حرب المسيرات تحوّل مزارع شمال السودان إلى أراض جرداء
عاين- 15 ديسمبر 2025
في مشهد دائماً ما يتكرر في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل شمال السودان، يجد المزارعون أنفسهم في مواجهة معركة خاسرة ضد العطش. ومع كل انقطاع للتيار الكهربائي، تتوقف مضخات الري، وتذبل المحاصيل، وتتبخر أحلام الأمن الغذائي. مخلفة أزمة ممتدة شلّت حركة الري، وأدت إلى جفاف آلاف الأفدنة، وتلف محاصيل بملايين الجنيهات، لا سيما في المشاريع التي تعتمد على الري الكهربائي عبر المحاور.
يقول المزارع الطيب دفع الله لـ(عاين): إن انقطاع الكهرباء تسبب في فشل محصول البصل الذي زرعه خلال مارس الماضي، إذ ذبلت الأوراق بسبب العطش واضطر إلى ترك المحصول للمواشي. ويضيف: “في مشروع الحديبة، إيجار الأرض يُدفع مسبقاً لإدارة المشروع، إذا كنت ستزرع البصل، لذلك لم تكن الخسارة في المحصول فقط، بل في تكلفة الإيجار أيضاً، وهو ما ضاع بالكامل”.
اليأس يطرق أبواب المزارعين
ويؤكد الطيب أن هذه الخسارة دفعته لاتخاذ قرار حاسم بالخروج من الزراعة:”بعد الذي حصل، لم أعد أفكر في الزراعة. أعمل الآن في التعدين، على الأقل إذا لم أوفَّق لا أخسر سوى عدة أيام، وليس موسماً كاملاً”.
المزارع حمد عوض الكريم ، يروي تجربته لـ(عاين) قائلاً إنه زرع علف “أبسبعين” في مارس، ولم يكن قد بدأ الري بعد بسبب تأخر السماد وتنظيم الري، وهو ما أنقذه من خسارة كبيرة. في ذلك الوقت. ويقول: “عندما انقطعت الكهرباء بعد عشرين يوماً من الزراعة، قامت إدارة المشروع بتوفير الجازولين لتشغيل المضخات القديمة. لم أتأثر كثيراً لأني لم أكن قد بدأت الري بعد”
يوضح أحمد أن الانقطاعات خلال تلك الفترة كانت مرتبطة بهجمات مسيّرات الدعم السريع، إلا أن المشكلة ما تزال مستمرة حتى الآن، إذ تتكرر الانقطاعات أحيانًا بسبب مسيّرات، وأحيانًا نتيجة أعطال في المحطات مثل سقوط حاوية، وفي أحيان أخرى من دون أسباب معلومة للمزارعين. ويشير إلى أن المشروع لا يمتلك أي خطة بديلة لمواجهة هذه الانقطاعات، سواء عبر مولدات دائمة أو طاقة شمسية، ما يجعل العملية الزراعية رهينة لظروف غير مستقرة.
يشير أحمد إلى تحدٍ إضافي يتمثل في نظام الإيجار الذي يُلزمهم بـ”تسليم ثلث الإنتاج للجهة المالكة، وهي إدارة أبحاث الحديبة” ، مما يزيد من الضغط على المزارعين في ظل أي خسائر.

قدرت وزارة الزراعة والغابات السودانية إجمالي خسائر القطاع الزراعي بأكثر من 10 مليارات دولار أمريكي خلال عامي النزاع المستمر حتى الآن. وقد تعرض 40% من محصول القمح في شمال السودان للتلف بسبب العطش ، بالإضافة إلى أكثر من 4000 فدان من الفول. الخضروات سريعة التلف ماتت قبل نضجها .
من منطقة البرقيق شرق، بمحلية الدبة في الولاية الشمالية، يشير المزارع مأمون صديق ود قطيع إن تجربته في الزراعة الموسم السابق كانت مريرة للغاية. ويقول لـ(عاين): “زرعت ثمانية أفدنة، ستة منها بصل واثنان خضروات، لكن مع انقطاع الكهرباء بعد استهداف الدعم السريع لعدد من محطات الكهرباء في شمال السودان، توقف المضخات الكهربائية التي تعتمد عليها الآبار بشكل كلي، توقفت عمليًا كل عمليات الري”.
ويصف ود قطيع حالة الانتظار اليومية للأمل في عودة الكهرباء قائلاً: “ظل الناس يأملون كل يوم، لكن الأمور خرجت عن السيطرة تماماً”.
وتفاقمت الأزمة بسبب ارتفاع تكاليف البدائل. يشير ود قطيع إلى أن منظومات الطاقة الشمسية، التي جلبها بعض التجار لتشغيل المضخات، “باهظة الثمن”. ويضيف: “أنا أحتاج لنظام بقدرة 550 واط، وتكلفته تتعدى 11 مليون جنيه سوداني، بينما أنا مستأجر للأرض”.
هذا الواقع دفعه نحو حل جذري، كما يوضح: “لقد يئست من الزراعة في الشمالية، وانتقلت إلى نهر عطبرة، حيث تُمارس الزراعة باستخدام طلمبات الجازولين، وهو أكثر جدوى مقارنة بالخسائر التي تكبدتها هناك”.
ويؤكد بيان صادر عن تجمع مزارعي الولاية الشمالية بأن حوالي نصف مليون فدان من الأراضي الزراعية قد تضررت بسبب انقطاع الكهرباء
رغم هذا يقول ودقطيع: “نعم خسرتُ كل شيء، لكنني سأستدين و سأعود للزراعة، لأنها العمل الوحيد الذي أعرفه”.
