المخدرات.. قاتل آخر يجول وسط فوضى حرب السودان

 عاين- 22 نوفمبر 2025

وُجد الشاب عزالدين الهادي مشنوقًا داخل منزله في أحد حارات ضاحية الثورة بأم درمان. كان من الوافدين إلى المدينة بعد اندلاع الحرب، قبل أن تنتهي حياته في ظروف غامضة بين احتمالَي الانتحار والقتل.

الحي الذي عاش فيه عزالدين يُعرف محليًا بأنه “منطقة المخدرات والفساد”، وبؤرته الأساسية خاصةً في محيط محطة الوقود، حيث تنشط تجارة الممنوعات رغم الحملات الأمنية المتكررة. كما ذكر أحد أصدقائه لـ(عاين)، وأضاف: “تُنفذ حملات مشتركة كل فترة، لكن الحال لا يتغير. تجار المخدرات يمارسون تجارتهم بسهولة، كأنهم فوق القانون.”

قصة عزالدين ليست حادثة معزولة، بل تعكس تصاعد ظاهرة المخدرات في السودان بعد الحرب، وسط انهيار أمني واقتصادي ونفسي شامل.

من مدينة ود مدني، يتحدث أحد الشاب لـ(عاين) عن التغيرات التي طرأت على حياة الشباب بعد الحرب قائلاً:”كل شيء تغيّر. البطالة زادت بصورة مخيفة، والتعاطي أصبح منتشرا. هناك أنواع جديدة كيميائية مُصنعة دخلت البلاد مثل (الآيس)، وهي الأخطر.”

ويرى الشاب العشريني الذي فضل حجب هويته- أن العطالة والضغط النفسي هما أكثر الأسباب التي دفعت الشباب إلى هذا الطريق، مضيفًا أن “الطريق إلى التعاطي أصبح سهلاً، لكن الخروج منه شبه مستحيل”، في ظل غياب مؤسسات علاجية متخصصة أو دعم نفسي فعّال.

انفلات أمني وتواطؤ نظامي

 الحملات لا بد أن تكون مشتركة بصلاحيات كاملة؛ لأنه وللأسف عدد من القوات العسكرية متورطة في التهريب والترويج المخدرات

 نقيب شرطة

ضابط شرطة – فضّل عدم ذكر اسمه – يقرّ في مقابلة مع (عاين)، بأن انتشار المخدرات ارتفع بشكل حاد بعد الحرب، خصوصًا في مدن مثل الدامر، عطبرة، شمالي السودان وود مدني أواسط البلاد، والخرطوم العاصمة.

ويقول: “بعض المروجين جاؤوا من غرب أم درمان، واستقروا في الدامر، بعد الحرب، مستغلين هشاشة الأجهزة المحلية. مكتب مكافحة المخدرات هناك لا يتجاوز 20 فردًا، فصار البيع يتم علنًا في الأسواق.”

ويتابع: “العناصر النظامية نفسها تورطت في تجارة المخدرات”، موضحًا أن “أي شخص يرتدي الزي العسكري في القهاوي يمكن أن يكون جزءاً من الشبكة”. وأشار إلى أن الكميات الكبيرة تأتي عبر طرق التهريب من الدبة شمالي السودان والمثلث الحدودي مع مصر وليبيا وغرب السودان، بينما تدخل الحبوب المخدرة والمخدرات المُصنعة من دولة مجاورة.

ويقول ضابط الشرطة: “الانفلات الأمني هو السبب الرئيسي. الأجهزة تحتاج إلى صلاحيات كاملة وحملات مشتركة متواصلة، وإلا سيستمر النزيف.”

مبادرات تقاوم الصمت

رغم قتامة المشهد، بدأت بعض المبادرات المجتمعية في مواجهة الظاهرة. وفي نادي النصر بالدامر، نظمت منظمة إعلاميون من أجل الأطفال، الأسبوع الماضي، فعالية توعوية تضمنت مسرحًا وورشة عمل حول خطر المخدرات.

المتطوع بعدد من المبادرات في مدينة الدامر ، محجوب محمد يقول لـ(عاين):  “نحتاج إلى المزيد من التوعية والدعم النفسي. الوضع مأساوي لدرجة أن أطفالًا بعمر 12 و13 عامًا أصبحوا مدمنين. قابلت أحدهم وحاولنا مساعدته عبر أخصائي نفسي لكننا فشلنا بسبب نقص الموارد.”

ويضيف: “نخطط لحملات توعية متحركة في أماكن تجمع الشباب مثل المقاهي والنوادي والملاعب، لكننا بحاجة إلى دعم مادي وطبي ونفسي.”

جروح مفتوحة

 “لن يبدأ التعافي من سحب السموم، بل من استعادة الكرامة، ومن قرار وطني يقول: نريد أن نعيش.”

أخصائي نفسي

من جانبه، يشرح الأخصائي النفسي أحمد التلب لـ(عاين) كيف غيّرت الحرب البنية النفسية للمجتمع السوداني. ويقول:” “تأثير الحرب على الصحة النفسية عميق ومتعدد الأبعاد. القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة أصبحت أمراضًا يومية، خصوصًا وسط الشباب.”

ويحذر التلب من أن تفكك الأسرة بسبب النزوح جعل الشباب أكثر عرضة للإدمان، مشددًا على أهمية إيجاد دعم نفسي مجتمعي بديل في ظل غياب المراكز المتخصصة. ويتابع: “لا نحتاج مراكز فخمة، بل أشخاصًا يسمعون دون إدانة. الاستماع بداية العلاج.”

المخدرات واقتصاد الحرب

يربط الخبير الاقتصادي أحمد عبيد   بين انتشار تجارة المخدرات والانهيار الاقتصادي الذي أعقب الحرب. ويقول في مقابلة مع (عاين): “فقدان الوظائف، التضخم، وانهيار العملة قلّصت خيارات الدخل الرسمية، فزاد انخراط الأفراد في أنشطة التهريب؛ لأنها الأكثر ربحًا.” ويضيف: أن “تجارة المخدرات أصبحت جزءاً من اقتصاد الحرب”.

 ويتابع: “حين تُستخدم عائدات المخدرات في تمويل العمليات أو شراء الأسلحة، تتحول إلى عنصر فاعل في اقتصاد النزاع. هناك مؤشرات قوية على تورط مجموعات مسلحة وعناصر نظامية في شبكات التهريب.”

أموال المخدرات يتم تحويلها إلى ذهب عملات أجنبية في السوق الموازي

خبير اقتصادي

كما يشير الخبير إلى أن العائدات تُغسل عبر تجارة الذهب والعقارات، قائلاً: “يتم تحويل أموال المخدرات إلى ذهب، أو إلى عملات أجنبية في السوق الموازي. هذه الآلية تربط التهريب بالمضاربة في النقد الأجنبي والذهب، ما يشوه الاقتصاد الرسمي ويعمّق الفوضى.”

ويرى الخبير الاقتصادي أن الحلول الاقتصادية تبدأ بإعادة تنظيم سوق الذهب، وخلق فرص دخل مؤقتة للشباب في مناطق النزوح والتعدين، مع رقابة مدنية مشتركة لقطع الطريق أمام اقتصاد الظلّ.

الرد الرسمي: اعتراف بالخطر وتمويل محدود

في المقابل، تشير بيانات رسمية اطلعت عليها (عاين) إلى اعتراف حكومي واضح بتفاقم ظاهرة المخدرات بعد الحرب، واعتبارها “تهديدًا أمنيًا واجتماعيًا متزايدًا”.

ووفق وزارة الداخلية، تم ضبط كميات كبيرة في حملات مشتركة، مع التأكيد على أن المشكلة تحتاج إلى استجابة متعددة القطاعات.

تقول السلطات الحكومية في مناطق سيطرة الجيش إنها” تنفذ الاستراتيجية الوطنية للوقاية ومكافحة المخدرات (2024–2028) التي تتضمن برامج للوقاية والعلاج والردع والتعاون الدولي، وإن لجان التنفيذ قيد الإعداد”.

ووزعت مهام تنفيذ الإستراتيجية على وزارات الصحة والتعليم والشباب، الصحة للعلاج والتأهيل، والتعليم للتوعية ودمج المناهج، والشباب لخلق بدائل دخل وأنشطة توعوية.

لكن التقارير تشير إلى أن التمويل محدود، ولا توجد ميزانية وطنية معلنة لعلاج الإدمان، إذ تعتمد الجهود على منح دولية ومساهمات من WHO وUNODC.

كما تعترف الجهات الرسمية بتحديات “ضعف التنسيق وفعالية التنفيذ” رغم وجود الخطة.

وعن الاتهامات بتورط أفراد من القوات النظامية، تكتفي البيانات بالتأكيد على أن التحقيقات “تجري عند ظهور أدلة”، دون إقرار بمسؤولية مؤسسية.

أما عن ضعف الرقابة، فتشير الجهات الحكومية إلى “جهود لإصلاح القوانين وتعزيز قدرات الجمارك والشرطة”، وسط مطالب شعبية برفع الكفاءة وإعادة هيكلة الأجهزة.

وتدعو الحكومة الإعلام والمجتمع إلى دعم جهود التوعية، والتعاون مع الجهات الأمنية بالإبلاغ والمشاركة في الوقاية، وتقول: أن “القضية لا تحتمل التسييس”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *