انسداد وكُلفة باهظة لاستمرار الحرب المنسية في السودان
عاين- 5 يوليو 2024
أكثر من عام على فقد ملايين السودانيين كل شيء، أرضهم وممتلكاتهم وأمانهم النسبي، بسبب حرب السودان المنسية ذات التكلفة بالغة الثمن. وبينما يتجاهل طرفي النزاع، الجيش والدعم السريع، أي اهتمام بحماية المدنيين، فإنهما أيضا يتجاهلان بنسب متفاوتة الذهاب بجدية للمفاوضات التي تبدأ بالسماح بتوصيل المساعدات الإنسانية لنحو 8.5 مليون، أي ما يقرب من خُمس السكان، يعانون الجوع الشديد.
وبعد كل هذا الوقت على الحرب السودانية الأكثر وطأة على بلد لم تتوقف فيه الحروب، فإن حالة الانسداد السياسي والعسكري تنذر بمزيد من الموت الذي يتخطف حياة الناس بأشكال شتى. وبينما يفقد الناس حياتهم في السودان، فإنهم أيضا يدفعون ثمنا باهظا جراء تجاهل العالم ومؤسساته الدولية محدودة الآليات.
مطلع ديسمبر الماضي، قررت الوساطة السعودية الأمريكية تعليق المفاوضات بين وفدي الجيش والدعم السريع لأجل غير مسمى، نتيجة عدم التزام الطرفين بما اتفقا عليه.
وفي نهاية مايو الماضي، نشطت تحركات أميركية وأممية وإقليمية لبث الروح في المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لإنهاء الحرب في البلاد بعد نحو 6 شهور من آخر جولة بينهما في مدينة جدة السعودية.
هذه التحركات لم تتوج بالنجاح، في وقت بدأ فيه أن طرفي القتال يسعيان إلى تغيير المعادلة العسكرية، وتحقيق مكاسب على الأرض.
ودخلت الحرب مرحلة جديدة بعد تقدم “الدعم السريع” ميدانياً، وسيطرتها على مناطق جغرافية جديدة من بينها سقوط الفرقة 17- سنجة بولاية سنار، وانسحاب الجيش إلى مدينة سنار التي أصبحت محاصرة من جميع الاتجاهات، كما أصبحت تهدِّد ولايات النيل الأبيض والنيل الأزرق والقضارف، فضلاً عن احتلالها أربع ولايات بإقليم دارفور من أصل خمس، وتبقى فقط الفاشر في شمال دارفور.
وفرَّ أكثر من 55,400 شخص من مدينة سنجة فقط مع امتداد النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى المدينة.
وأمام أي بادرة للتفاوض، فالملاحظ أن الجيش المتراجع على الأرض سرعان ما يبدي رفضاً قاطعا لأي تفاوض بينه والدعم السريع.
انسداد وتفاوض مشروط
فالقائد العام للجيش عبدالفتاح البرهان، أكد خلال خطاب بمنطقة أم درمان العسكرية، الثلاثاء الماضي، عدم الجلوس إلى التفاوض دون تنفيذ بنود “اتفاق جدة” وخروج ما وصفها بـ” المليشيات المتمردة” من منازل المواطنين.
يأتي ذلك مباشرة بعد أن أفادت تقارير بأن الأمم المتحدة قدمت دعوة إلى الحكومة السودانية، ممثلةً بالجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لاستئناف المفاوضات حول الأوضاع الإنسانية في جنيف في العاشر من يوليو، دون أن يؤكد الطرفين ذلك.”
وبينما تبدي الدعم السريع ظاهرياً استعدادها للمشاركة في “أي منبر” يهدف إلى تحقيق السلام بما في ذلك العودة إلى منبر جدة، فإن الجيش الذي لم يعلن صراحةً رغبته في العودة إلى التفاوض، إلا أنه يشترط التزام الدعم السريع بإعلان 11 مايو المتعلق بالشأن الإنساني في جدة” وفقاً للدبلوماسي والسفير الصادق المقلي.
ويشير المقلي، في حديث مع (عاين) إلى أن الإعلان لم ينحصر على مخاطبة الدعم السريع وحده، إنما يلزم الطرفين باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الذي يشدد على حماية المدنيين.”
ورأى المقلي أن إعلان جدة الذي وقع عليه الجيش والدعم السريع تزامن مع بداية الحرب، ومنذ ذلك الوقت، فإن هناك تغيرات على الأرض بما في ذلك تمدد الحرب إلى عدة ولايات أخرى.
دبلوماسي: إذا استمرت الحالة الإنسانية في التراجع، واستمر طرفا القتال في الحرب، فسيكون لا مناص من تدخل دولي بالتنسيق مع الإيقاد والاتحاد الأفريقي
ولفت المقلي، إلى أن الجيش يهدف إلى كسب مواقع جغرافية جديدة لتقوية موقفه التفاوضي سواء في منبر جدة أو أي منبر آخر، خاصة مع تمدد الدعم السريع في عدد من ولايات السودان.
