نيالا .. الخوف يَلُفُّ المدينة

عاين- 15 أكتوبر 2025

بعد مضي أكثر من شهر على إعلان تحالف السودان التأسيسي، حكومة في نيالا بولاية جنوب دارفور، لتكون موازية إلى تلك التي يقودها الجيش من بورتسودان، لم تشعر السيدة فاطمة بأي تغيير في الأوضاع الأمنية، فما تزال المدينة تعيش حالة من الفوضى، وعمليات نهب وابتزاز واعتداءات واسعة على المدنيين، يمارسها مسلحو قوات الدعم السريع المنتشرين بكثافة فيها.

 ووفق فاطمة وهو اسم مستعار لسيدة من نيالا تحدثت مع (عاين)، فإن الوضع الأمني في المدينة بذات الخطورة والتدهور الذي ظل عليه، على مدى عامين أعقبت سيطرة قوات الدعم السريع عليها، إذ فرضت قيود على حركة المواطنين والتجسس عليهم في مراكز خدمة الإنترنت الفضائي، أستار لنك وابتزازهم بذريعة التخابر مع الجيش، وتغريمهم أموال طائلة.

من أراد العمل في أسواق نيالا يجب أن يدفع رسوم حماية إلى مسلحي قوات الدعم السريع المنتشرين؛ لأن الحاكمية لهم، ولا وجود لسلطة أو حكومة على الأرض

مواطنة في نيالا

وعلى من يرغب في العمل بأسواق المدينة عليه دفع مبالغ مالية إلى مسلحي قوات الدعم السريع، تحت مسمى “رسوم حماية”، فالحاكمية في نيالا إلى المسلحين ولا وجود أثر لسلطة أو حكومة على الأرض، حسب شهادة فاطمة.

وفي 30 سبتمبر الماضي، أدى أعضاء حكومة تحالف تأسيس التي تتكون من مجلس رئاسي من 15 عضواً برئاسة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، ورئيس الحركة الشعبية – شمال عبد العزيز الحلو، نائباً له، بجانب تعيين حكام للأقاليم، وحكومة تنفيذية برئاسة محمد الحسن التعايشي، واتخذت من نيالا عاصمة لها.

ومنذ ذلك الحين، تبث منصات رقمية تابعة إلى تحالف السودان التأسيسي صورا تظهر أعمال طلاء وتلوين لبعض المعالم والطرق في نيالا، مع إضاءة بعض الطرقات العامة في المدينة، التي اعتبروها عاصمة مثالية للسلطة الجديدة.

سلطات مطلقة

لكن السيدة فاطمة التي ظلت عالقة في نيالا منذ اندلاع الحرب، لم تجد ما يضمن لها الحياة والعيش بسلام في هذه المدينة، فتحت الطلاء والتلوين الذي شهدته عاصمة ولاية جنوب دارفور بالتزامن مع احتفالات تشكيل حكومة تأسيس، تنتهك حريتها، وتُنهب ممتلكاتها الخاصة، وفق ما ترويه بحسرة لـ(عاين).

وتقول: “مسلحو قوات الدعم السريع منتشرون في مدينة نيالا، يمارسون سلطة مطلقة على المدنيين، إذ يمكن لأيٍّ منهم أن يوقف المارة، يفتش هواتفهم، أو يفرض غرامات مالية بلا مبرر. في مراكز الإنترنت الفضائي، يُتهم المواطنون بالتعاون مع الجيش من قبل أي شخص مسلح وتصادر هواتفهم، ثم تفرض عليهم غرامة مالية، قد تصل إلى مليون جنيه وتزيد، فهناك عدم إحساس بالأمان في الشوارع وداخل المنازل التي قد تُقْتَحَم”.

ويقابل هذا الوقع الأمني المتدهور، ظروف معيشية قاسية يعيشها معظم السكان العالقين في نيالا، في ظل قلة فرص العمل وصعوبة الوصول إلى الأسواق، مما جعل حياة الكثير منهم تتوقف على مساعدات نقدية يتلقونها من أقاربهم في الخارج، وفق فاطمة.

