“الاتجار بالبشر”.. أحدث انتهاكات الدعم السريع بحرب السودان

عاين– 6 نوفمبر 2025

تحت نيران كثيفة، خرج آدم أحمد من مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، بالتزامن مع الهجوم الأخير لقوات الدعم السريع الذي سيطرت بموجبه على قاعدة الجيش في المدينة، لكنه لم يفلح في النجاة، فاعتقله مسلحون من الدعم السريع في أحد مخارج المدينة، واقتادوه إلى جهة غير معلومة، وطلبوا منه دفع فدية مالية تقدر مبلغ مليوني جنيه سوداني، نحو 700 دولار أمريكي. مقابل الإفراج عنه.

ساعتها، لم يكن آدم – وهو اسم غير حقيقي للضحية، نخفيه نتيجة مخاطر على حياته – يملك ثمن شراء وجبة طعام، فقد ظل تحت حصار شديد داخل الفاشر طوال فترة الحرب، يعتمد في معاشه على المطابخ المجانية، وعلف الحيوانات مثل الأمباز، وهو منهك بالجوع والخوف، فسيطرت عليه الصدمة، عندما أبلغه مسلحو قوات السريع الذين اختطفوه أن حياته مرهونة بدفع المبلغ المطلوب.

لم يعد أمام، آدم، خيار سوى التواصل عبر المسلحين الخاطفين، مع تجار ومعارف، وتوسلهم لإرسال المبلغ المطلوب من أجل إنقاذ حياته، مع تعهد أن يرد إليهم الدين بمجرد خروجه، وقد حول له أحد التجار أموال الفدية، فأطلق سراحه، بعدما قضى 4 أيام قاسية في قبضة مسلحي قوات الدعم السريع، وذلك وفق ما رواه أحد أقاربه كان على تواصل معه لـ(عاين).

وشارك أحد أفراد عائلته مقطع فيديو مع (عاين) يظهر فيه آدم، وهو يناشد أصدقاءه ومعارفه لمساعدته بشكل عاجل، حتى يتمكن من سداد المبالغ التي استلمها من أحد التجار، وبما يعينه على مواصلة رحلة النزوح إلى منطقة طويلة، فهو ما يزال عالقاً في مناطق بمنتصف الطريق، وتبدو عليه علامات التعب، وعلى جسده ورأسه كدمات وجروح.

لم يكن آدم سوى واحد من مئات المواطنين تعرضوا إلى الاختطاف من قبل مسلحي قوات الدعم السريع أثناء محاولتهم الفرار من مدينة الفاشر، نحو المناطق الآمنة في محلية طويلة الخاضعة إلى سيطرة جيش حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، والمطالبة بدفع مبالغ مالية “فدية” نظير الإفراج عنهم، مما يكشف جانباً مأساوي آخر للانتهاكات التي تعرض لها المدنيون في عاصمة ولاية شمال دارفور.

اتجار بالبشر

بالتزامن مع ما يجري في الفاشر، انتشرت عمليات اختطاف واسعة للمدنيين وطلب فدية مالية، في إقليم كردفان خاصة ولايتي شمال وغرب كردفان التي تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة ومنها، وتحت مناخ فوضوي وواقع إنساني ومعيشي سيئ، يُنفق السكان في تلك المناطق مدخراتهم الشحيحة على المسلحين، في سبيل تحرير المخطوفين.

أصبحت عمليات الاختطاف المواطنون في محيط الفاشر بمثابة نشاط للاتجار بالبشر ووسيلة كسب مالي لمسلحي قوات الدعم السريع

 ناشط طوعي

وفي الفاشر التي شهدت عنفاً وانتهاكات مروعة بحق المدنيين، أصبحت عمليات الاختطاف للناجين بمثابة نشاط للاتجار بالبشر، ووسيلة لمسلحي قوات الدعم السريع لكسب الأموال، وفق ما قاله ناشط في العمل الطوعي من شمال دارفور لـ(عاين).

ويقول: “في كل صباح نستقبل مقاطع مصورة على هواتفنا لمواطنين اُخْتُطِفُوا بواسطة قوات الدعم السريع، وهم يستنجدون بالخيرين ومعارفهم لدفع الفدية المالية للمسلحين حتى يُفرج عنهم. لا يملك الفارون من الفاشر أي أموال أو مدخرات، فقد نفد كل ما بحوزتهم خلال فترة الحصار الطويلة، حتى ملابسهم تمزقت”.

وبحسب شهادات جمعها مراسل (عاين) فإن مسلحي قوات الدعم السريع احتجزوا الفارين من الفاشر بشكل عشوائي، ومن ثم يصورونهم وإرسال الفيديوهات إلى معارفهم وأقاربهم، ويعطونهم مهلة ساعات محدودة لإرسال المبالغ عبر التطبيق المصرفي “بنكك”، وإلا سيصفونهم، ويسارع المواطنون بفتح باب التبرعات لجمع الأموال، والتي تصل إلى 4 ملايين جنيه سوداني-نحو 1400 دولار – لكل مختطف في بعض الأحيان.

جنود من الدعم السريع في الفاشر- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

وأطلعت (عاين) على ثلاثة مقاطع فيديو تُظهر مواطنين مختطفين بواسطة مسلحي قوات الدعم السريع في محيط مدينة الفاشر، وهم تحت تهديد السلاح يتوسلون إلى أقاربهم ومعارفهم من أجل تحويل المبالغ التي يطلبها الخاطفون بشكل عاجل، حتى تنقذ حياتهم.

فيما روت متطوعة طبية، ظلت في الفاشر طوال الحرب، كيف تعرضت للتفتيش العاري والنهب والابتزاز من قبل قوات الدعم السريع أثناء محاولتها الوصول إلى مليط، وهي بلدة تبعد حوالي 60 كيلومترًا إلى الشمال. وقالت: “لم يكن بوسعنا التنقل إلا بسيارات قوات الدعم السريع، لأنها كانت في كل مكان، ولم تكن هناك سيارات أخرى”.

“كنا متجهين إلى مليط، وكنا قريبين جدًا لدرجة أننا استطعنا رؤية مآذن المساجد هناك، لكن السائق انعطف فجأةً. قادنا إلى غابة على جانب الطريق الرئيسي وأوقف السيارة”. تقول المتطوعة الطبية.

وتشير إلى إن جنديين من قوات الدعم السريع قاما بعد ذلك بتأسيس قمر صناعي “ستارلينك” وطالبا جميع الركاب بتحويل الأموال أو قتلهم”.

وقالت: “طلبوا منا الاتصال بأقاربنا لدفع الفدية، لكننا أوضحنا لهم أن هواتفنا سُرقت ولم نحفظ أي أرقام. لم يكترثوا”. وتابعت:” غضبوا، وأطلقوا النار علينا، وأخذوا الرجال جانبًا وهددوهم بالقتل. في النهاية، أعادونا إلى مليط ليلًا. وعاودوا تهديدنا مطالبين بالدفع. تمكنت من الوصول إلى شخص دفع لي، وفعل معظم الآخرين الشيء نفسه”.

وتابعت: ثلاثة شبان فقط لم يتمكنوا من الدفع. قُيّدوا واقتيدوا في سيارة تابعة لقوات الدعم السريع. لا أعرف ما حدث لهم.

أعداد كبيرة

يقول “عبد الله” وهو شاب من ولاية شمال دارفور يقيم خارج السودان حالياً لـ(عاين): إن” ثلاثة شباب من أقاربه تم احتجازهم بواسطة مقاتلي الدعم السريع أثناء محاولتهم الخروج من الفاشر صبيحة سقوطها، واضطر لدفع مبلغ 6 ملايين جنيه، حتى تمكنوا من تحريرهم، وذلك بعد ترجي ومفاوضات صعبة مع المجموعة التي اختطفتهم.

ويضيف: “حسب متابعتي، هناك أعداد كبيرة من المواطنين محتجزين لدى مسلحي قوات الدعم السريع، في انتظار دفع مبالغ مالية طائلة للإفراج عنهم. لقد أصبح اختطاف المواطنين، وطلب فدية تجارة رائجة لقوات الدعم السريع في الفاشر ومحيطها، مما زاد معاناة المدنيين الفارين من جحيم الحرب”.

رحلات نزوح من الفاشر إلى طويلة

وعاش سكان الفاشر تحت حصار قتال متواصل لأكثر من 16 شهراً، فرضته قوات الدعم السريع ضمن محاولاتها للسيطرة على المدينة التي تمثل آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور غربي السودان، مما خلف أوضاع إنسانية ومعيشية سيئة، وفي الفترة الأخيرة قبل سقوطها، نفدت معظم السلع الغذائية، وأصبح المواطنون يعتمدون في طعامهم على الأمباز وهو متبقي الفول السوداني بعد استخلاص الزيت.

ومنذ اندلاع الحرب الحالية، يصاحب اجتياح قوات الدعم السريع للمدن عمليات نهب واسعة للمحال التجارية والمنازل ومختلف الممتلكات الخاصة والعامة، لكن عندما سيطرت على الفاشر وجدت المدينة تكاد تكون خالية من أي شيء يُنهب بعدما جففتها أشهر من الحصار، وكان ذلك سبباً راجحاً دفع المسلحين إلى اختطاف المواطنين الفارين وطلب فدية مالية، وفق ناشط طوعي من شمال دارفور تحدث لـ(عاين).

ويبرر ضابط في قوات الدعم السريع طلب عدم الكشف عن اسمه سلوك قواته، ويقول في حديث مقتضب لـ(عاين): إن “غالبية قواتهم لا يتقاضون راتباً شهرياً، ويتوقع منهم (الكسب من ساحة المعركة)”. وتأكدت (عاين) من هذا التصريح من مصادر أخرى مقربة من قيادة قوات الدعم السريع.