يوجد في السودان أكبر عدد من النازحين في العالم، ويبلغ عددهم أكثر من 11 مليون شخص بما في ذلك النازحين منذ منتصف أبريل 2023، بحسب مكتب تنسيق شؤون اللاجئين.
وإزاء ذلك، فإن الجهود الدولية على محدوديتها لا تزال متعثرة، فالمفاوضات بين طرفي النزاع متوقفة، بينما لا تزال جهود دخول المساعدات الإنسانية تلاقي عقبات شديدة.
ورأى السفير المقلي، أن رد الفعل الدولي ينحصر في إيراد التقارير المتعلقة بالشأن الإنساني وإدانة طرفي القتال. ويشير إلى أن الجيش والدعم السريع تسببا في كارثة إنسانية غير مسبوقة طوال تاريخ السودان.
وذكر أن الدولة السودانية تشهد أكبر وأسوأ موجة نزوح في العالم، إلى جانب خروقات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. وأكد أن المجتمع الدولي يعمل على إدانة إدانات وشجب انتهاكات حرب السودان، كما أنه فرض عقوبات فردية علي شخصيات من الطرفين المتقاتلين.
تقاعس دولي
“الأوضاع في إقليم دارفور أسوأ بكثير من تلك الأوضاع الأمنية التي أدت إلى تدخل دولي بوصول قوات لحفظ السلام تحت الفصل السابع عرفت بـاليوناميد”. يقول الدبلوماسي المقلي، ويضيف: “للأسف الحرب في السودان أصبحت حربا منسية يدفع فاتورتها السودانيين لأكثر من عام”.
ويرى المقلي، أن المجتمع الدولي يولي أهمية خاصة لولاية شمال دارفور. دارفور تحتضن مئات الآلاف من النازحين القدامى والفارين من ولايات دارفور الأربعة الأخرى التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع خشية حدوث كارثة إنسانية في الولاية.
وفي 13 يونيو الماضي اعتمد مجلس الأمن الدولي قرارا يطالب بإنهاء حصار مدينة الفاشر عن طريق الدعم السريع وإنهاء القتال فيها وفي محيطها، وهو الأمر الذي لم تلتزم به هذه القوات التي ما زالت تحاصر المدينة منذ العاشر من مايو الماضي.
وبالحديث عن قرار مجلس الأمن المتعلق بدارفور، فإن المقلي يشير إلى أن القتال بين الجيش والدعم السريع، لم يقتصر على دارفور وحدها، بل شمل ولايات أخرى خاصة ولاية الجزيرة التي يُتهم فيها الدعم السريع بارتكاب انتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، كما أن الجيش يُتهم باستهداف المدنيين بالقصف العشوائي في عدد من المواقع.
ويتساءل الخبير الدبلوماسي حول أسباب تقاعس المجتمع الدولي تجاه الأزمة السودانية التي خلفت كارثة إنسانية وصفت بالأسوأ في العالم.
ويرى أن تزامن الحرب في السودان مع نزاعات أخرى خاصة الوضع في الشرق الأوسط وغزة وأزمة استهداف الحوثيين للسفن في البحر الأحمر وباب المندب والحرب الروسية الأوكرانية، شغلت المجتمع الدولي الأمر الذي قرر من اهتمامه بالحرب في السودان.
وحول ما إذا كان طرفا النزاع سيجلسان للتفاوض في العاشر من يوليو المقبل، يقول المقلي: “ليس هناك تأكيد لذلك”. لكنه يعتقد أن الجيش قد يوافق للعودة إلى المفاوضات خاصة مع تمدد الدعم السريع في ولاية سنار وتهديده شرق السودان.
حقوقيون: ليس هناك آليات دولية يمكنها إلزام طرفي القتال بالسماح بدخول المساعدات الدولية
وفقاً لمصادر حقوقية تحدثت لـ(عاين) ، ليس هناك آليات دولية يمكنها إلزام الطرفين بالسماح على الأقل بدخول المساعدات الإنسانية لتجنب خطر المجاعة الوشيك، عدا مجلس حقوق الإنسان الذي أنشأ لجنة لرصد انتهاكات الحرب، والذي سيقدم تقريرا شاملا سبتمبر المقبل.
إلا أن السفير المقلي يقول: “دون ريب، إذا استمرت الحالة الإنسانية في التراجع، واستمر طرفا القتال في الحرب، فسيكون لا مناص من تدخل دولي بالتنسيق مع الإيقاد والاتحاد الأفريقي عبر إرسال قوة (حفظ السلام) من عناصر من احتياطي شرق أفريقيا المرابطة في كينيا (الإيساف) أو عبر قرار من مجلس الأمن الدولي أو عن طريق تحالف دولي إقليمي في إطار ما يعرف بـ(مسؤولية الحماية) كما حدث في عدد من بؤر النزاع في العالم”.