الطاقة الشمسية: أمل باهظ الثمن
مع غياب الكهرباء الحكومية وعدم توفر الوقود أو صعوبة تأمينه، أصبح الخيار الوحيد أمام المزارعين هو اللجوء إلى الطاقة الشمسية . وقد شهدت الولاية الشمالية انتشاراً واسعاً لهذه الأنظمة خلال السنوات الأخيرة، مدفوعاً بتكرار أزمات الكهرباء وارتفاع تكلفة الوقود . يؤكد المهندس المنتقى إبراهيم، المختص في تركيب هذه الأنظمة، أن “الطاقة الشمسية أصبحت خياراً مهماً للمزارعين، خاصة الصغار منهم، لأنها تمكّنهم من تشغيل المضخات دون الاعتماد على الكهرباء أو الجاز، وهي حل دائم وفعال على المدى الطويل”.
لكن هذا الحل الواعد يواجه تحديات كبيرة. يشير المهندس إبراهيم في مقابلة مع (عاين) إلى مشكلتين رئيسيتين: “السوق ممتلئ بأنظمة ومكونات غير مضمونة، وغالباً ما تتعطل بسرعة. والأسعار ارتفعت كثيراً في الفترة الأخيرة، حتى أصبح من الصعب على كثير من المزارعين تحمل تكلفتها” . هذا الانتشار للمنتجات رديئة الجودة وارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه يقلل من الثقة في هذه التقنية ويزيد من الأعباء المالية على المزارعين.

تضاف إلى ذلك عقبات التمويل. يوضح المهندس: أن “بعض المزارعين يلجأون إلى البنوك للحصول على تمويل، لكنهم يصطدمون بشروط قاسية، حيث تصل أرباح القرض في بعض الأحيان إلى ضعف السعر الحقيقي للنظام في السوق، مما يزيد من أعبائهم المالية ويجعل الاستثمار في الطاقة الشمسية عبئاً بدلاً من أن يكون حلاً”؛ فتكلفة تمويل ألواح الطاقة الشمسية من البنك الزراعي في الولاية الشمالية تصل إلى 33% فائدة، مما يضاعف سعر الألواح من 50 إلى 100 مليون جنيه سوداني (40 ألف دولار أمريكي) تُدفع خلال ثلاثة أعوام .
بعض المزارعين لجؤوا إلى البنوك لتمويل مشاريع طاقة شمسية لمزارعهم، تمثل تجربة المزارع نزار عبد الله نموذجاً محدوداً لما يمكن تحقيقه في حال توفّر دعم مؤسسي منظم. يقول نزار لـ(عاين): إن “انقطاع الكهرباء عن مزرعته استمر لنحو ثلاثة أشهر، مهدداً كامل مساحتها البالغة 40 فداناً”. مضيفاً: “لا وجود لحياة بدون ماء أصلاً”.
أمام هذا الواقع، لجأ نزار إلى الطاقة الشمسية كخيار وحيد للاستمرار، بعد حصوله على تمويل من بنكي. وبلغت تكلفة تركيب نظام الطاقة الشمسية، الذي يضم 36 لوحاً شمسياً، نحو 8,500,000 جنيه سوداني، تُسدد على أقساط. ويوضح أن البنك تولّى جميع إجراءات التركيب والتشغيل، دون تدخل مباشر منه.
ومنذ تشغيل النظام، يشير نزار إلى تحسّن ملحوظ في استقرار الري، ما انعكس على الإنتاجية وجودة المحاصيل، إلى جانب انخفاض واضح في تكاليف التشغيل، خاصة الوقود. كما مكّنه الاستقرار الكهربائي من زراعة محاصيل لم يكن قادراً على زراعتها سابقاً بسبب عدم انتظام الكهرباء.
ويؤكد نزار أنه لم يواجه مشكلات تشغيلية تُذكر حتى الآن، بفضل الضمان والصيانة التي يوفرها البنك. ورغم توصيته بالطاقة الشمسية كحل عملي، إلا أن تجربته تظل مشروطة بتوفر التمويل والدعم المؤسسي، في وقت يعجز فيه عدد كبير من المزارعين عن تحمّل تكلفتها أو الحصول على تمويل ميسّر، بحسب نزار.
شلل في الصادرات وتهديد للمشاريع الإستراتيجية
تتزايد التحذيرات داخل القطاع الزراعي من العواقب الوخيمة لانقطاع الكهرباء، ليس فقط على الإنتاج المحلي، بل أيضًا على التزامات السودان التصديرية. العاملون في المجال يؤكدون أن غياب الكهرباء عن المشاريع الكبرى أدى إلى توقف شبه كامل في عمليات الري، ما انعكس مباشرة على محاصيل التصدير، خاصة الأعلاف.
يشرح المهندس الزراعي علاء الدين عبد الرحمن، المتخصص في تصدير الأعلاف مثل البرسيم والرودس، في حديثه لـ (عاين)، أن انقطاع التيار الكهربائي خلال شهر مايو أثر بشكل مباشر على حركة الصادرات. ويضيف: أن “الزراعة في مناطق الإنتاج الرئيسية، مثل الولاية الشمالية ونهر النيل، تعتمد على نظام الري عبر المحاور، الذي يحتاج إلى كميات هائلة من الكهرباء لتشغيل المضخات. ونتيجة لذلك، شهدت حركة تصدير الأعلاف توقفاً شبه كامل، مهددة العقود الدولية للشركات والمزارعين على حد سواء”.
ويشير علاء، إلى أن جميع الشركات التصديرية توقفت عن العمل باستثناء شركة واحدة فقط تعود ملكيتها لـ”أسامة داوود”، ما يترك جزءً كبيراً من السوق الداخلية والخارجية بلا منافس ويزيد من المخاطر الاقتصادية على بقية الشركات..






