اختطف مسلحو قوات الدعم السريع أكثر من 12 شخصاً خلال شهر واحد في محلية أبوزبد بغرب كردفان خلال شهر واحد، وأُفْرِج عنهم بموجب فدية مالية

 مصدر محلي

الواقع ذاته، تعيشه ولايتا شمال وغرب كردفان، حيث تقلصت عمليات نهب الممتلكات من قبل مسلحي قوات الدعم السريع، مع تدهور الوضع الإنساني والمعيشي للسكان وشح المواد الغذائية، وفي مقابل ذلك ازدادت ظواهر اختطاف المواطنين وطلب فدية مالية من أجل الإفراج عنهم، وبحسب مصدر محلي تحدث مع (عاين) فقد تم اختطاف أكثر من 12 شخصاً من محيط مدينة أبو زبد بولاية غرب كردفان خلال شهر واحد مضى.

رواية مُختطف

حسن محمد، اسم مستعار لشاب تعرض للاختطاف مؤخراً في ولاية غرب كردفان، يقول لـ(عاين): أن “سيارة قتالية على متنها عدد من المسلحين يرتدون الزي العسكري لقوات الدعم السريع، اقتادته من منزله، وأبلغه المسلحون في بادي الأمر أنهم سيأخذونه إلى مركز الشرطة؛ لأن هناك بلاغاً جنائياً في مواجهته، ولم يراوده الشك مطلقاً أن هذه المجوعة بصدد اختطافه”.

لكن بمجرد خروجهم من البلدة، وضع المسلحون غطاء على وجهه، وبعد قطع مسافة تزيد عن ساعتين بدأ يشعر بالخوف، لأن مركز الشرطة أقرب من ذلك بكثير، ولا يتجاوز الوصول إليه نصف ساعة، فبادر إلى سؤالهم، إلى أين نحن ذاهبون؟ لحظتها هدده المسلحون، وطالبوه بدفع مبلغ مالي حال أراد العودة إلى منزله مجدداً، وفق حديثه.

يقول حسن: “قلت لهم إنني لا أملك أي مال، أمروني بفتح التطبيق المصرفي بنكك، لكنهم وجدوه خالياً من أي أموال، بعدها طلبوا مني التواصل مع أسرتي ومعارفي لتحويل مبلغ 6 ملايين جنيه، وإلا سأظل معهم، وسيقتلونني إذا لم أدفع لهم. ظللت بحوزتهم لمدة يومين بلا طعام، وبعد مفاوضات شاقة تمكن أقاربي من تحويل مبلغ مليوني جنيه، وبعدها رموني في أحد أطراف المدينة، وتمكنت من العودة إلى أسرتي بعد أيام صعبة”.

وتستهدف هذه المجموعات، أصحاب المحال التجارية والأشخاص الذين يتحركون للعمل في الأسواق الأسبوعية في إقليم كردفان، مما أحدث شللاً في هذه الأسواق التي تُعرف محلياً بـ”أسواق أم دورور”.

في الأسبوع قبل الماضي، تم اختطاف 5 شبان من أحد القرى المحيطة بمحلية أبو زبد الخاضعة إلى سيطرة قوات الدعم السريع، أثناء عودتهم من أحد الأسواق وهم على متن درجات نارية “تكتوك” محملة بالبضائع والسلع الغذائية، لكن تم الإفراج بعد مرور 6 أيام في الاحتجاز، وذلك عقب مشاورات قادها رجال الإدارة الأهلية، وفق ما نقله فرد من عائلاتهم لـ(عاين).

وفي ذات المنطقة، تم اختطاف أحد أصحاب المحال التجارية بواسطة مسلحين، وأُفْرِج عنه بعد أسبوع من احتجازه عقب دفع فدية طائلة تجاوزت مبلغ 30 مليون جنيه، بحسب مقرب منه تحدث لـ(عاين).

سلوك ممنهج

ويقول الخبير العسكري عمر أرباب لـ(عاين): إن “ظاهرة اختطاف المدنيين وطلب فدية ليست جديدة، فقد كانت حاضرة في كل المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع طوال فترة الحرب، وأتت تباعاً مع عمليات النهب الواسعة، فهذا السلوك لا يمكن تغييره في القريب، فسيطرت قوات الدعم السريع على أفرادها ضعيفة، ولا تستطيع تغيير هذا المنهج”.

 ويشير إلى أن هذه الممارسات تؤثر سلباً على الدعوات التي أطلقتها قيادة قوات الدعم السريع إلى المواطنين للعودة إلى منازلهم في الفاشر وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها، فالمواطن الذي خرج بفدية طائلة لا يمكنه العودة مجدداَ.

وتابع: “لا أعتقد أن تزايد عمليات الاختطاف له علاقة بعدم صرف مسلحي الدعم السريع رواتبهم منذ فترات طويلة، بقدر ما هو سلوك ممنهج تتبعه هذه القوات منذ اندلاع الحرب الحالية ويصعب تغييره، إضافة إلى ذلك فإن العائد من الفدية لا يقارن بالمرتب أياً كان”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *