من “صواردة والترتر”.. عودة امبراطورية (أمن البشير) الاقتصادية

11 يونيو 2022   

من بين سفوح ومرتفعات جبلية قبالة منطقة صواردة شمالي السودان، اطلت بناية مرتفعة قبل سنوات أثارت ريبة و مخاوف السكان المحليين قبل أن يتفاجئوا بان البناية التي أنشئت بالقرب من مساكنهم هي مقر مصنع لتعدين الذهب. هذه المخاوف تشاركها مع سكان صواردة في تاريخ مختلف اهالي منطقة الترتر بولاية جنوب كردفان عندما أنشأت شركة المجموعة الدولية المملوكة لجهاز  الأمن والمخابرات مصنعا مماثلا في المنطقة وهي ذات الشركة صاحبة امتياز مصنع صواردة.

في منطقة صواردة بدأ المصنع عمله خلال العام 2013 بالتركيز على معالجة نفايات ومخلفات التعدين التقليدي للذهب والمعروف اصطلاحاً بـ”الكرتة” بمادة السيانيد السامة الأمر الذي واجه مقاومة الأهالي رفضا لعملية التصنيع التي تتم  على بعد نحو 4 كيلومترات فقط من مساكن مواطني قرى “كويكية وعبود وصواردة وارو واشيمتو وواوة” بالولاية الشمالية، محلية وادي حلفا.

“كان مستفزا للسكان المحليين ان ينشأ مصنعا يستخدم مادة السيانيد في عملية استخلاص الذهب دون علم السكان واستشارتهم”ـ يقول رئيس اللجنة السداسية لحماية البيئة بمنطقة صوادرة حسين سر الختم لـ(عاين)، ويضيف ” رغم عمليات المقاومة التي بدأت باكرا في المنطقة ابان حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير ظلت ادارة المصنع تصر على تشغيله مستندة على دعم اجهزة الدولة لاسيما جهاز المخابرات المالك للمجموعة الدولية”.

صورة توضح مقر المصنع وقربه من القرى المأهولة بالسكان في المنطقة

ويضيف: “لم تراع الشركة في إنشاء المصنع الأسس والإشتراطات الواجب توافرها لإنشاء مثل هذه المصانع، ومن أهمها البعد الآمن وموافقة مواطني هذه القرى. حيث يتم التصديق لهذه المواقع دون علم أو إستشارة السكان المحليين”.

لم تكتف المقاومة الشعبية في منطقة صواردة بتنظيم الوقفات الاحتجاجية وغيرها من أعمال المقاومة، وللتنبيه والتحقق من خطورة تشغيل المصنع في المنطقة على السكان أعدت اللجنة بمعاونة خبراء مختصين دراسة  حول أثر تعدين الذهب على البيئة في صواردة والقرى المجاورة.

ويقول رئيس اللجنة، أن نتائج الدراسة جاءت كارثية على حد -قوله. وأشار إلى ان الدراسة شملت اخذ عينات من مياه السيول القادمة من منطقة سوق التعدين التي تقع في منطقة وسط بين مقر المصنع والقرى الستة المجاورة.

“سوق التعدين الضخم والقريب من المنطقة يضم الطواحين وكل عمليات الاستخلاص الضئيلة من الذهب عبر مادة الزئبق بعد سحن الحجارة التي يأتي بها المعدنين التقليديين من مناطق بعيدة”.

“خطر الزئبق معروف لكنه وبعد الدراسة العلمية الدقيقة تكشف لنا مخاطر وسموم أخرى جلبتها عمليات التعدين متمثلة في معادن عديدة جلبتها عمليات التعدين التقليدية والتي تتم عبر نقل الحجارة التي تحتوي على معدن الذهب مع معادن أخرى سامة”. يقول سر الختم لـ(عاين).

وكشفت الدراسة عن ارتفاع تركيز معدلات الزئبق في الماء بموقعين أخذت منهما عينات وهي منطقة سوق التعدين ومراكز تجميع مياه السيول القادمة من اتجاه السوق  واستبعدت الدراسة أن تكون التراكيز المرتفعة للزئبق لها علاقة بمصدر طبيعي مما يؤكد أن الزئبق ناتج عن الأنشطة البشرية خاصة التعدين.

جانب من بلدة صواردة القريبة من المصنع

وخلصت الدراسة إلى إن موقع السوق ومصنع الشركة يمثلان خطورة على البيئة الطبيعية بسبب قربهما من النيل ومواقع السكان والزراعة، إضافة لكونهما ضمن أودية مرتبطة بالنيل. كما أن طرق الاستخلاص المستخدمة تتطلب إجراء المزيد من الدراسات ووضع التغييرات المطلوبة، كونها غير إقتصادية إذا ما تمت مقارنتها بمعالجة الآثار البيئية المترتبة عليها.

الحال في جنوب كردفان نفسه الذي عاشته منطقة صواردة، ووثقت هيئات ناشطة في مجال البيئة بالمنطقة عمليات تلوث ناجمة عن نشاط المصنع بمنطقة الترتر.

تصاعدت المقاومة الشعبية لعمل المصنعين في صواردة شمال السودان، والترتر بولاية جنوب كردفان ابان اشتداد الاحتجاجات الشعبية المناوئة لحكم الرئيس المخلوع عمر البشير خلال العام 2018، حتى تمكنت هذه الحركة المطلبية من استصدار قرار من وزارة المعادن 2020 ابان عهد حكومة الثورة الاولى بإلغاء امتياز الشركة.

ويقول الناشط البيئي بولاية جنوب كردفان، أحمد مختار لـ(عاين)، ان “المقاومة كان لها دور كبير في توعية المواطنين بمخاطر استخدام المواد السامة في المنطقة، وفي تقديرنا اليوم مستوى وعي المواطن بمخاطر التلوث ارتفع لدرجة تطمئن على المستقبل”.   

وسط مخاوف من تمددها توسع الاشتباكات بين المواطنين وشركات التعدين
عمليات تعدين تقليدية عن الذهب بولاية جنوب كردفان- ارشيف عاين 

والمستقبل الذي يعنيه مختار هنا هو عودة المقاومة الشعبية مجددا في أعقاب قرار وزارة المعادن السودانية في عهد حكومة الانقلاب العسكري والصادر بتاريخ 11 يناير 2022 والذي قضى بإلغاء القرارين السابقين “6/8 لسنة 2020 ومزاولة عمل شركة المجموعة الدولية نشاط مصنع صواردة والترتر بولاية جنوب كردفان.

واجهت عمليات إعادة تشغيل المصنع في مايو الماضي بمنطقة الترتر صواردة مقاومة شعبية جديدة وشهدت المنطقتين وقفات احتجاجية عديدة لجهة ان قرار اعادة التشغيل لم ينه المخاوف السابقة والتي صدر بشأنها قرار إيقاف امتياز هذه الشركة لمخالفة الاشتراطات الصحية والبيئية.  

عودة نشاط هذه الشركات عده قادة المقاومة في المنطقتين تراجعا عن قرارات سابقة قضت بإيقاف هذه الانشطة وترحيلها من تلك المناطق، بل اعتبروها اصرارا من السلطة الانقلابية في الاستمرار بنهج حكومة الرئيس المعزول عمر البشير في تدمير صحة الإنسان والبيئة لهثا وراء المكاسب الاقتصادية للشركات العسكرية والأمنية.

“ابان حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، كان القادة الأمنيون الذين يديرون شركة صواردة للتعدين يتمنعون عن ملاقاة قيادات لجان الأهالي المتضررة من عمل المصنع ومن هم على قيادة العمل المقاوم ويستمرون في تشغيل المصنع رغم المخاطر المذكورة.. كانوا مسنودين بالسلطة”. يقول رئيس اللجنة السداسية بصواردة، حسين سر الختم لـ(عاين).  

ويتابع حسين، بعد قرار إلغاء هذه الشركة وحل جهاز الأمن والمخابرات إبان حكومة الثورة الأولى حاول مدراء هذه الشركة واذكر ان من بينهم أشخاص بخلفيات امنية وعسكرية اقناعنا بعودة نشاط المصنع مع تطبيق اشتراطاتنا لكنهم لم يفعلوا ولم نقبل نحن بمزاولة عملهم، إلى أن حدث الانقلاب وعادوا بقرارات من وزارة المعادن تنزلت حتى الوحدة الادارية بمحلية حلفا.

مقاومة شعبية لعمل شركة صواردة شمالي السودان- ارشيف عاين 2017

اما الناشط البيئي بولاية جنوب كردفان، أحمد مختار، يقول لـ(عاين)، ان تحرياتهم حول الشركة التي عادت للعمل بمنطقة الترتر ربما تكون ذات شركة المجموعة الدولية لكنها عادت بمسمى آخر”. ويشير إلى أنها عادت ونصبت آلياتها وصهاريج العمل بشكل سري الأمر الذي يثير حتى الآن قلق واحتجاج السكان هناك.

وفي ديسمبر 2021 أعاد رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان صلاحيات منزوعة لجهاز الأمن السوداني، وإن كان التركيز وقتها على صلاحيات  إعادة  سلطات الاعتقال والملاحقة لجهاز المخابرات، لكن مراقبون لا يستبعدون أن القرار شمل العودة الكاملة لجهاز المخابرات بما في ذلك أنشطته الاقتصادية.

 وكان من المأمول بعد سقوط نظام البشير أن يحصل المدنيون على منظومة اقتصادية تبلغ قيمتها السوقية نحو 15مليار دولار مثل مصنع جياد للسيارات وشركة سوداتل للاتصالات المتنقلة ومبيعات الإنترنت وشركة زادنا العملاقة في القطاع الزراعي والبستاني لكن جميع هذه الشركات آلت إلى الجيش السوداني فيما عرفت بمنظومة الصناعات الدفاعية والتي يديرها كبار العسكريين ممن لديهم تأثير قوي على صناعة القرار داخل المؤسسة العسكرية.

وصرح رئيس الوزراء السوداني الذي انقلب الجيش على حكومته في 25 أكتوبر الماضي عبد الله حمدوك بأن الحكومة المدنية  تدير 20% من الاقتصاد والمال في البلاد بينما يستحوذ الجيش على 80% وذلك في خطاب شهير في أغسطس 2020 كان حمدوك يشكو من أن القوة الاقتصادية الهائلة لدى الجيش برأسمال لا يقل عن عشرة مليار دولار  بينما تكافح الحكومة الانتقالية لجمع ثلاثة مليار دولار لوضعها كاحتياط في البنك المركزي لتحقيق استقرار في سعر الصرف حتى العام 2023.

“العودة الشركة الدولية للتعدين لمزاولة نشاطها مع بقية الشركات المملوكة لجهات عسكرية أو تلك المستخدمة كواجهات لاستثمارات المؤسسة العسكرية والأمنية أو جمعيات منتسبيها الحاليين ومن أحيلوا للتقاعد، تعد ردة وتراجع عن جزء من مكتسبات الثورة التي تمثلت في قرارات بشأن إيقاف عمل تلك الشركات”. يقول عضو المكتب التنفيذي لتجمع الاجسام المطلبية خالد محمد لـ(عاين).

(قوش) رغم الاختفاء.. تقليب أوراق حساسة في الملف السوداني
جنود هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن – ارشيف

ويشير محمد، إلى أن إعادة تشغيل هذه الشركات في هذا التوقيت مرتبط أيضا بالوضع الاستثنائي الذي حدث نتيجة لإنقلاب 25 أكتوبر، وذلك بإستغلال الفراغ الإداري والغياب التشريعي لفرض واقع مختلف في كل المجالات وأهمها الاقتصادي والأمني.

ويتابع: “يأتي هذا النكوص في ظل إعادة تمكين تلك المؤسسات ومنسوبيها، وهو مرتبط دون شك بعودة جهاز الأمن والمخابرات بكامل الأنشطة وبينها الاقتصادية طبعا، لأن في ذلك تحفيز للمنسوبين، وتمدد في مساحات السيطرة على الموارد والنفوذ، وتقليص لدور المجتمعات من إدارة مواردها وحماية البيئة المحيطة ومراقبة طرق إستخراج المعادن والمواد المستخدمة في أنشطة التعدين عموما، بالإضافة إلى أن عودة تلك الشركات تعني أيضا عودة الاشتغال على تفتيت الوحدة المجتمعية وزعزعة السلم المجتمعي، بعد تقسيم المجتمعات المحلية إلى مع أو ضد”.

ويرى عضو التجمع المطلبي انه وبالرغم من الأثر البيئي الكبير والخطير المتعلق بأنشطة التعدين الجائر عموما، الا أن الخطر الآني هو”ضرب النسيج الاجتماعي” وإغراق المجتمعات بمواقع التعدين في صراعات تتيح وتبرر إدخال وحدات عسكرية، أو إنشاء مليشيات جديدة -يمكن أن تكون من خارج تلك المناطق-  بما يعني تفاقم الأوضاع الأمنية بمنحى أكثر خطورة.