سوق شعبي في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع

ويعد أصحاب المحال التجارية وصيدليات الأدوية البشرية في نيالا، الأكثر تعرضاً للابتزاز والنهب في المدينة. يقول عادل وهو اسم مستعار لطبيب صيدلاني في نيالا لـ(عاين): “نواجه الخطر بشكل يومي، ونشهد حوادث مؤلمة. خلال الفترة الماضية، سُرقت ونُهب صيدلية أحد زملائي بالكامل، حتى الأدوية المنتهية الصلاحية لم يتركوها”.

ويشير إلى أن المسلحين يطالبون بمبالغ إضافية على الأدوية القادمة إلى نيالا من جنوب السودان ودول أخرى، رغم دفع أصحاب الصيدليات رسوم تخليص رسمية إلى قوات الدعم السريع تبلغ مليونين ونصف عن كل كرتونة، حيث يحتجز المسلحون الأدوية، ومنع أصحابها من بيعها إلا بعد دفع تسوية مالية، وهذه واحدة من أشكال الابتزاز صارت مألوفة في المدينة.

نتيجة لذلك، حسب عادل، قلّص معظم أصحاب الصيدليات ساعات عملهم لتغلق الأبواب عند الخامسة مساءً، خوفاً من الاستهداف ليلاً، لكن المرضى لا يتوقفون عن القدوم طلباً للعلاج، ما يجعل الصيادلة في مواجهة مباشرة مع الخطر، مضيفاً أن السكان تأقلموا مع العنف، وصار حمل السلاح وسيلة للدفاع عن النفس، حتى أثناء البحث عن الدواء.

يتم الزج بالمواطنين والصحفيين في السجون وإخفائهم قسرياً في نيالا حال شاركوا منشورات مغايرة للدعاية الحربية لقوات الدعم السريع

 صحفية في نيالا

وراء ملامح حياة يومية حافلة بالانتهاكات في نيالا، تختبئ حكايات أكثر قسوة، تمثلت في الزج بالمواطنين والصحفيين في السجون وإخفائهم قسرياً وتغريمهم مبالغ مالية، نتيجة كتابتهم أو مشاركتهم منشورات على حساباتهم الشخصية بوسائل التواصل الاجتماعي، مغايرة للدعاية الحربية لقوات الدعم السريع، لتجسد حالة من الكبت تروي تفاصيلها أحد الصحفيات من المدينة لـ(عاين).

اضطرت هذه الصحفية التي نحجب اسمها نسبة للمخاطر الأمنية، إلى التخلي عن الصحافة تماماً، ولجأت إلى عمل آخر لتلبية احتياجاتها المعيشية، لأن ما تشهده مدينة نيالا اليوم لا يسمح بوجود صحافة حرة أو رأي مستقل، فكل صوت خارج المألوف قد يُسكت بالقوة، حسب وصفها.

وتقول: “مهنة الصحافة أصبحت شبه مستحيلة في ظل الأوضاع الراهنة التي تسيطر فيها مشاعر الخوف وانعدام الأمان على حياة السكان. وتوضح أن ممارسة الصحافة في المدينة باتت مغامرة خطيرة. لم يعد بالإمكان ممارسة الصحافة في ظل غياب الحرية، إذا كتبت اليوم قد تُعتقل غداً، لذلك صرت أعمل في شيء دونها، ولم أعد أفكر إلا في تأمين لقمة العيش”.

وتشير إلى أن الخطر لا يقتصر على الشوارع العامة، بل يمتد إلى داخل البيوت.

اختطاف وابتزاز

من جهته، يقول حسن، وهو ناشط وعضو سابق في لجان مقاومة نيالا، إن المدينة شهدت تحولات مأساوية بدأت بمعركة 15 أبريل 2023 التي غيّرت كل شيء، تلتها موجات نزوح جماعية، ثم أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على المدينة في أكتوبر من العام نفسه، لتبدأ مرحلة جديدة من العنف ضد المدنيين. ويضيف: “منذ ذلك الوقت، عاشت نيالا أسوأ فترات انعدام الأمان والإرهاب، ولم تعد حياة الناس آمنة لا في بيوتهم ولا في الأسواق”.

ويشير حسن الذي تحدث مع (عاين) إلى أن الانهيار لم يقتصر على الجانب الأمني، بل امتد ليشمل الخدمات الأساسية التي انهارت تماماً. فبعض المستشفيات أُغلقت أو تعمل بإمكانات محدودة، والمياه شحيحة.

