستهداف والتدمير والنهب بسبب الحرب.

جندي في قوات الدعم السريع داخل متحف السودان القومي- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

 ومن بين المتاحف التي دُمِّرَت بالكامل: متحف نيالا ومتحف السلطان بحر الدين في الجنينة. كذلك، تم نهب وتدمير مقتنيات متحف بيت الخليفة، ومتحف السودان القومي للإثنوغرافيا، ومتحف القصر الجمهوري بعد أن تم تدمير وحرق جزء من مبنى القصر التاريخي. وفي تطور مؤلم، تفاجأ العاملون بسرقة مقتنيات متحف السودان القومي، الذي يضم تاريخ السودان منذ العصور الحجرية وحتى الفترة الإسلامية، ويحتوي على أكثر من 100 ألف قطعة أثرية.

وأفادت جار النبي، في حديثها لـ(عاين) بأن الهيئة العامة للآثار والمتاحف تواصلت مع منظمات عالمية مثل اليونسكو والمنظمات المتخصصة في حماية واستعادة الآثار المسروقة، بالإضافة إلى الإنتربول، في محاولة لمنع تداول وبيع هذه القطع في الأسواق العالمية. تلك الجهود جاءت استجابة للجرائم التي طالت التراث الثقافي السوداني.

تعرض متحف السودان القومي للاستهداف منذ الأشهر الأولى للحرب، حيث انتشرت صور لمجموعة من قوات الدعم السريع وهم داخل مباني المتحف يعبثون بمحتوياته.

وفي بداية هذا العام، وردت تقارير تفيد برصد عربات نقل خرجت من مباني المتحف عبر الأقمار الصناعية، ويُعتقد أن تلك العربات كانت محمّلة بالقطع الأثرية، وفقا للأمين العام لهيئة الآثار والمتاحف غالية جار النبي.

وتلفت إلى أن هذه العمليات التي طالت التراث الثقافي للسودان تشكل تهديداً خطيراً لهوية وتاريخ البلاد، وتتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية للحفاظ على ما تبقى واستعادة ما سُرق.

القطع الأثرية التي تُنهب ليست مجرد مواد، بل تمثل تاريخ الشعوب، وتجسد الذاكرة الوطنية التي توحد البلاد

مديرة المتاحف

وحول التأثير طويل الأمد لنهب الآثار السودانية على الهوية الثقافية والتراث التاريخي للبلاد، تقول مديرة المتاحف في الهيئة القومية السودانية للآثار، إخلاص عبد اللطيف، لـ(عاين) إن سرقة الآثار لا تتعلق فقط بالفترة الزمنية، بل هي في جوهرها سرقة لهوية الأمة.

وأكدت أن القطع الأثرية التي تُنهب ليست مجرد مواد، بل تمثل تاريخ الشعوب، وتجسد الذاكرة الوطنية التي توحد البلاد، وتحافظ على ترابطها الثقافي والاجتماعي.

وتابعت “تم اتخاذ جميع التدابير القانونية والأمنية المعروفة دولياً في مواجهة هذه الجرائم. ولفتت إلى أن السودان موقّع على المعاهدات الدولية لحماية التراث الثقافي. إلى جانب ذلك، تضامنت جميع المنظمات العالمية المعنية، بما في ذلك الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، في إدانة انتهاكات “ميليشيات الدعم السريع” التي استهدفت التراث الثقافي السوداني من خلال نهب المتاحف وتدمير ما طالته، بما في ذلك متحف نيالا في دارفور.

يُعد الوضع في السودان مأساويًا من نواحٍ متعددة، ليس فقط بسبب الخسائر البشرية، ولكن أيضًا بسبب الدمار الذي لحق بالتراث الثقافي للبلاد.

ويتطلب إنقاذ هذا التراث جهودًا متكاملة من المجتمع الدولي والمحلي على حد سواء. يجب أن تستمر الجهود لحماية ما تبقى من التراث، ومنع المزيد من التدمير، واستعادة القطع المسروقة قبل أن تصبح ضحية للأسواق السوداء الدولية.