تعقيد التفاوض
ويرى المحامي والقانوني، المهتم بالشأن العام، عبد الباسط الحاج، إن العجز الدولي تجاه حث الطرفين المتقاتلين على الجلوس لطاولة المفاوضات مرده إلى عدم قدرته على فعل ذلك.
وأشار إلى أن الجيش يرى في الحرب معركة لإثبات وجوده كجيش وطني يجب أن تكون له القوة العليا، بالمقابل فإن الدعم السريع يدير المعركة دون أي دوافع حقيقية راسخة في عقيدة مقاتليه، لافتا إلى سقوط ادعاءته بمجرد مهاجمته للمدنيين ونهبهم وقتلهم واغتصاب النساء والفتيات، حسب قوله.
ويقول الحاج لـ(عاين)، إن “تصريحات بعض قادة الدعم السريع كشفت عدم سيطرتهم الكاملة علي هذه القوات”. وأوضح أن ذلك يعني عدم وجود هدف واضح يقاتلون من أجله؛ مما يعقد مسألة التفاوض وتحديد أجندته.
وأشار عبد الباسط، إلى أن التفاوض بين الجيش والدعم السريع سيصبح أكثر تعقيدا إذا ما كان الدعم السريع يهدف إلى تدمير الجيش السوداني تماما. ولفت إلى أن تدمير الجيش سيكون كارثياً أكثر من الكارثة التي يعانيها الشعب السوداني حاليا.
ويرى الحاج، إن الخيارات المتاحة أمام المجتمع الدولي بشأن السودان معقدة جدا. وأشار إلى أن دعم بعض الدول ذات التأثير الدولي والإقليمي القوي لطرفي الحرب في السودان سيقود إلى تحدي أي قرارات يمكن أن يصدرها مجلس الأمن الدولي في الوقت الحاضر.
خيارات إقليمية محدودة
وبالنسبة للخيارات الإقليمية، يرى الحاج إنها محدودة وتنحصر في الدور الدبلوماسي والسياسي الذي يمكن أن يقوم به الاتحاد الأفريقي عبر المبعوث الخاص بالسودان، لافتا إلى استبعاد دور الإيقاد بعد موقف الحكومة السودانية في العام الماضي.
ورأى أن الحل العملي يتمثل في تجفيف منابع الدعم الحربي الذي يدخل إلى السودان، مما يتيح الفرصة إلى فتح منابر التفاوض.
مجلس حقوق الإنسان ..الآلية الوحيدة
من جهته يرى الأستاذ المشارك في القانون الدولي وعميد كلية الحقوق في جامعة الخرطوم والمدير المؤسس لمركز حقوق الإنسان التابع لها، محمد عبد السلام، إن آليات المجتمع الدولي فيما يتعلق بحرب السودان محدودة حاليا.
ولفت إلى عدم إمكانية إرسال بعثة سلام، دون أن يكون هناك عملية سلمية بين الطرفين المتحاربين.
كما أكد في حديث لـ(عاين) عدم حدوث أي تدخل دولي في السودان مع استمرار الحرب، فضلاً عن الأزمة المالية الحالية للأمم المتحدة.
وأوضح أن الآلية الوحيدة الآن هي آلية مجلس حقوق الإنسان الذي أنشأ اللجنة الدولية للتحقيق في الانتهاكات في السودان، والتي ستقدم تقريراً شاملاً في سبتمبر من هذا العام.
فيما رأى الباحث المختص بالسودان للمنظمة الدولية “هيومان رايتس ووتش”، محمد عثمان، بعدم وجود رغبة دولية واضحة للتدخل بشكل فعال فيما يخص الوضع في السودان.
وأضاف:” هناك عدم اهتمام دولي بالوضع الحالي، وهو يعبر عن استمرار لفشل المجتمع الدولي حتى في السنين التي سبقت الحرب في السودان”.
وتابع عثمان: “فشل المجتمع الدولي خلال الفترة الانتقالية، كما فشل بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، وأردف” حتى دعمه لـ”لاتفاق الإطاري” كان بهدف إعادة الشراكة بين المدنيين والعسكريين”.
ولفت في حديث لـ(عاين) إلى أن المجتمع الدولي لم يبد الاهتمام اللازم تجاه قضايا المحاسبة والعدالة أو القضايا الإنسانية. وأكد قائلا” كان ذلك أساس فشل المجتمع الدولي في السودان.
وشدد الباحث لدى المنظمة الدولية على ضرورة تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين؛ وأكد أن ذلك مطلب أساسي يجب العمل لأجله سواء من مجلس الأمن أو الاتحاد الأفريقي أو الإيغاد أو المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، للنقاش حول الآليات المتاحة لحماية المدنيين وتوفير مساحات آمنة لهم والضغط لإيصال المساعدات الإنسانية وتفعيل آليات المحاسبة تجاه كل الانتهاكات منذ بدء الحرب في السودان.