ويضيف: “رغم إعلان حالة الطوارئ من قبل إدارة الدعم السريع في عام 2024، فإن الأوضاع لم تتحسن. لا تزال حوادث النهب والاختطاف تقع بشكل شبه يومي، مستهدفةً التجار والأطباء والعاملين في المنظمات الإنسانية، حيث اختطف الطبيب فاروق عبد الله من داخل منزله في سبتمبر من العام الماضي، وطُلبت فدية مالية لإطلاق سراحه”.

الأمان في نيالا متوفر فقط لمن لديهم صلات عرقية أو علاقات مع مراكز النفوذ في قوات الدعم السريع، ومن دونهم عرضة لكل أنواع الانتهاكات

 ناشط مدني

ويؤكد أن مشهد العنف ازداد حدة مع مطلع عام 2025، إذ تصاعدت عمليات القتل والنهب، فيما زاد القصف الجوي للجيش السوداني على المدينة من معاناة السكان حتى فبراير الماضي.

أما الأمان الشخصي، كما يقول حسن، فقد أصبح امتيازاً مرتبطاً بالانتماء العرقي أو القرب من مراكز النفوذ داخل الدعم السريع. في نيالا، أو على صلة بنافذ في السلطة، يمكن أن تفقد كل شيء في لحظة – حسب وصفه.

أوضاع تتحسن

لكن آدم صالح العيادي، وهو إعلامي وناشط على وسائل التواصل الاجتماعي في نيالا، يقدم رواية مغايرة تماماً لما يجري في المدينة، إذ يؤكد أن الأوضاع الأمنية شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية. ويقول لـ(عاين): “الأوضاع في نيالا أمن وأمان، خاصة بعد تكوين حملة الظواهر السالبة في شهر يوليو الماضي وتشكيل الحكومة”.

ويضيف: أن “الحركة اليومية أصبحت أكثر سلاسة، إذ يمكن للمواطنين استخدام المواصلات حتى وقت متأخر من الليل”. موضحاً: “لا توجد أي حوادث تُذكر سوى حوادث حركة بسيطة، أما النهب والخطف، فقد اختفى نهائيا. الوضع مستقر في جميع أنحاء الولاية، وأنا شخصياً قمت بجولة شملت معظم المناطق، ولم أرَ أي مظاهر نهب أو خطف، في كل أنحاء جنوب دارفور، وليس نيالا فقط، ومن يدّعي غير ذلك لديه أغراض أخرى”.

ويرى آدم، أن الحريات الإعلامية متاحة داخل المدينة، وأن البيئة باتت مشجعة للعمل الإعلامي والتطوعي على حد سواء، قائلاً “أنا كإعلامي أتمتع بحرية كاملة، يمكنني التصوير في أي مكان ورفع المواد في الإعلام، دون أن يعترضني أحد، والمواطنون أنفسهم أصبحوا يعتمدون على الصفحات المحلية لمتابعة الأخبار”.

ويشير إلى أن المجتمع المحلي أصبح أكثر نشاطاً في مبادرات تهدف لتعزيز التعايش السلمي ونبذ العنصرية وتحسين البيئة، مؤكداً أن الأجهزة النظامية استعادت دورها في حفظ الأمن، وأن الشرطة تعمل وفرضت الأمن داخلياً، وتعمل الآن على حل أي مشكلة تواجه المواطنين.

بينما تتباين الروايات حول حقيقة الأوضاع في نيالا بين من يرى استقراراً نسبياً، ومن يؤكد استمرار الخطر والفوضى، يبقى المشهد العام معقداً ومفتوحاً على احتمالات متعددة. فالحياة اليومية في المدينة، كما تعكسها شهادات سكانها، تتأرجح بين مظاهر التحسّن المحدود ومحاولات التكيّف مع واقعٍ أمني هشّ واقتصادٍ منهك. ومع غياب مؤسسات الدولة واستمرار السيطرة العسكرية، يظل سؤال الأمان والعدالة مؤجلاً، بانتظار ما ستؤول إليه تطورات الحرب في السودان.

 

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *